إطلالة على عالم ربان قاد "العرب" وسط التحديات

الدكتور هيثم الزبيدي، رحمه الله، كان يردد أن أصدقاءه ينوّهون بفريق المحررين الذي رافقه لسنوات، معتبرين أنهم من خيرة الصحافيين. لا بد أنه كان يجيبهم بفخر قائلاً “إنهم أبنائي، إخواني، وتلامذتي وزملائي، وأنا منبهرٌ بهم وبقدراتهم، وأتطلعُ بشوق لرؤية ما سيفعلونه الشهر القادم والعام المقبل.”
لن أقضي أيام الأسبوع معهم في بيتي الثاني، “العرب”، ولن أبقى نشيطًا على وسائل التواصل معهم بعد الآن، لكن سأكون فرحًا وأنا أقرأ تقريرًا حرّرته رويدة، أو صابرة، أو راضية، وسأقول لخالد “هذا التقرير سيأخذه رياض للاقتصاد.” وبالتأكيد سأطلب من عبداللطيف عمود “صباح العرب”، ثم أعود إلى حلمي قائلاً “ممكن تمرر لي الرابط؟” ولأقول لمحمد ناصر “انتظر مني إشعارًا،” وسيحاول سي زهير معالجة الأمر.
لماذا أكتب عن الدكتور هيثم الزبيدي؟ هل لأنه فتح لي مجالًا في الصحيفة وموقع “ميدل إيست أونلاين”، فأصبحت ضمن الفريق الذي قاده لسنوات طويلة؟ هل لأنه احتضنني وقال لي في أول لقاء جمعني به، ذات يوم من شهر أغسطس، في رمضان بالرباط “الجريدة ليست ورقًا فحسب، بل دمٌ وعرقٌ ومجهود يُبذل، وقد تخرج منها صحافيون كبار.”
◄ التقيت هيثم الزبيدي في موسم أصيلة مرات عديدة، كلما حل ضيفًا أو مشاركًا في ندواته. بعد عام كورونا، ورغم أن المرض اشتد به، لم يتوانَ عن الحضور، لأنه كان يريد مشاركة أفكاره وتجاربه وآماله
أكتب عنه لأنه نموذج للرئيس الذي يتخذ قرارات تراعي الجانب المهني والإنساني، ولأنه أثّر في حياتي وحياة الآخرين بطريقة لا يمكنني تجاهلها، ولأنني أرغب في نقل جزءٍ من رسالته كما فهمتها؛ قد تلهم الكثيرين: القيادة بقوة وضبط للنفس.
كيف تعتقد أن هيثم الزبيدي بنى عالمه في الصحافة والإعلام؟ وكيف تردّ عندما تسمع أنه صارع المرض كما صارع تحديات العمل والحياة دفعة واحدة؟ لم يتراجع ولم يتخاذل، عرف طريقه وحدد هدفه، ثم شمّر عن ساعديه وتوكل، فاستطاع خلال فترة وجيزة أن يُحدث فرقًا.
المرض شرس، لكن “أخي” هيثم – كما عوّدت نفسي أن أناديه – غامر بما تبقى من صحته كي لا تفوته أيّ دقيقة والصمود حتى يصل إلى أبعد نقطة ممكنة، ليس أمام المرض فقط، بل أمام أيّ انتكاسة.
في لقائي الأول معه بالرباط، تحدث معي عن الثقافة، السياسة، والاقتصاد، وركز على الزراعة في العراق والمغرب، وكيف استطاع الشعبان، رغم بُعد المسافة، أن يخلقا من التراب قيمةً وحضارة لا تزال قائمة حتى الآن. وقال لي “الصحراء في كلا البلدين رمزٌ للتحدي، فرجاء ركّز لنا على ملف الصحراء في تقاريرك.”
كان لقاء تعارف وفسحة جعلتني أقول في نفسي “شخصية مثل هذه لا تعرف الانسحاب.”
ونحن نستعد للانطلاق، هو إلى الدار البيضاء رفقة الأستاذ خيرالله خيرالله، وأنا في اتجاه مدينتي، قلت له “أشعر أنني مستعد للمضي قدمًا، ومتحمس جدًا لهذا الفصل من حياتي.” والآن، وهو بين يدي الله، فأنا فخور بكل ما أنجز، ومستعد للاستمرار.
