السعودية والإمارات والمغرب تستعرض جماليات المعمار العربي في بينالي البندقية

العمارة فن إنساني عريق يمثل ثقافة كل مجتمع وتصوراته الجمالية والفكرية وتفاعله مع بيئته ومناخها، من هنا يسلط بينالي البندقية للعمارة 2025 الضوء على فنون المعمار في مختلف أنحاء العالم، مركزا بشكل أساسي على ثيمة المعمار والاستدامة، خاصة مع ما يشهده العالم من تحديات بيئية كبرى.
البندقية (إيطاليا) - تستمر فعاليات النسخة الـ19 من بينالي البندقية للعمارة من العاشر من مايو الجاري إلى غاية الثالث والعشرين من نوفمبر 2025، بمشاركة دولية واسعة.
وتشارك البلدان العربية بعدد من الأجنحة التي تسلط الضوء على جماليات العمارة العربية، وعلى رأسها الجناح السعودي والمغربي والإماراتي، التي يعرض كل منها جزءا من العمارة العربية المتنوعة.
حماية التراث
افتتحت الهيئة الملكية لمحافظة العُلا معرض “الأسطح العميقة.. العمارة لتعزيز تجربة الزائر في مواقع اليونسكو”، الذي تنظمه الهيئة بالشراكة مع منظمة “اليونسكو”، ضمن فعاليات بينالي البندقية للعمارة 2025، في قصر زورزي بمدينة البندقية الإيطالية، حتى 23 نوفمبر 2025.
ويستكشف المعرض عالم العمارة متعددة الوظائف التي صُممت لتعزيز تجربة الزائر في مواقع التراث، مع التركيز على مراكز المعلومات والزوار، وطُور هذا المعرض بالتعاون مع مواقع اليونسكو المختلفة حول العالم، ويتناول دور العمارة في تحسين تجربة الزوار، وربط الروايات بالناس والمكان، مع الإسهام في حماية الإرث الثقافي المشترك.
المعرض يتيح للزوار فرصة لاكتشاف دور العمارة في تعزيز حماية التراث، وتنظيم الوصول ودعم الاقتصادات المحلية
ويضم المعرض أكثر من 50 منشأة في مواقع معترف بها من قبل اليونسكو، مثل مواقع التراث العالمي ومحميات المحيط الحيوي والجيوبارك العالمية، وتشمل مبانٍ جديدة، ومواقع تاريخية أعيد تأهيلها، وتدخلات معمارية صغيرة، ومراكز لا تزال قيد الإنشاء.
ويتيح المعرض للزوار فرصة لاكتشاف دور العمارة في تعزيز حماية التراث، وتنظيم الوصول، ودعم الاقتصادات المحلية، وتعزيز الشمول الاجتماعي، إلى جانب السعي إلى ترسيخ هذه المواقع بيئات تعليمية للتنمية المستدامة والمواطنة العالمية، استجابةً لتعقيدات التحديات المعاصرة.
ويسلط المعرض الضوء أيضًا على مدينة الحجر الأثرية في العُلا، التي تعد أول موقع سعودي يُدرج على لائحة التراث العالمي لليونسكو، وستُعرض مجموعة من المبادرات التفسيرية التي تهدف إلى إشراك الجمهور وحماية هذا الموقع الثمين، كذلك الجهود المشتركة بين الهيئة الملكية لمحافظة العُلا واليونسكو لتطوير نموذج مرجعي لأفضل الممارسات، ضمن شراكة أوسع لحماية التراث وتحقيق التنمية المستدامة.
ويرافق المعرض تركيب فني بعنوان “السحابة”، وهو هيكل ثلاثي الأبعاد مكوّن من وحدات معيارية، ليوفر تجربة عرض ديناميكية وغامرة، ويُستخدم هذا التركيب لعرض بيانات كمية ونوعية، وترمز وحداته إلى طبقات من الأسئلة والاكتشاف، مستندًا إلى نظام لوني موجّه يساعد الزوار على استكشاف مراكز الزوار متعددة الوظائف من خلال أربعة محاور رئيسية: تفسير التراث، دعم إدارة المواقع، تعزيز الوصول والشمولية والاستدامة، والعمل مع المجتمعات ومن أجلها، ويؤكد التصميم على استخدام تقنيات إنتاج مبتكرة ومواد مستدامة وممارسات صديقة للبيئة، انسجامًا مع التزام المعرض بالتصميم الواعي.
