ربيع الرياض العربي جيواستراتيجي بامتياز

دشَّنت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى عواصم الخليج العربي، والتي بدأت منذُ 13 مايو الجاري، بداية النهاية لمصطلح “الغموض الإستراتيجي” الأميركي. هذا المصطلح كان التفسير الأكثر عُقما للأدبيات الإعلامية التي حاولت إيجاد معنى للسياسات العالمية لإدارته.
أعتقد أيضا بأن هوس اصطياده كفرانكشتاين رئاسي، مصنوع من أسلافه، خاصَّة جورج بوش الابن، رونالد ريغان، وريتشارد نيكسون سيبدأ بالانحسار. اللطيف، إنَّ السلف الديمقراطي الوحيد الذي أضيف لتفسير شخصيته، كان الرئيس ليندون جونسون الشهير بلسانِه “السليط”. ضرورة لِسان جونسون نبعت من الحاجة إلى تدريع القيمة السياسية لِرَشَقاته السريعة في العالم الرقمي.. لم يتمتع رئيسٌ قبله بمزيةِ تحويلِ أصابعهِ العشرة إلى أفواه. أطباق السياسة الخارجية لإدارته دائما ما أصابت الذائقة الدبلوماسية بأمرين لا ثالث لهما. هما وباستعارةِ مفردات الفرنسي فيليب ريتور عوَّدتا حُليمات التذوق السياسية على “الانسحار أو الاشمئزاز”.
إنَّ من المناسِب جدا تعريفُ هذا الحدث بـ”ربيع الرياض العربي”. أجِدُ هذا الوصف مُناسِبا لمائدة الزيارة الدبلوماسية وأطباق التفاعلات السياسية، سواء تلك التي قُدِّمت في أعمال الزيارة مثل “طبق دمشق” والذي تعهد فيه الشيف الأميركي بإزالة العقوبات أو تخفيفها من أجل الرياض حصرا، أو ما سيأتي بعدها.
تل أبيب التي أُصيبت برغبة مهووسة للتطبيع مع الرياض كانت تطمح إلى التخلُّص من عائق تحويل الدول العربية إلى مناطق مفيدة لكل العالم إلَّا للعرب.
المؤكَّد أنَّ الصحافيين، الكتَّاب والمُفكِّرين سيكونون ميَّالين أكثر لوضعه في قالب لغوي لدن صالِح لبعجهِ باللازمة الصحفية الأكثر استهلاكا “ما بعد وما قبل”. والنتيجة ستكون مثل هذا العنوان “العرب بعد الثالث عشر من مايو ليس كما قبله.”
دول الخليج العربي ساعدتها إمكاناتها بالعمل على وضع نقطةِ نهاية السطر لمخاوف تاريخية عبَّر عنها وزير خارجية أميركي أسبق هو جون فوستر دالاس عام 1953 “المأساة أن الدول العربية لا تهتم إلَّا بمشاكِلها المحلّية.” جملةُ دالاس كانت موضوعة في سياق الإشارة إلى إهمال المنطقة لخطر الاتحاد السوفييتي.
كان من الممكن أن يهرُش فروة رأسه لو علِمَ بأنَّ هذه المنطقة المُكبَّلة إمكاناتها ستُجبر على التعاطي مع ملفات عديدة هي بإيجاز ومجاز: صعود قيمة حرير بكين في موازين القوى العالمية، رفض موسكو الحصول على عوائد وضعها في النظام العالمي بسعر صرفِها كقوة إقليمية كُبرى لا عُظمى، واشنطن الساعية لتقليل نسبة حرير بكين في رداء النظام العالمي وحائرة في تقدير سعر الصرف العالمي لموسكو، بروكسل التي تريد البقاء قوَّة عالمية بعضلات أميركية، طهران التي استخدمت ملاعق الميليشيات وصحن الطائفة كي تأخذ خِلسة ما تقدِرُ على حمله من موارد هذا المطبخ العالمي وهي تحملُ لافتة تحذير: أنا نووية. أنا بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء، وإسرائيل التي تحلُم بالفرات والنيل.
السؤال الآن: ما هي أصول السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة؟
أبدأ أولا بدعوة القارئ إلى ارتشاف حساء من الاقتباسات، مأخوذة من مؤلَّفات علماء سياسة وهم على التوالي جوزيف فرانكل، هنري لورانس، تييري دو مونبريال، وانغ جنغ ليه كمحرِّر لآراء عدَّة علماء سياسة صينيين، وريموند هينبوش.
