بيت العود العربي مرآة تعكس حضارة العراق وثقافته الروحية والإنسانية

الفنان مصطفى صالح: آلة العود جوهر هويتي الثقافية وامتداد لروحي.
الجمعة 2025/05/23
الموسيقى بيئة للتثقيف والتنوير الفكري والروحي

تجسد مسيرة عازف العود الفنان مصطفى صالح نموذجا متفردا من التلاقي بين الموسيقى والثقافة الروحية، حيث لا يقتصر عطاؤه على العزف فحسب، بل يتعداه إلى بث القيم الأخلاقية والإنسانية المتجذرة في عمق الهوية الثقافية العراقية. في هذا الحوار نتعرف على عوالمه ورؤاه الفنية ومحطات من مسيرته.

منذ بداياته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وصولا إلى تألقه في معهد بيت العود العربي، تَشَكلَت ملامح مصطفى صالح بصفته أستاذا للموسيقى يعيد إلى آلة العود صوتها الرنان بوصفها رسالة إنسانية تغذي العقول والأرواح.

بزغ نجم الفنان مصطفى صالح في بيت العود العربي بصفته عازفا متألقا وأستاذا مقتدرا. وكان أول من قدم حفلات تخرج خاصة على آلة العود حاملا بين أنامله نبض التراث العراقي الأصيل ورؤية معاصرة منفتحة على المستقبل.

رحلته ليست مجرد سيرة عازف موسيقي وأستاذ ناجح، بل هي شهادة حية على أن فن الموسيقى يمكن أن يشكل بيئة صالحة للتثقيف والتنوير الفكري والروحي، ومناخا أخلاقيا ومعرفيا خصبا يُعزز العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه على أساس من التفاهم والاحترام المتبادل.

الموسيقى وتعليمها

في لقائنا مع الفنان الموسيقي مصطفى صالح نسلط الضوء على مسيرته الفنية كنموذج حي على كيفية تحول الموسيقى إلى دورها الفعال في  تشكيل الوعي، وتعزيز القيم الأخلاقية الإنسانية، وترسيخ الثقافة الروحية الصوفية في وجدان الأجيال الصاعدة.

◙ الفنان يحمل رسالة فنية وتعليمية تؤكد أن الموسيقى ليست مجرد فن، بل أسلوب حياة وتجربة ثقافية وروحية
◙ الفنان يحمل رسالة فنية وتعليمية تؤكد أن الموسيقى ليست مجرد فن، بل أسلوب حياة وتجربة ثقافية وروحية

نسأله بداية من هو مصطفى صالح نجم؟ ليتحدث عن هويته الشخصية ومسيرته منذ البدايات، وما الذي شكل ملامحه موسيقارا ومدرسا لآلة العود، يقول “أنا مصطفى صالح نجم، من مواليد بغداد في 26 ديسمبر عام 1990. فنان موسيقي ومدرس لآلة العود، تخرجت في جامعة بغداد – كلية الفنون الجميلة، ومعهد الفنون الجميلة، وكنت من أوائل خريجي الدفعة الأولى لمعهد بيت العود العربي في بغداد.”

ويضيف “منذ خطواتي الأولى في عالم الموسيقى، شكلت آلة العود جوهر هويتي الثقافية، وصارت امتدادا لروحي وصوتي. لا أكتفي بعزفها، بل أعيشها وأعبر من خلالها عن ذاتي ومشاعري. عملت مدرسا في فن الموسيقى، وأسعى دائما إلى أن أنقل هذا الشغف إلى طلابي، فلا أدربهم على التقنية فحسب، بل أعلمهم كيف يعزفون بوعي وإحساس وانسجام مع ذواتهم ويعبرون عن انتمائهم الثقافي.”

يذكر أنه التحق بكلية الفنون الجميلة – قسم الموسيقى عام 2012، وتتلمذ على يد الأساتذة نصير شمة وأحمد شمة، ليتخرج عام 2015 بدرجة امتياز، وكان أول طالب في القسم يقدم كونسرت تخرج خاص لآلة العود، تضمن مؤلفات من تأليفه، في تجربة غير مسبوقة آنذاك.

