السينما الملحمية تفتقد المخرج العالمي محمد الأخضر حمينة

الجزائر – فقدت السينما الملحمية واحدا من أبرز نجومها الذين وظفوا الصورة السينمائية في تسويق مظاهر القمع والاستبداد الاستعماري للعالم، وسمح لجمهور الشاشة الكبيرة والمختصين بالاطلاع على واقع العالم الثالث الطامح والطامع في طي صفحات الفقر والتخلف، عبر نضالات مستمرة جسدها الجزائريون على مر عقود القرنين التاسع عشر والعشرين، في مقاومة شاملة ضد الاستعمار والفقر والتخلف.
وبرحيل المخرج والمنتج السينمائي محمد الأخضر حمينة، (95 عاما)، تفقد السينما الجزائرية، التي برعت في الأعمال الثورية والملحمية، قامة شامخة حولت كاميرتها من آلة إنتاج إلى سلاح ناعم، سوق الصورة الحقيقية التي انبثقت منها الجزائر المستقلة بزخمها وتناقضاتها.
رغم إطلاق اسمه على المعهد العالي للتكوين السينمائي بالعاصمة، إلا أن ثقافة الجحود تبقى مصير كل شخصية فكرية أو ثقافية أو فنية، انزاحت عن الخط المحدد، فقد لف الصمت والتهميش فقيد السينما الجزائرية في سنواته الأخيرة، حيث ابتعدت عنه الأضواء تماما، وهو الذي سلطها بقوة على مظاهر البؤس والمعاناة على الجزائر الثائرة ضد المستعمر، ولما أعلن خبر الوفاة انهالت برقيات التعزية والحضور الرسمي على جنازة الراحل.
مسيرة المخرج الأخضر حمينة، حفلت بالأعمال السينمائية الشاهدة على صفحة مشرقة من مسار الشاشة الكبيرة في الجزائر والعالم العربي وأفريقيا
وحفلت مسيرة المخرج الأخضر حمينة، بالأعمال السينمائية الشاهدة على صفحة مشرقة من مسار الشاشة الكبيرة في الجزائر والعالم العربي وأفريقيا، فهو المخرج الوحيد إلى حد الآن الذي رصع صدر السينما الجزائرية والعربية بجائزة السعفة الذهبية منذ خمسة عقود، عن فيلمه “وقائع سنين الجمر”.
ولد المخرج الراحل بمدينة المسيلة (جنوبي العاصمة بنحو 300 كلم)، وأبدى منذ طفولته شغفا كبيرا بالصورة والفوتوغرافيا، حيث تلقى تعليمه العام في الجزائر قبل أن يكمله في فرنسا، وينتقل العام 1958 إلى العاصمة التونسية ليتلقى تكوينا هناك، قبل أن ينضم إلى المجموعة الفنية لجبهة التحرير الوطني، ويبدأ تصوير أولى أفلامه في صفوف الثورة.
وفي العام الموالي، تم إرساله من طرف جبهة التحرير الوطني إلى تشيكوسلوفاكيا لمواصلة دراسته في السينما بمدينة براغ، حيث تخصص في فن التصوير، وكان يعود بانتظام إلى تونس لتصوير أفلام عديدة، لاسيما مع جمال شندرلي (1920 – 1990)، ومنها “ياسمينة” و”صوت الشعب” و”بنادق الحرية”.
وبعد الاستقلال، جمع زملاءه القدامى من تونس لوضع أسس أول مؤسسة سينمائية في الجزائر المستقلة، والتي كانت تعرف بالديوان الجزائري للأخبار، الذي تولى إدارته من 1963 إلى 1974.
وفي عام 1965، قام بإخراج أول فيلم طويل له بعنوان “ريح الأوراس”، بمشاركة الفنانة الكبيرة كلثوم (عائشة عجوري 1916 – 2010)، التي أدت ببراعة دور أم يائسة تجوب السجون ومعسكرات الاعتقال التابعة للجيش الاستعماري الفرنسي، بحثا عن ابنها (لخضر) الذي اختطفته الشرطة الاستعمارية.