نُمسِك الملعقة مع الرئيس الأميركي فرانكلين في أربعينات القرن الماضي الذي تصوَّر “نظاما عالميا قائما على فكرة أن تتولى كُل دولة الإشراف على مناطق نفوذِها، أي نظاما بحكومة عالمية غير مركزية، أو ما يسمّيه ديغول “نظام التدخل الدائم”. بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، اقترح شيبيلوف وزير خارجية الاتحاد السوفييتي وقتها على واشنطن والغرب، شراء ما يُشبِهُ منديلا في 11 فبراير 1957 كي تمنع موسكو انسكاب حساء النفوذ على رداء النظام العالمي بلا فائدة “تحييد الشرق الأوسط بشكل يسمح للاتحاد السوفييتي بتحديد منطقة نفوذ مُعترف بها مِنْ قبل الأميركان. ورفض هؤلاء المقترح.”
دول الخليج العربي ساعدتها إمكاناتها بالعمل على وضع نقطةِ نهاية السطر لمخاوف تاريخية عبَّر عنها وزير خارجية أميركي أسبق هو جون فوستر دالاس عام 1953
الملعقة والمنديل احتاجا إلى ثمانية عقود تقريبا قبل أن ينضمَّ إليهما طبقٌ مصنوع من دخول واشنطن في حفلة اعترافات كاثوليكية مع القوى العُظمى في محراب المنطقة العربية “سيضطر الاتحاد الأوروبي وروسيا، إن آجلا أو عاجلا، إلى العودة كشريكين لا محالة لهذه الجمهورية الإمبريالية.” أمّا شُرفة التاريخ الصينية فهي تبدو مناسبة لإطلالة أكثر واقعية على فحوى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط عموما “الدفع بنظام جديد في الشرق الأوسط ذي طراز أميركي نحو الساحة العالمية، ومن ثمَّ بناء نظام عالمي جديد تتزعمهُ الولايات المتحدة”.
كان تصوَّر الفم الإمبريالي للمنطقة العربية كحساء وللأسف الشديد إرشادات مغلوطة من تل أبيب. هذه المنطقة مائدة وكراس لا قيمة للملعقة وصولا إلى الطبق دونها “هذا المخرج لا يمكن نسبه إلى حكمة صُنَّاع السياسة الأميركيين مع استثناءات قليلة مثل التلاعبات المكيافيلية لكيسنجر.”
وهنا نحن قد أصبحنا في حاجة إلى السؤال التالي: ما هي أصول السياسة الداخلية والخارجية التي مسكها ترامب؟
أحسُب بأن لا أحد قبل اليوم انتبه بما فيه الكفاية إلى النتائج الجانبية للسياسة الاستقطابية التي اتبعها الحزب الديمقراطي الأميركي مع الناخب “سياسة الهوية”، إضافة إلى بنطال سياساته الليبرالية الدولية حيثُ حاول الحزب الأزرق أن يحشر فيه كل سيقان السياسات العالمية.
السياسة الخارجية الأميركية التي مسكها ترامب كانت قد تأسست منذ الحرب العالمية الثانية وبحسب جانيس ج. تيري كي ينخفض فيها مستوى “تدخل الكونغرس بصورة عامة وارتفاع وتيرة تدخل الرئيس، ومستشاريه المقرَّبين، ومجلس الأمن القومي بصفة خاصة.” أمَّا العصي الموضوعة في دولاب السياسة الخارجية لأي رئيس أميركي، فنستطيع اختصار ما ذكرهُ جوزيف فرانكل عنها “وجود أكثر من 45 جهة تابعة له تهتم بالسياسة الخارجية إضافة إلى تأثير الكونغرس ذي المصالح الفرعية والمحلية.”
ترامب جاء في لحظة فاصلة، ارتصفت فيها كواكب طلوعه الفريد ومنها: سياسة التوجه شرقا، الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب، موجة نزوح بشرية هائلة من العالم الثالث إلى الأول، تل أبيب تتصبب عرقا من لُهاث الفُرص والمخاطر الإستراتيجية “الاتفاق النووي مع طهران”، بروكسل ثقيلة الحركة، وموسكو قد صنعت من دمشق قالب زُبدة لنفوذ شرق أوسطي يُسهِّل هضم كييف، الرئيس نفسه كان حافزا لزيادة تماسك أعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس وارتفاع نسبة تأثيرهم في السياسات الخارجية، والأهم صعود أسهُم “اللوبي اليميني الأبيض” على حِساب اللوبي الإسرائيلي.
شِعارهُ “لنجعل أميركا عظيمة مرَّة أُخرى”، استقطب جميع المعنيين بالسياسة الخارجية الأميركية. وضعهم أمام خيارين أولُّهما كلاسيكي والثاني ترامبي “إمَّا مصالح واشنطن مع الحلفاء وإمَّا مصالح واشنطن قبل الحلفاء وحتّى مع الخصوم.” النتيجة العالمية كانت وبكلمات ريموند هينبوش “إذا لم تستطع بفاعلية أن توازن تهديدا لقوة ما، أرضِها.”
