ليبيا في متاهة شلل صناعة التكرير وسداد واردات الوقود

يراقب المحللون باهتمام تأثيرات الأزمة المالية والخلافات السياسية العميقة التي تعاني منها ليبيا بعدما تسببت في تخلف الدولة عن سداد مستحقات توريد الوقود، وسط تنامي التحذيرات من استفحال المشكلة في ظل شلل صناعة التكرير والتي أثرت في نهاية المطاف على المستهلكين.
طرابلس - كشفت مصادر مطلعة على دوائر صنع القرار أن ليبيا تراكمت عليها مستحقات لموردي الوقود بحوالي مليار دولار بعد أن أنهت البلاد برنامج مقايضة النفط المثير للجدل قبل نحو ثلاثة أشهر.
ومن المرجح أن ترتفع قيمة المتأخرات المستحقة على مؤسسة النفط الليبية ثلاث مرات بحلول نهاية 2025 إذا لم تبدأ في سدادها، وفقا لمصدرين تحدثا لوكالة بلومبيرغ، طلبا عدم الكشف عن هويتيهما لأن المعلومات خاصة.
ويهدد عدم قدرة الشركة المملوكة للدولة على الدفع توفر منتجات مثل البنزين في بلدٍ يعاني من الاضطرابات السياسية، مما سيفاقم حالة التذمر الشعبي بسبب سوء إدارة المسؤولين لدواليب الدولة بالشكل الصحيح.
ورغم امتلاكها أكبر احتياطيات نفطية في أفريقيا، تعتمد ليبيا بشكل كبير على استيراد الوقود المكرر بسبب نقص قدرة التكرير، التي كانت نتيجة طبيعية للانقسامات السياسية وغياب خطط للتطوير وقلة الموارد المالية لصيانة المصافي.
ووفق وزير النفط في حكومة الوحدة الوطنية خليفة عبدالصادق، فإن طاقة التكرير تبلغ 140 ألف برميل يوميا، بينما الاستهلاك اليومي يبلغ 286 ألف برميل. وتتطلع الدولة إلى بلوغ 400 ألف برميل على المدى القصير لتبلغ مليوني برميل في غضون ثلاث سنوات.
ولدى البلد خمس مصاف للنفط هي رأس لانوف، وتعد الأكبر من حيث طاقة الإنتاج التي تبلغ 220 ألف برميل يوميا، وقد تم تشييدها أساسا لتكرير خام السرير الذي تنتجه شركة الخليج العربي، ولكنها تقوم حاليا بتكرير مزيج من خامي مسلة والسرير.
وتأتي مصفاة الزاوية في المركز الثاني من حيث قدرة الإنتاج، وتشير التقديرات إلى أن طاقتها تبلغ 120 ألف برميل يوميا من الخام الخفيف، لكنها تراجعت بسبب الحرب إلى مئة ألف فقط، وتشرف عليها شركة مستقلة مملوكة بالكامل للمؤسسة الوطنية للنفط.
وهناك مصفاتا السرير التي تبلغ طاقة إنتاجها اليومية قرابة 10 آلاف برميل يوميا، وطبرق التي عادت إلى العمل في أكتوبر 2023 وتنتج 20 ألف برميل يوميا، وهما تزودان بخام السرير الذي تنتجه شركة الخليج.
وتعد مصفاة مرسى البريقة البعيدة عن مدينة نغازي بنحو مئتي، الأقدم بالبلاد وهي بالقرب من الميناء الذي يحوي أكبر مجمع للنفط في البلد العضو في منظمة أوبك.
وتظهر الأرقام أن المصفاة التي تشرف على تشغيلها شركة سرت لإنتاج وتصنيع النفط والغاز الحكومية، تنتج حوالي 10 آلاف برميل يوميا من المشتقات النفطية.
ومكّنت آلية المقايضة المعتمدة مؤسسة النفط من سداد قيمة المشتريات بالخام، وهو إجراء يتيح لها تجنّب الدفع النقدي الفوري. لكن ديوان المحاسبة دعا في وقت سابق هذا العام إلى إنهاء هذا النظام، مشيرا إلى عدم كفاءته.
نظام مقايضة سداد مشتريات الوقود بالخام المعتمد من مؤسسة النفط أثبت عدم كفاءته، وفق ديوان المحاسبة
وتدعم الحكومة أسعار الوقود بشكل كبير، حيث يبلغ سعر البنزين والديزل 0.027 دولار للتر، لتعد بذلك من بين الأرخص في العالم، وفقا لمتتبع أسعار الوقود العالمية عبر الإنترنت، وتعد الكلفة بذلك أقل من ثمن زجاجة مياه في البلاد.
