شكرا رضا العموري

تونس التي رأيتها من خلال عيني رضا العموري لم أرها في رسوم الفنان الشهير بول كلي.
السبت 2025/05/17
جانب من جمال تونس

ما من شيء يقدر على جلب النسيان والإسراع به مثل الجمال. كل جمال جديد يمحو جمالا سبقه أو على الأقل يُخفيه.

يقابل الرجل امرأة جميلة فيثق بأن كل النساء اللواتي قابلهن لم يكنّ بجمالها، أما حين يُعجب المرء بأغنية فإنه يظل يردد مقاطعها من غير أن يدري كما لو أنه قد تعلّم الغناء لتوّه. الجمال نعمة لكنها تحمل معها الكثير من الأوهام.

كتب الروائي الياباني كاواباتا الحائز على جائزة نوبل رواية قصيرة بعنوان "الجميلات النائمات". يعالج موضوعها تقليدا يابانيا قديما يتعلق بالمرافقات النائمات للرجال كبار السن. ولا أدري إذا ما كان كاباوتا قد اخترع ذلك التقليد من أجل كتابة رواية غاية في الرقة والعذوبة والسحر.

بسبب تلك العلاقة الآسرة بالجمال ينسى بطل الرواية واقعه، كونه رجلا أفلت قدراته الحسية وتلهمه أحلامه حين ينام حياة تمنى لو عاشها. ينسى بطل الرواية واقعه مدفوعا بقوة الجمال إلى عالم هو من صنع الخيال.

ولو وُهب المرء فرصة النظر إلى مكان يزوره من خلال عيون أبناء ذلك المكان لرأى جمالا سيظنه كامنا تحت المشاهد التي سبق له أن رآها من غير أن تترك أثرا فيه. ذلك ما حدث لي حين صرت أرى تونس بعيني صديقي رضا العموري وهو صاحب قاعة رواق الفنون بالمنزه ومن بعدها صالة أرتميس في الحمامات.

لقد أحببت بسببه أغنية رائد الغناء التونسي الحديث الهادي الجويني التي يقول فيها "لا موني اللي غارو مني/ وقالو لي أش عاجبك فيها/ جاوبت اللي جهلو فني/ خذو عيني شوفو بيها."

تونس التي رأيتها من خلال عيني رضا العموري لم أرها في رسوم الفنان الشهير بول كلي الذي زار في بداية القرن العشرين القيروان وسيدي بوسعيد وغيرت زيارته تلك أسلوبه الفني ووهبت تاريخ الفن أجمل الأعمال الفنية. لا لأن العموري هو ابن صفاقس الذي فتح عينيه فيها على جمال نسائها فحسب، بل وأيضا لأنه وجد في تسويق الجمال والترويج له مهنته التي أفنى فيها عمره.

لقد أنساني العموري بول كلي. حل جماله محل جمال لوحات الرسام الذي يعتبره بعض نقاد الفن أكثر أهمية من بيكاسو من جهة سعة نطاق تأثيره. وهو أمر صحيح.

قبل أيام أغمض صديقي رضا العموري عينيه الواقعيتين إلى الأبد غير أن عينيه اللتين رأيت من خلالهما جمال تونس ستبقيان مفتوحتين وهما تشيدان بلادا كان صوته جسري إلى لذائذ العيش فيها.

جمال ما فعله صديقي جعلني أقدم الشكر على الرثاء فكان غيابه مناسبة لشكره.

18