"الربيع العربي" ينتمي إلى عصر آخر

شهد الشهر الماضي اندلاع احتجاجات في إحدى مناطق الجنوب التونسي. عندها تساءل البعض إن كان ذلك يؤشر على تجدد أحداث ديسمبر 2010 التي أشعلت شرارة “الربيع العربي”.
ففي منتصف شهر أبريل خرج مئات السكان في بلدة المزونة التونسية ليحرقوا إطارات السيارات ويوقفوا حركة المرور في البلدة الواقعة في محافظة سيدي بوزيد، وهي نفس الولاية التي كان البائع المتجول محمد البوعزيزي أضرم فيها النار في جسده منذ حوالي عقد ونصف العقد من الزمن. وكانت تلك هي الشرارة التي أوقدت نار الاحتجاجات الشعبية التي امتدت على مدى أسابيع لتطيح في نهاية المطاف بنظام حكم زين العابدين بن علي قبل أكثر من 14 عاما.
والاحتجاجات هذه المرة اندلعت بسبب وفاة تلميذين بعد أن انهارت عليهما الجدران المتهالكة لمدرسة تهاونت السلطات المحلية في إصلاحها.
◄ في المعركة الدائرة على كسب قلوب الجمهور وعقولهم، وخاصة في المغرب العربي، ظلت السلطات متيقظة تجاه العلامات المبكرة لعودة عقلية التظلم من "الحقرة" (الاحتقار) بين الفئات المهمشة
لكن أوجه التشابه بين الزمنين توقفت عند هذا الحد. فتونس 2025 ليست تونس 2010. والواقع هو أن كل الدول العربية التي شهدت انتفاضات سنة 2011 (وحتى تلك التي لم تشهدها) تغيّرت بشكل كبير منذ تلك الأحداث.
كان لموجة “الربيع العربي” مفعول الصدمة على المنطقة وكانت نتائجها مخيبة لآمال المحتجين. ترتبت عليها في بعض الحالات حروب أهلية وأحيانا فوضى عارمة وفي أفضل الحالات انسداد في أفق المسارات السياسية.
ففي ليبيا، خلق الفراغ المؤسساتي الذي خلّفه نظام حكم القذافي، الذي استمر لأكثر من أربعة عقود، حالة من الفوضى لم تتجاوزها البلاد إلى حد اليوم، بعد أن فاقمتها التدخلات الأجنبية والصراعات الداخلية.
كما تحولت الانتفاضات في اليمن وسوريا إلى حروب أهلية أتت على الأخضر واليابس في ظل حكام طائفيين قصيري النظر وتدخلات أجنبية جامحة.
أما تونس فقد أعطت في البداية انطباعا بأنها الاستثناء الوحيد الناجح. ولكن عدم كفاءة الحكومات المتعاقبة عليها بعد 2011 وانغماس قياداتها وأحزابها في الصراعات السياسية على حساب الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية جعلاها تلتحق بسرعة بركب التجارب الفاشلة وتقدم تحذيرا إضافيا من مخاطر السعي للإطاحة بالأنظمة من خلال الانتفاضات الشعبية.
ورغم الآمال المعلقة على انتفاضات “الربيع العربي” استمر غياب الإصلاحات الجادة التي من شأنها الحد من الفقر والبطالة في جل الدول العربية غير البترولية ما عمّق الشعور باليأس من آفاق التغيير.
وفقدت معظم الشعوب ثقتها في وعود السياسيين، وبدت أمامها آفاق الانتقال الديمقراطي بعيدة المنال. في هذا الخضم أضحى عامة الناس يعلّقون آمالهم على الحلول الفردية، وخاصة منها الهجرة إلى الخارج. وأصبحت مثل تلك الحلول هي السبيل إلى الخلاص عوض النزول إلى الشوارع.
في نفس الوقت تعلّمت العديد من أنظمة شمال أفريقيا والشرق الأوسط دروسا من “الربيع العربي” بالعمل، ولو بدرجات متفاوتة، على تكييف أساليب حكمها لتجنب تكرار الاضطرابات واحتواء تداعياتها بسرعة عندما تحدث.
◄ اليوم، أصبح "الربيع العربي" جزءا من الماضي، لكن السياسات الحذرة والمهدئة للتوترات لا تكفي لوحدها لدرء الأزمات بشكل دائم
على هذه الخلفية أصبحت قوات الأمن أكثر انضباطا وابتعادا عن ممارسة العنف الشديد عند التعامل مع الاحتجاجات، فيما تعلم المتظاهرون من ناحيتهم اجتناب الأساليب العنيفة عند التظاهر ضد السلطة.
