غزة هي الأصل ونسيانها جريمة

حاربت إسرائيل وتحارب في جبهات متعددة مطمئنة إلى أن العالم الأقوى يقف معها أما العالم الأقل قوة فقد أثبتت مواقفه أنه لا يرغب في الوقوف أمامها لا بسبب تخوفه من الانعكاسات السلبية التي يمكن أن تضرها اقتصاديا وحسب بل وأيضا لأنها لا تثق بفاعلية قدرتها على أن تفعل شيئا في إمكانه أن يردع إسرائيل. بمعنى أن الأضرار لن يقابلها فعل شيء نافع. تلك تقديرات قد لا تكون صحيحة غير أن الحسابات السياسية بمعادلاتها الاقتصادية تظل هي الطرف الأكثر ثقلا في الميزان.
حرب غزة هي الأصل في كل ما حدث ويحدث الآن في المنطقة. بل إن الشرق الأوسط الجديد الذي نراه الآن يتبلور في وقت قياسي تماشيا مع زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعودية والإمارات وقطر بعد المفاوضات النووية مع إيران بأسلوبها الجديد ما كان يمكن أن يرى النور بصورة كالتي ظهر من خلالها لولا ما جرى في غزة الذي صار الرئيس الفرنسي ماكرون بسببه مقتنعا الآن وبعد أكثر من سنة ونصف السنة بأن “الوضع هناك لا يُحتمل.”
ذلك تحول كبير في موقف واحدة من الدول الغربية التي سبق لها وأن فتحت مخازن أسلحتها من أجل دعم إسرائيل في حربها. وبغض النظر عن استياء إسرائيل المبطن من جولة الرئيس ترامب الخليجية ومن المفاوضات مع إيران الذي يعبر عن شعور عميق بالإهمال فإنها لا بد وأن تشعر في الوقت نفسه بالارتياح لأن طريقة تفكير ترامب في غزة لم تفارق برنامجه المتخيل في إجراء صفقات تجارية هي أشبه بالسخرية والمزاح الثقيل اللذين يمارسان نزهة خيالية بين القبور والأطلال والذكريات الحزينة.
◄ غزة كانت حاضرة في أذهان جميع مَن استقبلوه. وإذا بالغنا في نجاح المنطق الذي أقيمت على أساسه منطقة الشرق الأوسط الجديد فإن الخطأ يظل عنوانا للمرحلة المقبلة
غزة لا تزال مصدر إلهام فكاهي بالنسبة إلى الرئيس الذي يحمل عصا سحرية لإيقاف الحروب حول العالم. وإذا ما كان الشرق الأوسط الجديد ينبئ بتغيرات كبيرة على مستوى تثبيت معادلات سياسية واقتصادية جديدة بدلا من التجاذبات التي كان يغلب عليها طابع النزاع العقائدي، فإن غزة لا تزال تتعرض لحرب إبادة لم تكتمل صورتها من وجهة نظر إسرائيل التي لم تعد تخشى التعرض لضغوط من أيّ نوع لإيقافها.
حسب ما صرح به آخر زعماء حركة حماس فإن الحركة صارت مستعدة للتخلي عن حكم غزة مقابل إيقاف الحرب. لم يعد ذلك مقنعا بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي وجد في طوفان الأقصى فرصته للفتك بالفلسطينيين. تفاوض حماس الأميركيين. ذلك اختراق مهم غير أنه لم يعد سبقا تاريخيا مهما. هناك تواطؤ أميركي – إسرائيلي على أن يمضي الحل العسكري إلى نهايته التي لا يعرف أحد متى تحل وما هي الأهداف التي يمكن أن يحدد تحقيقها لحظة الوصول إليها.
وخلال جولته الخليجية لم يشر ترامب ولو بكلمة واحدة إلى غزة. لا أدري فيما إذا كان أحد قد ذكره بها وهو المهووس بإطلاق عبارات النشوة بانتصاراته الاقتصادية.
لم تكن الولايات المتحدة وحدها هي الرابحة من جولة رئيسها الذي لا يفكر إلا في المال وهو ما لا يمكن إنكار أهميته في عالمنا الذي تخلت عنه القيم الإنسانية بل شاركتها في الربح الدول التي فتح أمامها ترامب مجالات الاستثمار في الولايات المتحدة وشركاتها. ذلك شيء عظيم. على الأقل من جهة كونه يمثل دخولا لدول من منطقة الشرق الأوسط في دورة الاقتصاد العالمي بطريقة تفاعلية لا بالطريقة السلبية التي كانت سائدة حتى اليوم.
لكن ذلك لا يعني أن المنطقة ستكون بخير في ظل الإهمال المتعمد الذي تمارسه الإدارة الأميركية للقضية الفلسطينية التي يفضل ترامب ألاّ يراها باعتبارها قضية شعب بقدر ما يفكر في الجغرافيا.
من المؤكد أن ترامب سمع كلاما عن غزة. غير أن الرجل المولع باستعراض صفقاته الاقتصادية كان ماهرا في القفز على الحواجز. تلك مهارة أميركية مارسها بخفة وهو يعرف كيف يخفي انفعاله. لم تكن غزة حاضرة في ذهنه باعتبارها صفقة تجارية.
ولكن غزة كانت حاضرة في أذهان جميع مَن استقبلوه. وإذا بالغنا في نجاح المنطق الذي أقيمت على أساسه منطقة الشرق الأوسط الجديد فإن الخطأ يظل عنوانا للمرحلة المقبلة. وهي مرحلة مليئة بالعثرات ما لم يتم استدراك الخطأ. ذلك لأن غزة التي صنعت كل تلك التغيرات لا تستحق الإهمال وليس من المقبول أن تُقام الصفقات على جثتها. غزة هي الأصل. لذلك فإن نسيانها جريمة.