اليوم، يدرّس صالح آلة العود في معهد الفنون الجميلة وفي بيت العود العربي – بغداد، ويحمل رسالة فنية وتعليمية يطمح من خلالها إلى بناء جيل جديد من العازفين، يؤمنون بأن الموسيقى ليست مجرد فن، بل أسلوب حياة، من تجربة ثقافية روحية عميقة.

حول ما يميز المنهاج التعليمي الموسيقي في أكاديمية بيت العود العربي في بغداد عن غيره، يقول صالح “التميز الحقيقي في بيت العود العربي يكمن في وجود منهاج تدريسي خاص ومتنوع. الطالب هنا يمر بعدة مراحل تعليمية تستمر لسنتين، تتوزع على ثماني مراحل، وكل مرحلة من تأليف أستاذ من أعمدة الفن الموسيقي العربي، القائد الموسيقي الكبير الدكتور نصير شمة والأستاذ سالم عبدالكريم، والأستاذ جميل بشير.”

ويبيّن أن كل مرحلة تقدم للطالب أسلوبا ومدرسة موسيقية مختلفة، ما يمنحه تنوعا في التذوق والأداء ويطور مهاراته بأسلوب احترافي متكامل. وهذا ما يجعل خريج معهد بيت العود عازفا محترفا يمتلك مهارة فنية عالية في العزف وثقافة موسيقية متكاملة.

نسأله كيف أثر ارتباطه بالموسيقار الدكتور نصير شمة على مسيرته الفنية والمهنية؟ ليجيبنا “الارتباط باسم الدكتور نصير شمة كان نقطة تحول حقيقية في حياتي الفنية. لقد فتح أمامي آفاقا واسعة، ومنحني نافذة لأطل من خلالها على العالم، حيث ارتقيت من المستوى المحلي إلى فضاءات المستوى الدولي.”

ويضيف “قبل أن أتعرف عليه، كنت أعمل مدرسا في معهد الفنون الجميلة حتى عام 2015، ولكن لم تكن لاسمي حينها أي امتيازات تُذكر. أما بعد تلك اللحظة المفصلية، فقد بدأت أرى قدراتي الكامنة تتحرر، ووجدت نفسي أمتلك طاقة جديدة في العزف على آلة العود، وأسلوبا متطورا في تعليم الطلاب.”

◙ معهد بيت العود العربي – بغداد يستقبل طلابا من مختلف الأعمار يجمعهم حب الموسيقى الشرقية العربية وخصوصا ألحان آلة العود

ويواصل صالح “الدكتور نصير شمة لم يكن فقط قدوة موسيقية، بل كان أستاذا ملهما وموجها ساعدني على اكتشاف أبعاد جديدة في مواهبي الفنية، وصقلها بشكل غير تقليدي، حتى أصبحتُ أكثر نضجا ومسؤولية في تدريس الطلاب.”

أما عن رؤيته لواقع التعليم الموسيقي والعزف على آلة العود اليوم في العراق، مقارنة بالسنوات السابقة، فيقول “نحن نعيش اليوم نهضة ثقافية موسيقية واسعة في العراق، وخصوصا في العاصمة بغداد، لم نعهدها من قبل. في السابق، كان الإقبال على تعلم الموسيقى والعزف على آلة العود محدودا جدا، بسبب العادات والتقاليد السائدة آنذاك، وكذلك نتيجة الظروف الأمنية والمعيشية الصعبة التي مر بها البلد.”

ويتابع “الوضع اليوم تغير بشكل ملحوظ، بفضل التطور الكبير في الوعي الثقافي لدى العراقيين. لقد أصبح الناس أكثر انفتاحا على الفن والموسيقى وصار هناك شغف حقيقي بتعلم الموسيقى والإقبال على آلة العود، ليس فقط لدى الشباب، بل حتى كبار السن، النساء، والأطفال أيضا.”