العمارة المستدامة
الأجنحة العربية تقدم العمارة كأداة فاعلة للتغيير الإيجابي وقادرة على تقديم حلول مُبتكرة ومُستدامة للتحديات العالمية المعقدة
في قلب مدينة البندقية العائمة، استهل الجناح الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة رحلته التفاعلية مع الزوار ضمن فعاليات الدورة التاسعة عشرة للمعرض الدولي للعمارة في بينالي البندقية، الذي انطلق السبت العاشر من مايو الجاري.
ويحمل الجناح بين طياته مشروعا استثنائيا بعنوان “على نار هادئة”، يتجاوز حدود كونه مجرد محطة لعرض إبداعات فنية ومعمارية، ليصبح بمثابة استكشاف معمق لعوالم الاستدامة والأمن الغذائي، حيث يسعى هذا المشروع الطموح إلى تقديم حلول معمارية مُبتكرة تنسجم بذكاء مع تحديات البيئات الصحراوية، مستلهما من ثراء التراث الإماراتي ليقدم رؤى مستقبلية تتخطى حواجز الزمان والمكان.
ورأت الأستاذة الجامعية والمعمارية عزه أبوعلم، القيمة الفنية المُشرفة على الجناح الوطني لدولة الإمارات في هذا المحفل المعماري العالمي الرفيع، أن معرض “على نار هادئة” يمثل دعوة ملحة للتأمل العميق في مستقبلنا الغذائي، واستكشاف الدور المحوري الذي يمكن أن تضطلع به العمارة في تحقيق الأمن الغذائي المنشود في البيئات الصحراوية.
وقالت إن المعرض يسلط الضوء على عظمة الإرث المعماري الإماراتي الأصيل، ويكشف عن إمكانية استلهام حلول مبتكرة من حكمة الماضي لمواجهة تحديات المستقبل، مؤكدة إيمانها الراسخ بأن العمارة أداة فاعلة للتغيير الإيجابي وقادرة على تقديم حلول مُبتكرة ومُستدامة للتحديات العالمية المعقدة.
وحول أبرز ما يجعل زيارة معرض “على نار هادئة” في بينالي البندقية تجربة لا تنسى، أوضحت المعمارية عزة أبوعلم أن الزائر سيحظى بفرصة استكشاف آفاق الحلول المبتكرة للأمن الغذائي في المناخات القاحلة، واكتشاف الجماليات الخفية للتراث الإماراتي في فن العمارة وكيفية تكيّف الخبرات المحلية مع الظروف البيئية الفريدة، كما سيتمكن من التعرف على نماذج عملية للتصميم المستدام من خلال التركيبات التجريبية للبيوت الزراعية، ومشاهدة أحدث التيارات في عالم العمارة المستدامة التي تقدم منظورا استشرافيا لدور العمارة في بناء أنظمة غذائية مُستدامة.
وأضافت أن المعرض يعد كذلك تجربة فنية فريدة تمزج بين العمارة والفن والتصميم القائم على البحث، مما يثري الحواس ويحفز الفكر، ويُمكّن الزائر من اكتساب رؤى مستنيرة حول التحديات العالمية من خلال ربط التحديات المحلية بالقضايا العالمية، مشيرة إلى أن المعرض يقدم نافذة على جوانب ملهمة من الثقافة الإماراتية، ويتيح فرصة للتفاعل مع نخبة من الخبراء في العمارة والتصميم، والمشاركة في حوار عالمي ملهم حول مستقبل العمارة، حيث يمثل بينالي البندقية منصة عالمية مرموقة لهذا الحوار.
واختتمت أبوعلم حديثها بالتأكيد على أن بينالي البندقية يمثل منصة عالمية فريدة لعرض الأفكار المُبتكرة وتبادل الخبرات القيمة، معربة عن اعتزازها بتمثيل دولة الإمارات في هذا المحفل الدولي المهم، وقالت إن المشاركة في بينالي البندقية تتيح فرصة استثنائية لإبراز الإبداع الإماراتي على الساحة العالمية وتعزيز الحوار الثقافي البناء بين مختلف الأمم، مؤكدة سعي دولة الإمارات من خلال هذه المشاركة إلى تقديم رؤية متميزة في مجال العمارة المستدامة والمساهمة بفاعلية في تشكيل مستقبل أكثر استدامة وابتكارا لفن العمارة.
البناء بالطين
كما افتتح الجناح المغربي ضمن فعاليات الدورة التاسعة عشرة من المعرض الدولي للعمارة “بينالي البندقية 2025″، من خلال عرض يحتفي بعمارة الأرض المغربية، ويزاوج بين الحرفية التقليدية والتقنيات المعاصرة.
