هشام الجباري.. مخرج يتقن نسج أعماله على خشبات المسارح والشاشات

مسار هشام الجباري الإخراجي يميل إلى الوضوح والبساطة المتقنة، ويُعيد للقصة الشعبية والدراما البوليسية المغربية بعضا من وهجها الغائب.
الأحد 2025/05/25
متسلحا بالوضوح والبساطة المتقنة

يثبث المخرج المغربي هشام الجباري قدرته على تقديم دراما تلفزيونية تستند إلى معالجة إخراجية متوازنة تجمع بين التشويق والإقناع البسيط الموجه للعامة، كما أثبت جدارته في عالم السينما وذلك خاصة منذ تتويج فيلمه “الذئاب لا تنام” بالجائزة الكبرى وجائزة أفضل إخراج ضمن فعاليات الدورة الرابعة لمهرجان مكناس للفيلم التلفزيوني عام 2015.

يستلهم الجباري في هذا العمل روحية القصة البوليسية المشوقة، وينسج حبكة تدور حول جريمة غامضة تمزج بين الأوهام والحقائق، من خلال مقتل فتاة تُفتح على خلفيتها ملفات معقدة وأسرار خفية داخل أروقة السلطة والمال، وقد شكّل الفيلم نموذجا لتوظيف العناصر السردية في إطار بصري محسوب، دون إفراط في المؤثرات أو اللجوء إلى تعقيدات إخراجية مبتذلة، وهذا التوازن بين البناء الدرامي والتناول المعقول.

نضج التجربة

 من خلال أعماله يبرز مسار الجباري الإخراجي الذي يميل إلى الوضوح والبساطة المتقنة، ويُعيد للقصة الشعبية والدراما البوليسية المغربية بعضا من وهجها الغائب.

ويكرّس هشام الجباري في فيلمه “دموع إبليس” الصادر سنة 2016، مسارا إخراجيا واقعيا متزنا، يزاوج فيه بين الدراما والسرد الإنساني العميق، مستندا إلى قصة مستوحاة من جراح الذاكرة الجماعية المغربية، إذ يبين تكوين اللقطات شخصية حسن الشاهد، المعتقل السياسي السابق، في قالب درامي قوي، مليء بالصراع النفسي والهاجس الانتقامي، دون الوقوع في الشعارات أو المباشرة.

 وينهل الجباري من أسلوب أفلام الطريق ليمنح العمل بعدا ديناميكيا، يجعل من الرحلة بين الشمال والجنوب رحلة داخل الذات، تفتح جراحا قديمة وتطرح تساؤلات حول العدالة والصفح والكرامة الإنسانية، ويُوظف المخرج الكاميرا بلغة بصرية صافية، يبتعد فيها عن التعقيد التقني، ويمنح للممثلين فضاء حُرّا للتعبير عن الانكسارات والانفعالات بصدق ظاهر، خاصة في أداء رشيد الوالي وأمل عيوش.

ويحافظ الجباري في هذا الفيلم على ما يمكن وصفه بالإخراج المعقول، القائم على احترام ذكاء المتفرج، دون اللجوء إلى الإثارة المجانية، وهذا جعله ينال جائزة الشاشة الذهبية في مهرجان الشاشات السوداء بالعاصمة الكاميرونية ياوندي، والجائزة الكبرى بمهرجان أفلام الجنوب ببروكسيل، وجائزة أفضل صورة وأفضل صوت في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، إلى جانب تنويه خاص من لجنة الصحافة والنقد بمهرجان زاكورة الدولي للسينما عبر الصحراء، وجائزة الجمهور في مهرجان سلا لفيلم المرأة، وجائزة أحسن ممثلة لأمل عيوش من المهرجان ذاته.

كل هذه التتويجات تؤكد نضج رؤية الجباري الإخراجية، وتفاعله المتزن مع موضوعات حساسة من الذاكرة المغربية المعاصرة، في عمل يجعله مدخلا للتأمل في معنى العدالة والمصالحة.

يعد مسلسل “سلمات أبو البنات” لهشام الجباري من أبرز الأعمال الدرامية المغربية التي جسدت واقع الأسرة المغربية بحميمية وواقعية عميقة، ومن خلال قصة المختار سلمات، الرجل الذي غاب طويلا عن أسرته بسبب عمله، يعرض المسلسل الصراعات النفسية والاجتماعية التي تمر بها العائلة، خصوصا البنات في مراحل حياتهن المختلفة، ويتناول العمل موضوعات حساسة مثل البيدوفيليا والإجهاض السري، وهذا أضفى على المسلسل بعدا جريئا يثير النقاش الاجتماعي.