وفي ديسمبر الماضي، ذكرت لجنة تابعة للأمم المتحدة أن بعض الوقود المستورد الرخيص يُهرَّب إلى الخارج لبيعه بأسعار أعلى.
وأكدت المصادر أن مؤسسة النفط لم تتمكن من دفع ثمن واردات الوقود من أرباحها من مبيعات الخام، لأن هذه الإيرادات يجب إيداعها مباشرة في البنك المركزي.
ويدير البلد حكومتان منفصلتان، تتنافسان على السيطرة على قطاع النفط والبنك المركزي. ويُجسّد هذا الوضع الانقسام العميق في ليبيا منذ الإطاحة بمعمر القذافي في عام 2011.
وأدى نقص الوقود الحاد إلى التزاحم في محطات الوقود العام الماضي، وإلى إيقاف رئيس مجلس إدارة شركة البريقة لتسويق النفط الحكومية فؤاد علي محمد بالرحيم عن العمل، في ظل تصاعد السخط في جميع أنحاء البلاد.
وحثت مؤسسة النفط الحكومة على تخصيص الأموال اللازمة لدفع ثمن واردات الوقود، محذرة من أن أي فشل في القيام بذلك سيؤدي إلى تعطيل الخدمات الأساسية مثل محطات الطاقة والنقل، وفقا لكتاب مؤرخ في التاسع عشر من يناير الماضي.
وورد بالرسالة أن الشركة طالبت بتطبيق آلية سداد جديدة لضمان صرف موازنات الوقود في الموعد المحدد، وذلك من خلال خطابات اعتماد من المركزي.
وتعاني مدن الجنوب الليبي الغنية بالنفط من شح مزمن في توفير الوقود بالرغم من تواجد أكبر الحقول النفطية في نطاقها الجغرافي. وتعد مصفاة رأس لانوف في الجنوب الأكبر بالنسبة إلى مساحة ليبيا.
ويواجه قطاع النفط في ليبيا الذي يتجاوز إنتاجه اليومي حاليا نحو 1.42 مليون برميل صعوبات بسبب الإغلاقات المتكررة لحقول وموانئ نفطية على خلفية تهديدات أمنية أو إضرابات عمالية.
1
مليار دولار قيمة متأخرات شراء الوقود من الخارج على مؤسسة النفط الليبية الحكومية
وأثارت تصريحات رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة أواخر أبريل حول إمكانية رفع الدعم عن الوقود موجة غضب واسعة في الأوساط الشعبية وعلى الشبكات الاجتماعية، لتضاف إلى حالة الاحتقان المتصاعدة جراء الأزمة الاقتصادية الحادة.
وطرح الدبيبة ثلاثة خيارات بديلة لنظام دعم الوقود الحالي، تتضمن منح دعم نقدي مباشر للمواطنين، أو زيادة شاملة في الرواتب، أو تخصيص حصة محددة لكل مواطن من الوقود المدعم عبر بطاقات ذكية.
ولم يقتصر هذا التذمر على هذه التصريحات، بل امتد ليشمل رجل الأعمال النافذ المقرب منه محمد الرعيض، الذي أثارت تصريحاته “المستفزة” خلال المنتدى الاقتصادي الليبي دعوات صريحة إلى مقاطعة منتجات شركته.
واتهم نشطاء ليبيون الدبيبة والرعيض بالتسبب بشكل مباشر في تفاقم الأزمة الاقتصادية، مستندين في ذلك إلى تقارير صادرة عن مصرف ليبيا المركزي تشير إلى عمليات “صرف مواز” مشبوهة.
وبلغ السخط الشعبي أوجه، حيث طالب نشطاء بإسقاط حكومة الدبيبة، محملين إياها المسؤولية الكاملة عن التدهور الاقتصادي الذي يرزح تحته الليبيون، رغم محاولات حكومة طرابلس تقديم “بدائل” لما اعتبرته “هدر مئات المليارات” في دعم الوقود.
وأكد الدبيبة أن “مهربي الوقود” شنوا ضده حملة ممنهجة في السابق عندما أثار هذا الملف، داعيًا مؤسسات الدولة إلى توضيح الحقائق للشعب الليبي حول كيفية وقف نزيف مئات المليارات من الدينارات التي تُهدر في دعم الوقود بشكل غير فعال.