ويحمل المشروع المعروض عنوان “مادة النقوش المتعددة” (Materiae Palimpsest)، وهو من إبداع المهندسين المغربيين الموهوبين، خليل مراد الغيلالي والمهدي بلياسمين، المتوجين في مسابقة وطنية لتصميم وتنفيذ المعرض الوطني في هذا الحدث المرموق. وقد أشرف على افتتاح الجناح رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف، المهدي قطبي، بصفته رئيس لجنة التحكيم، وذلك بحضور المفوض العام للجناح المغربي، محمد بن يعقوب.
وقد جرى اختيار هذا المشروع من بين خمسة ترشيحات ضمن مسابقة أطلقتها وزارة الشباب والثقافة والتواصل المغربية، ووزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة.
وتعكس هذه المشاركة المتميزة التزام المغرب بدعم وتعزيز مواهبها الإبداعية على الساحة الدولية.
ويقدم الجناح المغربي تجربة غامرة في فن البناء بالطين، مسلطا الضوء على استدامته ومرونته وجماليته المتأصلة، من خلال استكشاف الأرض كمادة محلية ومتجددة تكرس مبادئ الاقتصاد الدائري، عبر تقليص النفايات وتعظيم استخدام الموارد على مختلف المستويات.
ومن خلال هذا التوجه المتعدد المقاييس، يسعى الجناح المغربي إلى إبراز سبل نقل المعارف وتثمين مفاهيم الاقتصاد الدائري، مبرزا عمارة الأرض كتعبير عن هوية وطنية مستلهمة من تنوع الجغرافيا وثراء الذاكرة الثقافية، مع التأكيد على غنى العمارة الطينية المغربية، وإمكاناتها كخيار مبتكر ومعاصر للبناء.
ويطمح مشروع “مادة النقوش المتعددة”، حسب مؤلفيه، إلى إعادة تصور الذكاء الجماعي في فعل البناء، عبر إبراز قدرة العمارة المغربية على الصمود والتكيف في مواجهة التحديات البيئية والاجتماعية الراهنة.
ومن وحي العمارة الطينية العريقة في المغرب، التي طورت عبر قرون تقنيات بناء متفردة تماشيا مع الخصوصيات المحلية، يسعى المعماريان إلى إبراز كيف يمكن استلهام هذه الممارسات التقليدية لتلبية متطلبات الحاضر، مع تسليط الضوء على المردودية المستدامة لهذه المادة.
ويشكل المشروع في الآن ذاته تكريما للتقاليد المغربية المتجذرة في النسيج الثقافي الوطني، كما يُحدث حوارا بين الحرفيين التقليديين، حاملي المعرفة الأصيلة، والمعماريين والمهندسين الذين يوظفون أحدث الأدوات، من أجل استكشاف إمكانات صياغة أشكال معمارية جديدة تحافظ على طرق البناء التقليدية وتطورها، مستثمرة في الوقت ذاته التقنيات الرقمية من خلال تجهيزات تفاعلية.
ويضم قلب الجناح مجسمات هولوغرامية تجسد حرفيين مغربيين في لحظات اشتغالهم، مستعرضة حركاتهم التقليدية وأدواتهم وموادهم، كما يحتضن الجناح أعمالا فنية للنسيج من توقيع الفنانة المغربية سمية جلال، التي زينت جدران الفضاء الوطني بإبداعاتها.
ويَعِدُ مشروع “مادة النقوش المتعددة”، حسب القائمين عليه، بأن يكون استكشافا شيقا وعميقا لعمارة الأرض المغربية، حيث يزاوج بين غنى الماضي وآفاق المستقبل، عبر توظيف تقنيات مستدامة.
وقد تم اختيار المشروع عقب المرحلة الأولى من مسابقة معمارية لتصميم وتنفيذ المعرض المغربي ضمن هذا الحدث الفني العالمي، الذي يمثل منصة إستراتيجية لإبراز خصوصية وابتكار العمارة المغربية على الصعيد الدولي.
ويُجسد المشروع تزاوجا بين التقاليد والابتكار، من خلال تجربة تفاعلية تدعو الزائرين إلى الانغماس في فن البناء بالطين، وإعادة التفكير في مفهوم الذكاء الجماعي. كما يتماشى الجناح المغربي مع الموضوع العام لبينالي البندقية لهذه السنة، والذي يتمحور حول “الذكاء.. طبيعي، اصطناعي، جماعي”، وكذا مع شعار “عمارة الأرض” الذي تم اختياره للجناح المغربي.
وتستلهم عمارة الأرض من الممارسات التقليدية المعتمدة على المواد المحلية والمستدامة، لتقدم تصاميم تجمع بين الجمالية والمتانة والتكامل مع المحيطين الطبيعي والثقافي.