كما يُجسد مسلسل “سلمات أبو البنات” في جزئه الخامس أسلوبا دراميا اجتماعيا عميقا يوازن بين الواقعية الحياتية والجرأة في طرح القضايا الحساسة التي تعيشها الأسرة المغربية اليوم، ويعتمد العمل على سرد متشابك لشخصيات متعددة، إذ تتداخل مصائرها لتكشف عن تعقيدات الحياة الأسرية والمجتمعية، مبتعدا عن التجميل أو التبسيط، ليقدم صورة صادقة تعكس تحديات العصر، من التحرش بالأطفال عبر الهواتف الذكية إلى أزمات المراهقين والخلافات الأسرية، وتُبرز الجرأة في اختيار الموضوعات ومقاربتها بعناية دور المسلسل كمرآة واقعية تسبر أعماق النفس البشرية وتفاعلاتها، مع الحفاظ على روح العائلة وقيمها التقليدية التي تمثل عماد السرد.

ويركز المخرج هشام الجباري في مسرحية “الدق والسكات” على تصوير الصراعات الزوجية اليومية بأسلوب درامي واقعي يمزج بين الكوميديا السوداء ونقد المجتمع، ليبرز من خلال ذلك ضغوط الحياة وتأثيرها على العلاقات الأسرية، ويعمد الجباري إلى استكشاف شخصية الإنسان المغلوب على أمره في مواجهة عراقيل الحياة البسيطة والمعقدة، ويتيح للجمهور فرصة التأمل في واقع الكثير من الأسر المغربية بأسلوب فني يعبر عن الوجع والمرارة مع لمسات من السخرية التي تخلق توازنا دراميا مميزا.

لغة الجسد

◄ مخرج يعيد للدراما البوليسية ألقها
مخرج يعيد للدراما البوليسية ألقها

يرتكز المخرج في مسرحية “ضربنا تران” على مزج الكوميديا الاجتماعية مع طرح قضايا مجتمعية جادة مثل بطالة حاملي الشواهد وموضوع الاغتصاب، مستغلا فكرة الحبس داخل قطار متعطل كفضاء درامي رمزي يجمع بين الشخصيات الأربع لتكشف كل منها عن قصصها وهمومها، ويستخدم هذا الإطار الضيق ليعكس بذلك الواقع الاجتماعي المغربي بكل تناقضاته، معتمدا على حوار مباشر وشخصيات متعددة الأبعاد، وهو ما يتيح للمشاهد التعاطف مع الأبطال وتفهم مشكلاتهم من خلال لحظات كوميدية وطريفة توازن بين جدية الموضوع وخفة الأداء.

ويعتمد الجباري في إخراجه على أداء الممثلين الذين جسدوا أدوارهم باقتدار، مستفيدا من حضورهم القوي وقدرتهم على خلق تفاعل مع الجمهور الذي تجاوب بحماس مع المشاهد المختلفة، كما يظهر من تنظيم العرض والتفاعل الجماهيري أن المسرحية كانت مناسبة حقيقية للتلاقح الثقافي والاجتماعي، وتوضح التزام المخرج بالاهتمام بقضايا المجتمع المغربي من خلال لغة مسرحية حية ومتجددة، قادرة على التأثير وإثارة الحوار في صفوف الجمهور.

ويعتمد الجباري في رؤيته على لغة جسدية وحوارية دقيقة، تسمح بتفكيك طبقات العلاقات بين الشخصيات، وتبرز التوتر المتصاعد الذي يصل في النهاية إلى ذروة من الإحباط والعزلة النفسية، ويبيّن من خلال المسرحية نقدا اجتماعيا ضمنيا لما تعيشه بعض العائلات من مشاكل تتعلق بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية، ويستخدم رمزية العنف الداخلي والسكوت كأدوات درامية تساهم في تبسيط الفهم النفسي لشخصيات العمل.

ويحافظ العمل على أسلوب درامي متوازن بين التوتر والتأمل وبين إيقاع  تصاعد الأحداث وتطور الشخصيات، مع توظيف مشاهد إنسانية،، ويسعى لفهم خلفياتها الاجتماعية والنفسية، ليمنح العمل بساطة ويزيد من تأثيره الدرامي، كما يراعي المخرج هشام الجباري معالجة مواضيع معاصرة بأسلوب حساس يتوافق مع جمهور الأسرة المغربية، فيحول العمل إلى رسالة توعية تربوية متجددة تتفاعل مع نبض الواقع اليومي.