وفاز فيلم “ريح الأوراس” بالجائزة الأولى لأفضل عمل في مهرجان “كان” السينمائي سنة 1967، مسجلا بذلك حضور السينما الجزائرية لأول مرة على الساحة الدولية.
وفي عام 1968، أخرج فيلم “حسان طيرو” الذي قام بدور البطولة فيه الراحل رويشد (أحمد عياد 1921 – 1999)، وهو ثاني فيلم روائي طويل فتح له باب الشهرة في الجزائر، ليعود سنة 1972 بفيلم “ديسمبر” الذي ندد من خلاله بفظاعة وبشاعة التعذيب الذي اعتمده الجيش الاستعماري الفرنسي في الجزائر.
المخرج الوحيد إلى حد الآن الذي رصع صدر السينما الجزائرية والعربية بجائزة السعفة الذهبية منذ خمسة عقود، عن فيلمه "وقائع سنين الجمر"
وفي 1974، أخرج محمد الأخضر حمينة فيلم “وقائع سنين الجمر”، وهو لوحة تاريخية مقسمة إلى ستة مشاهد من حركات المقاومة الأولى إلى ثورة نوفمبر 1954. والتي توجت بالسعفة الذهبية في مهرجان “كان”، ليبقى إنجازا جزائريا وعربيا وأفريقيا وحيدا في المجال السينمائي إلى غاية الآن.
وفي تلك الرائعة ظهر الأخضر حمينة متقمصا شخصية ميلود، الحكواتي الصادق والصادح بالحق، رغم أنه يعاني من تجاهل وتنكر الآخرين له بسبب إصابته بالجنون، لكنه كان يحمل في أعماقه رجاحة العاقل الرزين الذي يقوى على استشراف المستقبل.
خلال شغله لمنصب مدير الديوان الوطني للسينما والصناعة السينماتوغرافية 1981 – 1984، أخرج فيلمي “رياح رملية” و”الصور الأخيرة”، وفي 2014 أخرج الفقيد “غروب الظلال” وهو آخر أفلامه الروائية الطويلة، إلى جانب إنتاجه عدة أفلام، من بينها الفيلم الشهير “زاد” سنة 1969 للمخرج كوستا غافراس.
وظل الفقيد طيلة مسيرته الفنية والإبداعية يؤدي دور الجسر الثقافي والفني بين الجنوب والغرب، فأصبح بذلك صوت العالم الثالث وصوت بلده، زهاء أربعة عقود كاملة، كرسها لتسويق صورة ذلك العالم المنهك بصنوف الفقر والتخلف، والحالم بالمرور إلى ضفة التحرر والتقدم.
وفي رسالة تعزية، أبدى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون “بالغ الحزن والأسى، لرحيل عملاق السينما العالمية، الذي ترك بصمة خالدة في تاريخ السينما، وأن رائعة ‘وقائع سنين الجمر’ فتحت عيون العالم عن قطعة من معاناة الشعب الجزائري خلال فترة الاستعمار.”
وأضاف “قبل أن يكون مخرجا عالميا مبدعا ترك بصمة خالدة في تاريخ السينما العالمية، كان مجاهدا أبيا، ساهم في تحرير بلاده بما نقل من صور ومشاهد عرّفت البشرية ببطولات الثورة التحريرية المظفرة.”
وشهدت الطبعة الأخيرة لمهرجان كان، لفتة تكريمية لحمينة، من خلال عرض نسخة 4 كاي من فيلم “وقائع سنوات الجمر” ضمن برنامج فئة “كان كلاسيك”، وهو ما يشكل اعترافا بقدرة وكفاءة الرجل على تطويع الكاميرا السينمائية، لتسويق صور إنسانية تئن تحت الاستعمار والتخلف، وإرادة قوية من أجل الحرية.