السياسة الخارجية الأميركية التي مسكها ترامب كانت قد تأسست منذ الحرب العالمية الثانية وبحسب جانيس ج. تيري كي ينخفض فيها مستوى "تدخل الكونغرس بصورة عامة وارتفاع وتيرة تدخل الرئيس، ومستشاريه المقرَّبين
السؤال الأهم و الأخير: ما هي أصول تعريف زيارة ترامب بـ”ربيع الرياض العربي”؟
الربيعُ العربي الذي ضرب المنطقة العربية تحديدا عام 2011 كان بتعبير البروفيسور محمد أيوب “جيواستراتيجي بامتياز”. هدفهُ الأساس وبحسب أيوب أيضا وباختصار “القوى العربية الرئيسية، بشكل خاص، مع احتمال استثناء السعودية العربية، لن تكون في موقع يؤثر على المخرجات الإقليمية إلى حدّ كبير لعدّة عقود قادمة. هذا يترك ثلاث قوى غير عربية – إسرائيل، تركيا وإيران – كلاعبين إقليميين رئيسيين.”
كان ذلك نتيجة تعامل العقلية الأميركية مع السياسات العربية عموما وفق منهج خيالي روماني المزاج، أي وبحسب عالم السياسة الأميركي هانز. جي. مورغن ثاو كـ”أحيزة سياسية خالية.” بكين وفَّرت للرياض وطهران في العاشر من مارس 2023 فُرصة لإعادة علاقاتهما الدبلوماسية.. أي لا توجد في السياسات العربية سطور بيضاء وإنَّما فراغات مُخصَّصة للتسويات والصفقات. حاجة واشنطن إلى صفقة نووية مع طهران كي تستطيع الانحناء شرقا، أججت عشقها القديم للإسلام السياسي ذي الطبعة الإخوانية. ريشار لابيفيير أشار إلى ذلك سنختزلُها بذكر التالي “كان الأميركيون دائما يعشقون الإخوان المسلمين لأنهم يستطيعون معهم تجزئة الحقل السياسي، وإضعاف أو حتى تقسيم الدولة – الأمة.”
جاء ذلك متزامنا نسبيا مع ترويج تل أبيب لنظرية “القرى”، الهادِفة إلى منع الغرب من التحالف مع العرب وترويجها للتحالف مع الأقليات الأصلية في المنطقة العربية. تُشكِّل النسبة المئوية للأقليات في منطقة الشرق الأوسط بحسب دراسة أعدَّها الباحث حسّان بن نوي “28.8 في المئة من إجمالي السكان الذين يبلغ عددهم 194 مليون نسمة (إحصائيات سنة 2007).” ما تقدم كان مدخنة خرجت منها أدخنة مصطلح “المناطق المفيدة” في أدبيات التحليل السياسي لرؤية المنطقة العربية كبديل عن الدول المفيدة إن صحَّت اللفظة. هذه المناطق وبحسب لابيفيير “المراكز الحضرية التي تؤوي المراجع صاحبة القرار تقليديا والمناطق التي تحتوي ثروات طبيعية كالغاز والنفط وخطوط المواصلات الرئيسية واختيرت لأجل تمركز القواعد العسكرية الرئيسية والثانوية.”
تل أبيب التي أُصيبت برغبة مهووسة للتطبيع مع الرياض كانت تطمح إلى التخلُّص من عائق تحويل الدول العربية إلى مناطق مفيدة لكل العالم إلَّا للعرب. جانيس ج. تيري قالت عن ذلك “كانت أهمية المملكة العربية السعودية بالنسبة إلى المصالح الإستراتيجية والاقتصادية الأميركية عائقا أمام عدائية اللوبي الصهيوني للدول العربية.”
ربيع الرياض العربي يُمكن ترجمته بالاحتمالات المعقولة جدا لمستقبل عربي أفضل وليس الحتميات التاريخية سواء السوداء منها أو الوردية. الناتجة من قعود النظام الإقليمي العربي على التل ومراقبة تموضعِه في مستوى من السياسات العالمية لا يرغبُ به. دول الخليج العربي سبقت دول المنطقة بتبني الضرورة التي أشار المُفكِّر والصحافي المصري الشهير محمد حسنين هيكل إلى أهميتها في السياسات العربية “قبول التعدد في سياساتها الخارجية.” الأهم أن سياساتِها كانت تعبيرا رائعا عن جملة شهيرة للبروفيسور غسان سلامة ومفادُها بحسب ذاكرتي “كُل الدول منذُ أن وجدت على البسيطة تتآمرُ على بعضها الآخر لكن هذا لا يعني أن تكون صِفرا في المُعادلة.”