التنقل بين الأجناس

◄ الإخراج والإنتاج للمسرح رهان فني
الإخراج والإنتاج للمسرح رهان فني

يتميّز المخرج هشام الجباري بخط إخراجي يجمع بين واقعية معقولة وروح مستلهمة من القصة الشعبية المغربية، وينجح في نسج حكايات ذات طابع اجتماعي في قالب درامي أو كوميدي دون الانزلاق نحو المبالغة أو التكرار، ويتجلى هذا التوجه في فيلمه الجديد “حادة وكريمو”، الذي يعيد فيه التعاون مع المنتجة فاطنة بنكيران بعد فيلم “أنا ماشي أنا”، إذ ينقل الجباري في هذا العمل مشاهد من واقع الأحياء المهمشة، وتفاصيل الحياة في “الكاريان”، موظفا حبكة تنبني على الطمع والتلاعب بمصائر الآخرين من خلال رشوة “المقدم” وتفويت “براكة” بالتحايل.

ويعتمد الجباري في إخراج هذا العمل السينمائي على أسلوب واضح ومقروء بصريّا، يميل نحو البساطة الواقعية، مستثمرا العناصر الشعبية والفضاءات المغربية الأصيلة لإضفاء روح محلية تُقرّب المتفرج من القصة، ورغم توجهه أحيانا إلى الكوميديا، كما في “أنا ماشي أنا”، إلا أنه لا يفرّط في شحن العمل بالبعد الإنساني والعاطفي، ما يُكسبه عمقا ويزيد من تفاعل الجمهور معه، واستطاع الجباري كسر قاعدة الانسحاب المبكر للأفلام المغربية من القاعات السينمائية، حين حقق فيلمه الأخير نجاحا جماهيريا لافتا، وهو ما يعبّر عن صدق اختياراته الإخراجية وقراءته الدقيقة لذوق المشاهد المغربي.

◄ الجباري يعتمد في إخراجه على أداء الممثلين مستفيدا من حضورهم القوي وقدرتهم على خلق تفاعل مع الجمهور

ويراهن الجباري على التنقل بين الأجناس السينمائية دون أن يحصر نفسه في نمط واحد، مفضّلا التجريب بأسلوب معقول ومتوازن، وهذا النهج يعبّر عن وعيه بأهمية تقديم سينما قريبة من الناس، مستلهمة من واقعهم ومن قصصهم المتداولة، لكنها مصوغة بلغة سينمائية حديثة تراعي معايير الجودة وتطلعات الجمهور، بينما يمتلك هذا الفنان رصيدا غنيا من الأعمال الفنية المتنوعة التي تنوعت بين المسلسلات والأفلام السينمائية والمسرحيات، حيث شغل أدوارا مختلفة منها الإخراج، التأليف والإنتاج.

وأبدع في إخراج عدد من الأفلام التي لاقت صدى واسعا لدى الجمهور، من بينها “الزبير وجلول”، “ظلال الموت”، “الذئاب لا تنام”، “دموع إبليس”، “خفة الرجل”، “آلو ابتسام”، و”قلبي بغاه”. كما أخرج سلسلة من المسلسلات التي حظيت بمتابعة جماهيرية كبيرة، منها “دار الورثة” بجزئيه، “عش البنات”، “البخيل والمسراف”، “ناس وناس”، “راس لمحاين”، “بنت الناس”، “فالصالون”، “الوريث الوحيد”، “أنا ومنى ومنير”، “7 فالدار”، “مومو عينيا”، “مرضي ميمتو”، “فرصة العمر”، “زواجي محال”، “نهار مبروك”، “الماضي لا يموت”، “دابا تزيان”، “زهر الباتول”، وسلسلة “سلمات أبو البنات” بأجزائها المتتالية، إضافة إلى “قهوة نص نص” و”بين لقصور”.

 ولم تقتصر إبداعاته على الشاشة فقط، بل امتدت إلى خشبة المسرح من خلال مجموعة من المسرحيات التي تحمل عناوين دالة على البعد الاجتماعي والواقعي في أعماله، مثل “الدق والسكات”، “درهم الحلال”، “ميعادنا العشا”، “سعد البنات”، “دير مزية”، “طالب راغب”، و”ضربنا التران”. هذه المسرحيات تعكس التنوع في مواضيعها وأسلوبها، مما يدل على اهتمامه العميق بالمسرح كوسيلة فنية تعبيرية.

◄ الجباري يتنقل بين الأجناس السينمائية دون أن يحصر نفسه في نمط واحد مفضلا التجريب بأسلوب معقول ومتوازن
الجباري يتنقل بين الأجناس السينمائية دون أن يحصر نفسه في نمط واحد مفضلا التجريب بأسلوب معقول ومتوازن

 

8