ويا للمصادفة الغريبة، أن يكون شهر وفاته، رحمه الله، هو نفس شهر لقائي الثاني معه في مايو 2015. قبل عقدٍ من الزمن، التقيت به للمرة الثانية في طانطان، كان فرحًا مستبشرًا، رغم حزنه على رحيل صديق مقرّب منه. بإنسانيته، أعاد سؤاله عن حالتي النفسية بعد فقدان والدتي، التي كانت قد توفّيت قبل شهرين بالمرض الخبيث. ثم قال لي بعد الغداء “سوف أمدك بأعداد من الصحيفة التي تتضمن بعض مقالاتك.” لم أكن قد طلبت منه ذلك بعد، لكن لطفه وعنايته سبقا طلبي.
في عام 2014، تواصل معي وقال لي “استعد، سوف تذهب إلى طانطان لمواكبة الموسم بالقلم والصورة.” كان رحمه الله يتواصل ويتحدث عن العمل، ويقدم النصائح ويحدد المطلوب.
في الموسم الثاني، التقينا أنا والدكتور هيثم بالمربوع بن عبدالله بن ناجي المنهالي، أحد كبار المهتمين بالإبل في دولة الإمارات. كان لقاءً بين الصحافة والتاريخ والحكمة والتجربة الحياتية. رأى المنهالي ناقة يقودها صاحبها، فراح يعدد مزايا الإبل، قائلاً “الإبل يا سيدي تطيع صاحبها وتستجيب له فورًا عند سماعها صوته المميز يناديها، حتى لو كانت تشرب الماء وهي عطشى، أو ترعى في مكانٍ خصب، ترد على صاحبها وتأتيه على الفور.” صمت برهة ثم قال بأسى “وهذا ما لا تجده في الكثير من بني جلدتك.”
◄ الدكتور هيثم نموذج للرئيس الذي يتخذ قرارات تراعي الجانب المهني والإنساني، أثّر في حياتي وحياة الآخرين بطريقة لا يمكنني تجاهلها
التفت إليّ الدكتور هيثم وقال “المنهالي، كبلده الإمارات، بدأوا من الصفر، تعبوا واستثمروا في كل المجالات، بكل شيء؛ بالمال، بالصحة، وبالوقت. وها أنت ترى النتيجة.” فسألت المنهالي “ما الذي أتى بك من صحراء أبوظبي إلى صحراء طانطان؟” فأجابني: “الهواية، يا صاحبي.”
بخفة دمه وحسه الصحفي، علق هيثم “أليس هذا بروفايل يستحق الكتابة عنه؟ وينطبق عليّ أيضًا، فقد دخلت عالم الصحافة هوايةً، ثم تعلقت بها بكل جوارحي. رؤيتي لأحد الأهداف وقد تحقق، تجعلني مؤمنًا بأنني أحدثت تأثيرًا حقيقيًا على الصحيفة وفي المحيطين بي.”
التقيت هيثم الزبيدي في موسم أصيلة مرات عديدة، كلما حل ضيفًا أو مشاركًا في ندواته. بعد عام كورونا، ورغم أن المرض اشتد به، لم يتوانَ عن الحضور، لأنه كان يريد مشاركة أفكاره وتجاربه وآماله. فهو لم يكن بخيلًا بعلمه ولا بعواطفه، ولا بماله. بدا في آخر لقاءٍ لي معه منهكًا، لكنه لم يسمح للضعف بأن ينال منه.
أسمعه الآن يقول “لا تسيئوا فهمي، كان منصبي كرئيس تحرير أمرًا مُرهقًا، ليس فقط بسبب دورة الأخبار التي لا تنتهي، لكن كانت مسؤوليتي كبيرة تجاه عائلة ‘العرب‘.. رغم المرض الذي يفتت العظم واللحم والعصب، لم أتوقف عن المضي قدمًا حتى النهاية. كنت مُرهقًا، ولكنّني لست من الذين ينسحبون بسهولة، مهما كان حجم العمل أو فوضى الأمور، كنت دائمًا ممتنًا للتعاون مع المحررين والمدراء والأصدقاء، ورؤية بعض الأهداف وقد تحققت، لتذكرني بأنني أحدثت تأثيرًا حقيقيًا.”
هل يسمعني الأصدقاء والزملاء في “العرب”؟ “لقد حان الوقت للمضي قدمًا. لم ننجز كل شيء، لكنكم كنتم دائمًا هناك. لقد كان عامًا طويلًا مرهقًا، لكنني فخور بما أنجزناه. والأهم من ذلك، لا أشعر بالندم، ولا أرغب في جعلكم تشعرون بالتباطؤ. أغادر الصحيفة بشعورٍ من الهدوء والراحة، لم أتوقعه بصراحة.”
ويتابع “نواصل، رجاءً.” إنها لازمته التي استعملها دائمًا في اجتماعاته مع فريقه، بعد إبداء ملاحظاته وتوجيهاته ومناكفاته الجميلة.