"الهواء الطلق للجنون" قصائد تفكك العالم تتأمله وتعيد تركيبه

مسقط- “الهواء الطلق للجنون” مجموعة شعرية جديدة للشاعر العماني إسحاق الهلالي، وهي مجموعة جاءت لتهزم ما يفوق ربع قرن من الانتظار، المسافة الزمنية التي تفصل الشاعر عن ديوانه الأول.
“سادرا في غيبوبة، تتقاذفُني مجرات مهشمة”، هكذا يفتتح الشاعر إسحاق الهلالي كتابه الجديد هذا، مؤنسنا كل الأشياء التي تقعُ بين يديه وفي خياله المترامي، راويا حكاية الإنسان والأوطان، “وشعوب بأكملها تسير عارية إلى حتفها الموقوت”، مجترحا أسئلة نهاية العالم انطلاقا من مأساة فردية لا تدعي الخلاص، فالأمرُ شبه محسوم سلفا: “كان ذلك العالمُ قبل ميلادي وبعد موتي.” فما الذي يوقف هذه الدماء النازفة؟ وكيف للأحلام أن تكون سببا للإقدام على الحياة، والعتمة ذريعتنا في رتق ما تمزق من الأيام؟ فـ”من يخافُ الظلام يخشى المجهول”، و”إذا أردت أن تُشرع بابا لا ينغلق/ أغمض عينيك.”
تتبدى سنوات التجربة والكتابة في كل قصيدة من قصائد “الهواء الطلق للجنون”، هذا الهواء الذي تتآلف فيه الأشياء وتتصادم، تسبحُ فيه كائنات نتعرف عليها بعين شاعر يرى أبعد من الصورة والمشهد. بل يفكك العالم، يتأمله، ويعيد تركيبه بلغة تمزجُ الحسي بالمتحرر من كل ثقل قد يختزل المعنى.
وهذا ما جاءت عليه كلمة الناشر على الغلاف “استغرق الشاعر العماني إسحاق الهلالي ما يفوق ربع قرن ليُنهي تدخين ‘سيجارة على سطح البيت‘ -عنوان ديوانه الأول- وليستنشق، في هذا الكتاب، هواء طلقا للجنون، بقصائد هي رسائل مضيئة تروي البحر وأساطيره، الذكريات والمدن البعيدة وسير الشعراء، ولنتساءل معه عن البلاد والحب والغياب، وكيف يُمسي القمرُ عازف كمان جوال، والبيتُ شاطئا نلجأ إليه، والهدهدُ حكيما يسردُ حكاية الإنسان بظلاله الكثيرة، ومتاهته التي بلا نهاية.”
◄ رغم الفارق الزمني بين مجموعتيه الأولى والثانية يحافظ الهلالي على سمة بارزة في كتابته لقصيدة النثر، إذ نراه شديد الاقتصاد في الألفاظ
بهذا المنحى التصاعدي عبر صفحات الكتاب تتعدد الأماكن والظلال في تكثيف لغوي يوحي ويلمح ويرصد أدق التفاصيل، مراوحا بين الذكريات والمدى البحري المفتوح أمام الشاعر، فالحكاية سيزيفية وعبثية في آن. مثلما نقرأ في قصيدة “أيام وصخور”:
تركتُ خلفي
جثة دفنتُها
فكيف يحيا الميتُ
تتداعى الأيامُ بين يدي
كصخور تنحدرُ من جبال عاتية
لا تخلو مجموعة “الهواء الطلق للجنون” من حس تاريخي استعادي يحتفي فيه الشاعر بأسماء شعراء وكتاب وأمكنة بعينها، في تجوال بين المدن والعواصم والموانئ والقلاع والأسواق الشعبية، فهو كما يصرح “واحد بظلال كثيرة”، حتى وإن كان شاعرا وحيدا “يحرسُ العزلة من الغرباء.”
في قصيدته الـ 41 والأخيرة من الكتاب والتي تحمل عنوان “المجنون” يكتب إسحاق الهلالي:
لم يكنْ مجنونا
ولكنْ يذهبُ كثيرا
إلى البحر
ويجلسُ صامتا

من يدري
ربما من تلك الجهة
ستأتي الحقيقة
هو سؤال الصمت الذي يتفجر قصائد مدهشة تتبع مسارا تراكميا من الخبرات والتجارب والقراءات، يمنحه البحر اتساعا، والهواءُ الطلق جنونا آخر، يتجسد في رهان شعري إبداعي لا يأبه بالزمن وتقطعاته، معلنا عن ولادة ثانية جديدة تفتح أفق الانتظار لشاعر كتب في قصيدة سابقة بعنوان “شجرة اليأس”:
قد أحتاجُ لحبال طويلة
لأنصب مشانق وفيرة
في عرض هذه البلاد
ثم أرسمُ دائرة
أوْدعها رأسي
ورغم الفارق الزمني بين مجموعتيه الأولى والثانية يحافظ الهلالي على سمة بارزة في كتابته لقصيدة النثر، إذ نراه شديد الاقتصاد في الألفاظ قادرا على استنطاق أكثر الأشياء والعناصر المهملة وتحويلها إلى مشاهد وصور شعرية مثيرة، وينظم كل ذلك قدرته الفائقة على الاشتغال من أجل صنع الرموز الشعرية.
وجدير بالذكر أن مجموعة “الهواء الطلق للجنون” صدرت حديثا عن “محترف أوكسجين للنشر” في أونتاريو في 104 صفحات، وهي ثاني مجموعة شعرية لإسحاق الهلالي (عُمان، 1971)، بعد “سيجارة على سطح البيت”، (1998).
وتؤكد قصائد الهلالي التطور الكبير الذي باتت تعرفه قصيدة النثر العُمانية، إذ صارت جزءا لا يتجزأ من مشهد قصيدة النثر العربية، حيث كانت بداياتها مواكبة لانطلاق القصيدة وحضورها داخل متن التجربة الشعرية العربية، وقد استطاعت أن تخلق فرادتها من خلال جماليات تجريبية حداثية مبتكرة وارتباطها العميق بتشكيلات ومفردات للبيئة والواقع العُمانييْن وبتفاعلات الشعراء وحراكهم داخل المحيط الثقافي العربي.