ويشير إلى أن معهد بيت العود العربي – بغداد، يستقبل طلابا من مختلف الأعمار، يجمعهم حب الموسيقى الشرقية العربية وخصوصا ألحان آلة العود. هذا التفاعل الثقافي المثمر أسفر عن نشوء فرق موسيقية عديدة حاضرة في المشهد الثقافي العراقي.”

الاجتهاد والمثابرة

◙ حصيلة معتبرة من الجوائز
◙ حصيلة معتبرة من الجوائز 

حول أبرز مشاركاته الموسيقية داخل العراق يقول صالح “نعم، شاركت في العديد من المهرجانات والفعاليات الموسيقية داخل العراق، خاصة بعد تكليفي من قبل الدكتور نصير شمة كمساعد في إدارة معهد بيت العود العربي في بغداد، حيث قدمت حفلات مع طلاب المعهد في محافل مهمة منها المؤتمر العلمي لبيت الحكمة، معرض بيت الكتاب وحفل في كلية الفنون الجميلة. كما قُدت فرقة الخيال وفرقة الألوان إلى جانب نخبة من الأساتذة، وكان لها حضور مؤثر في المشهد الثقافي.”

أما على صعيد الجوائز فقد حصل الفنان العراقي على المركز الأول في مسابقة المقام في مدينة الزوراء، وجائزة المركز الأول في محافظة بابل بقيادته لفرقة الخيال الموسيقية، إلى جانب عدة شهادات تكريمية ودروع أخرى، وكلها أكدت لي أن بيت العود ليس فقط مكانا للتعليم بل منصة لصناعة فنانين فاعلين في المجتمع.

◙ بيت العود العربي يلعب دورا محوريا في تهذيب النفوس وتنمية الحس الفني الإبداعي والروحاني لدى الشباب

نسأله هل هناك إضافات جديدة للمنهاج التدريسي وخطط في تطوير بناء معهد بيت العود؟ ليجيبنا “اليوم، يعمل الدكتور نصير شمة على تطوير رؤية جديدة للمنهاج، من خلال إضافة تمارين حديثة وتوسيع آفاق التعليم الموسيقي داخل معهد بيت العود، وهذه النقلة المرتقبة ستعطي دفعة جديدة لتجربة التعلم، وستُسهم في تخريج عازفين أكثر تميزا واحترافا. كما أن المعهد سيوسع في المقاعد الدراسية للصفوف لاستقبال عدد كبير من الطلاب.”

نسأل صالح كيف يؤثر بيت العود العربي في تعزيز الوعي الثقافي والفني لدى الشباب في ظل التحديات التي تواجه الهوية الثقافة في العراق؟ فيقول “في ظل الحروب والطائفية التي أثرت سلبا على الثقافة والوعي في العراق، يلعب بيت العود العربي دورا محوريا في تهذيب النفوس وتنمية الحس الفني الإبداعي والروحاني لدى الشباب.”

ويضيف “نحن لا نقتصر على تعليم فن الموسيقى فقط، بل نركز على تنمية الوعي الفكري والأخلاقي والإنساني للطلاب لنمكنهم من التمييز بين الطرب الأصيل والموسيقى التجارية أو الرقمية التي تُنتج أحيانا بواسطة آلات ومؤثرات مصنعة بالذكاء الاصطناعي، والتي تفتقر إلى نبضات القلب وأحاسيس ومشاعر روح الإنسان الحقيقية.”

ويؤكد أنهم حريصون على تخريج عازفين يكونون قدوة ومصدر إلهام للآخرين، قادرين على الحفاظ على التراث الموسيقي الأصيل ونقله بأمانة وإبداع. أما عن الرسالة التي يوجهها الفنان مصطفى صالح إلى من يحلم بأن يصبح موسيقيا وعازف عود، فيشدد على أن تحقيق الحلم لا يكون إلا بالاجتهاد والالتزام والصبر والمثابرة ليصبح الحلم حقيقة.

13