الأدب كله ينبغي أن يتضمن نهاية مفتوحة

ربما تراجعت كتابة القصة القصيرة مقارنة بالرواية، ولذلك عدة أسباب قد تكون من خارج الأدب، وعلى علاقة بسوق النشر والجوائز وغيرها، لكن ما زال هناك روائيون يصرون على أهمية كتابة القصة ومن بينهم الكاتب المصري إبراهيم فرغلي، الذي كان لـ"العرب" معه هذا الحوار.
إبراهيم فرغلي كاتب وروائي وصحافي مصري عمل محررا في العديد من المجلات والصحف العربية مثل مجلة “العربي” الكويتية ومجلة “روز اليوسف” ومجلة “نزوى” العمانية، كما شغل مناصب عديدة في صحيفة “الأهرام” المصرية وله عدد من الإصدارات الأدبية المتنوعة ما بين القصة والرواية، منها “أبناء الجبلاوي” و”قارئة القطار” و”جزيرة الورد” و”مصاصو الحبر” و”معبد أنامل الحرير” و”أشباح الحواس”، وغيرها الكثير.
مؤخرا صدرت له مجموعة “حارسة الحكايات” القصصية عن دار الشروق المصرية. المجموعة تضم ثماني قصص وتقع في 143 صفحة من القطع المتوسط وتناقش العلاقة المعقدة بين الإنسان والماضي عبر شخصيات يلتقي بها القارئ في ثماني قصص كتبت بأسلوب مشوق.
مواجهة الماضي
يرى إبراهيم فرغلي أن الماضي هو “ذاكرة الإنسان، فالماضي لا وجود له من دون ذاكرة، حتى أن البعض يرى أن ماهية الإنسان يمكن أن تعرف بوصفه كائنا يتذكر ويستدعي ماضيه، أو كما يقول برغسون مثلا: إنه ليس من إدراك أو تصور دون ذاكرة. ومع ذلك فالذاكرة تعتمد على حواس تثبت خبراتنا أنها قاصرة أو على الأقل ليست بالدقة التي نتخيلها. فنحن أحيانا نتوهم أننا أبصرنا أشياء معينة، أو ربما نشعر بمشاعر حميمة لشخص ما ثم سرعان ما نتبين أنها ليست مشاعر حقيقية، أو نسمع أصواتا نتوهم أنها أصوات محددة قد لا تكون لها علاقة بالصوت الذي صدر.”

ويضيف “هذا يعني أننا قد لا يمكننا استدعاء الماضي بشكل تام وحقيقي، ومع ذلك فإننا دون استدعاء ذلك الماضي لا يمكن لنا أن نتعرف على ذواتنا الحقيقية الراهنة، وبالتالي توقع ما ستكون عليه أو ما يفترض أن تكون عليه في المستقبل. وأظن أن الوعي بذلك يجعل الشخص قادرا على استدعاء الحقيقي من الماضي وتنقيته من الأوهام. وهذا ما يخلق التصورات التي تعبر عن فهم أعمق للمنجز البشري الحضاري عند بعض الحضارات التي ترى في المتاحف إرثا إنسانيا مشتركا، وجزءا من ذاكرة جماعية بشرية وليس مجرد دلائل على ‘مقدس’ ما.”
ويشدد على أن تقديس الماضي هو الوهم الذي يجعل منه في هذه الحالة سجنا لا أمل في التحرر من قضبانه، وفي هذه القصص كانت هناك عدة محاولات لتناول هذه الظاهرة بشكل ما على مستوى المساحة الفردية والشخصية باستخدام عدسات التقريب التي تعد بين أدوات القصة بشكل عام.
في قصة المغارة، وهي أولى قصص المجموعة، رسم الكاتب ماضي الشخصيات على هيئة الذئاب، وهنا يوضح فرغلي قائلاً “بصراحة لدي قناعة ولا أعرف سببها تتمثل في أن الذئب كائن يجمع بين الشراسة والمهابة والمكر معا. ربما لأنه يرتبط في مخيلتي بأنه حيوان يمتلك قدرة على التفكير، بتأثير الأفلام والتراث. كما يشيع مثلا في تراث مصر القديمة أن أحد الآلهة الذي عرف باسم ‘أنوبيس’، وله وجه ذئب أو ابن آوى كما شاع وصفه، عُرف بأنه حامي القبور، أي حامي العودة إلى الحياة وفق اعتقاد المصريين القدماء، فقد كان مسؤولا عن التحنيط، كما يُرافق روح المتوفى في رحلتها إلى قاعة العدالة، حيث يتم وزن قلبه مقابل ‘ريشة ماعت’؛ أي فكرة العدالة في تقدير ما يستحقه وفق أفعاله في حياته قبل الانتقال إلى العالم الآخر.”
