هيثم الزبيدي أعطانا عمرا من عمره

الدكتور كان يحرص دائما على بناء بيئة تحريرية تحث الصحافيين على التعاون والتعلّم من بعضهم البعض لابتكار أفكار ومقالات مقروءة.
الأحد 2025/05/25
سعى خلف دربه الحافل بالنجاحات

أرفض التّحدث عن الدكتور هيثم الزبيدي بصيغة الماضي، لأن فعل “كان” ليس سوى ناسخ يحصُر الزمن في الماضي، ويحتاج اسمه المرفوع دائما إلى منصوب ليصل المعنى، لكن معلمي الزبيدي حتى وإن وارى الثرى جسده، فإنه حاضر هاهنا بيننا بالجوانب الكثيرة الخالدة في شخصيته وإرثه المادي والمعنوي وذهنه المتقد وتفكيره الخلاق، وبكل ما وهبنا من فكر وعلم ورؤى وتطلعات، وأوطان بديلة أنشأناها في المهجر وكتبناها معا بنبض الكلمة الحرة، وخضنا من أجلها معتركا صحفيا وإعلاميا، بعيدا عن قيود الاحتكار والصنصرة ومقص الرقيب و”الإرهاب الفكري”.

في صحيفة “العرب” اللندنية التي عملت فيها لأكثر من ثلاثة عشرة عاما، تعلمت من معلّمي ورئيس التحرير الدكتور هيثم الزبيدي، كيفية ابتكار الأفكار بدلا من افتراض أن الأفكار ستتدفق تلقائيا. والأهم من ذلك، أنه يحرص دائما على بناء بيئة تحريرية، تحث الصحافيين على التعاون والتعلّم من بعضهم البعض لابتكار أفكار ومقالات مقروءة وأكثر إبداعا.

منحنا الزبيدي أشياء عظيمة وخالدة على المستويين الإنساني والمهني، تتحرر من جميع القيود البيولوجية، وتراوغ مفهوم الموت بوصفه نقطة النهاية، وتعطي معنى آخر لحياة لا تحكمها السنوات أو العمر الافتراضي للإنسان.

أعطى الزبيدي لكل من عرفه عن قرب أو بعد وعمل معه وتتلمذ على يديه، عمرا من عمره، فأخرج أفضل ما فينا وعرّفنا على إمكانياتنا وقدراتنا، فبينما كنا ندق على رؤوسنا، لفترات طويلة من أجل كتابة مقال أو تقرير وحيد؛ يفاجئنا هو بأفكاره الخلاقة، التي لا يملكها أيّ منا، فعقله يعمل طوال الوقت ومهيأ لإيجاد أفكار جديدة وفي كل مجال وزمان، والنظر إلى عالم الصحافة من منظور وبصيرة غير مألوفة. يساعدنا في معظم الأحيان على اختيار أفضل الزوايا من بين مجموعة كبيرة من المقترحات، ويشاركنا في تطويرها ويتأكد أنها صالحة للنشر.

◄ لم يخف من الموت، فهو يدرك أن عمر الإنسان مجرد رقم في كل الأحوال، لذلك سعى خلف دربه الحافل بالنجاحات، ما جعل وفاته بمثابة حياة أخرى بعد الممات

حتى الصحافيون المبتدئون الذين لا يتمتعون بأيّ خبرات، يتيح لهم الفرص دائما للتدريب، ويطلب منهم اقتراح مواضيع وأفكار للكتابة عليها. وتخضع كل فكرة للتقييم في اجتماع مدراء التحرير، حتى تصنف بحسب زواياها وفرص جاذبيتها للقراء، ثم يناقش الزبيدي مع الصحافي الذي اقترحها رأيه فيها. بل هو في الواقع مصدر الإلهام لآلاف المقالات والتقارير التي كتبها الصحافيون في صحيفة “العرب” وموقع “ميدل إيست أونلاين” ونسبت إليهم، ولكنها في الحقيقة عصارة أفكاره.

لا أبالغ حين أقول إن معلمي الزبيدي تمكن من العيش “الروحي” فينا إلى الأبد، فهو حاضر في تفاصيل حياتنا التي لم يحدها عمره القصير نسبيا مقارنة بمسيرته الصحافية الحافلة بالتحديات والنجاحات، وكل ما تركه لنا من إرث مادي أو معنوي له خاصية للتأثير فينا بشكل أو بآخر، ولذلك فهو برحيله قد أورثنا جزءا كبيرا من هويته.

في معظم الأحيان يصاب معلمي بالإنهاك من المرض وينفد ما لديه من طاقة بسبب آلام المرض المبرحة. لكن رسالة بالبريد الإلكتروني تصله فجأة من قبل شخص يحتاج نصحه، أو محرر يطلب مساعدته. فيمنحه كل تلك الطاقة لكي يعود للكتابة ويواصل مشواره.

لم يعبأ الزبيدي بمرضه ولم تقعده الآلام المبرحة عن مهامه، حتى في آخر لحظات حياته، وبالنسبة إليه، هذا العبء معتاد بكل معنى الكلمة، إذ يقول دائما “عملي حافل بالضغوط، ولكنني انخرط فيه، على نحو يشعرني بالراحة“.

لا يوجد لدى معلّمي الزبيدي وقت كاف ليخلد للنوم والراحة، فهو يعكف على وضع خطط لمساعدة جميع المحررين ويساعدهم حتى في حل مشاكلهم الشخصية، ويتولى القيام بكل أمور الصحيفة بنفسه.

قبل وفاته بأيام كتب معلمي مقالا رائعا تحت عنوان “مختبر تجارب لمسيّرات وصواريخ فوق البحر الأحمر وباب المندب”، بأنفاس رجل حي “لا يموت”، فرغم أنه يشاع أن عملية الاحتضار تبدأ قبل أسبوعين أو أكثر من لحظة مفارقة الحياة، ويتوقف فيها الدماغ عن العمل، فإن معلمي الزبيدي قد راوغ الموت نفسه، ولم يفقد التفكير المنطقي والعقلاني، في لحظات الموت امتلك ذهنه قدرات هائلة للكتابة.

لم يأخذ معلمي هيثم الموت على محمل الجد. إذ قال لنا ضاحكا في إحدى السهرات العائلية التي كنت حاضرة فيها برفقة زوجي “لست خائفا من الموت، لأنهم سيدفنونني وسأبقى هناك… بكل راحة وهدوء“.

لم يخف من الموت، فهو يدرك أن عمر الإنسان مجرد رقم في كل الأحوال، لذلك سعى خلف دربه الحافل بالنجاحات، ما جعل وفاته بمثابة حياة أخرى بعد الممات.

7