نجحت هذه السياسات إلى حد كبير في منع الاحتجاجات من الانزلاق نحو الفوضى والسقوط في أتون الصدامات الدموية المدمرة، وإن كان كسر حلقات العنف المفرغة لا يزال صعبا في دول تنتشر فيها الأسلحة خارج نطاق سيطرة السلطات، مثل ليبيا والعراق.
ولم يكن من باب الصدفة أن دول شمال أفريقيا التي نجت في التوقي من تداعيات انتفاضات 2011 كانت هي تلك التي انتهجت سياسات أساسها اجتناب استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين.
في هذا الإطار استطاع المغرب النأي بنفسه عن الأزمة بالحفاظ على سلمية الاحتجاجات. كما عوّل على جني ثمار الإصلاحات والمبادرات السياسية التي كان أطلقها في التسعينات ومستندا على الشرعية التي يتمتع بها الملك أمام شعبه.
ورغم الاحتجاجات الشعبية التي امتدت من ديسمبر 2010 إلى يناير 2012، فقد تجنبت الجزائر أيضا إراقة الدماء. وحصّنتها ربما الذكريات الأليمة للعشرية السوداء، وساعدتها العائدات النفطية في التخفيف من حدة الضغوطات الاجتماعية.
وعلى الصعيد السياسي، تعلمت أنظمة الحكم بعد 2011 في تونس وليبيا ومصر أن ممارسات مثل تحويل أنظمتها إلى عائلات حاكمة تنتشر فيها مظاهر الفساد هو سبب رئيسي في تأجيج الغضب الشعبي، وأضحت تعتبر مثل تلك الممارسات خطا أحمر لا ينبغي لها تجاوزه.
◄ كان لموجة "الربيع العربي" مفعول الصدمة على المنطقة وكانت نتائجها مخيبة لآمال المحتجين. ترتبت عليها في بعض الحالات حروب أهلية وأحيانا فوضى عارمة
وتبلور على مدى الأعوام نمط حكم سلطوي أكثر حذرا وحكمة يدرك ضرورة التخفيف من حدة التوترات من خلال إدخال إصلاحات (أو على الأقل إجراءات رمزية) لدرء خطر أيّ اضطرابات محتملة، حتى إن أرهقت هذه الخطوات موازنات الدولة.
قد تكون بعض الحكومات مترددة في القبول بأن الحق في حرية التعبير مكسب لا يمكن التراجع عنه، ولكن لا أحد يستطع تجاهل حقيقة ثابتة هي أن وسائل التواصل الاجتماعي قد وسّعت من نطاق تأثيرها، وأصبحت متقدمة أكثر من أيّ وقت مضى على السلطات ووسائل الإعلام التقليدية.
كما دفعت تداعيات “الربيع العربي” القوى الغربية إلى مراجعة نهجها تجاه المنطقة. وأصبح السعي لتحقيق الاستقرار الأولوية القصوى بالنسبة إليها. وتجاوبت الحكومات الإقليمية معها بالالتقاء معها في منتصف الطريق: فبينما تراجعت أوروبا والولايات المتحدة عن سياسات التبشير بالديمقراطية والسعي لتغيير الأنظمة، تعاونت الدول المطلة على البحر المتوسط مع البلدان الأوروبية في دعواتها لمكافحة الهجرة غير النظامية ومواجهة التهديدات الأمنية العابرة للحدود.
وفي المعركة الدائرة على كسب قلوب الجمهور وعقولهم، وخاصة في المغرب العربي، ظلت السلطات متيقظة تجاه العلامات المبكرة لعودة عقلية التظلم من “الحقرة” (الاحتقار) بين الفئات المهمشة. ولطالما شكّلت هذه العقلية، التي غالبا ما ترتبط بشعور الفقراء والمهمشين بعدم احترام السلطات لهم، مؤشرا ينذر باضطرابات اجتماعية أو سياسية وشيكة.
اليوم، أصبح “الربيع العربي” جزءا من الماضي، لكن السياسات الحذرة والمهدئة للتوترات لا تكفي لوحدها لدرء الأزمات بشكل دائم. ولا تزال هناك حاجة ماسة لإصلاحات حقيقية تسمح باستعادة الأمل في المستقبل وتقليص دواعي اليأس والإحباط. وإلى ذلك الحين، سيظل الكثيرون من بين الأجيال الصاعدة يتطلعون إلى أوروبا بدلا من السعي لحياة أفضل داخل أوطانهم.