ويؤكد أن “هذا الدور الرمزي تقريبا هو دور ذئاب المغارة في القصة المشار إليها.”
وعن مواجهة الماضي والاستفادة منه ومدى أهميته يؤكد أن “المجتمعات العربية نموذج ناجح جدا في عدم الاستفادة من خبرات الماضي، لأنه من لا يتعلم من الماضي محكوم عليه أن يكرره.”
ويرى فرغلي أنها “أزمة عامة لكنها تخص الأفراد بالأساس. لأن الأفراد بسلوكياتهم الفردية يراكمون حالة جمعية في النهاية بشكل ما. وبسبب سيادة ثقافة النقل على حساب ثقافة النقد والعقلانية فإن العودة إلى الماضي تتخذ شكلا رجعيا، مثل محاولة البعض الزعم بأن أمجاد الزمن الماضي تعني استحضاره. والمشكلة أنه بسبب السطحية وغياب القدرة على قراءة الماضي قراءة موضوعية يتم استحضار القشور السطحية الشكلية. وبالتالي فهذا ليس اشتباكا مع الماضي أو مواجهة له بل مجرد حالة من السطحية تعمق الأزمة بدلا من أن توجد لها حلولا؛ لأنها تستغرق في السطحية والشكلانية.”
ويؤكد الكاتب المصري أن الأمر ليس “مقصورا على جماعات سلفية تريد تقليد الماضي واختلاق نسخ مشوهة مما تظنه ‘الماضي المقدس’، بل ينطبق كذلك على جماعات تتشدق بأفكار حداثية لكنها تتمتع بذهنية سلفية، وبالتالي فهي تنقل من المدونات التاريخية للحداثة دون الوعي بالمتغيرات الاجتماعية والخصوصية الثقافية للمجتمع الذي تنتمي إليه. نحن مجتمعات في احتياج حقيقي ليس فقط إلى مواجهة ماضيها بل وإلى تأمل ذواتها أو حاضرها في المرآة، والانتباه نقديا لعمل مراجعات حقيقية للذات لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي نهضت بها المجتمعات على امتداد تاريخها، أو سقطت لو استمرأت الزيف واللامبالاة بأزماتها العميقة.”
دائما ما يجد الإنسان صعوبة بالغة في فهم العلاقة بين الماضي والحاضر ما يجعلنا نتساءل هل يمكن للإنسان أن يوفق بينهما. عن هذا الأمر الشائك يقول إبراهيم فرغلي إن “العلاقة بين الماضي والحاضر مأزق كبير من حيث قدرة الإنسان على فهمها، وهي سؤال كبير وأساسي في النصوص أو في أغلبها لو شئت. فالذاكرة في استدعائها للماضي تتسم بأنها انتقائية؛ قد تغفل أشياء أو أزمنة أو تفاصيل. وقد تستدعي ذكريات تعود إلى عقود مضت بشكل ساطع وواضح على حساب ذكريات أخرى تعود إلى زمن أقرب كثيرًا.“
إبراهيم فرغلي: المجتمعات العربية نموذج ناجح جدا في عدم الاستفادة من خبرات الماضي، لأنه من لا يتعلم من الماضي محكوم عليه أن يكرره
ويوضح أن “استدعاء الماضي كما يفعل الكثير من أبطال القصص في ‘حارسة الحكايات’ يحدث إما بسبب أزمة ما يتعرضون لها في الحاضر أو موقف ‘آني’ يضغط لاستدعاء الماضي، إما من أجل المقارنة أو لرغبة خالصة في البكاء على الأطلال واعتبار الماضي ‘مقدسا جميلا’ لا يمكن أن يعود. كما قد تتبنى رغبة حارقة لاستدعاء لحظة ما في الماضي، أي استدعاء ما بات مستحيلا، كنوع من التعبير عن الندم، بعد إدراك مدى أهمية لحظة ماضوية محددة وقدرتها على الاستبصار أو التنبؤ.“
أدب بلا إجابات
في مجموعة “حارسة الحكايات” كانت بعض نهايات القصص مفتوحة وتحمل أكثر من تأويل ما يدفعنا إلى التساؤول هل وضع الكاتب تفسير النهايات على عاتق القراء؟ وهنا يؤكد فرغلي على أن “الأدب كله ينبغي أن يتضمن نهاية مفتوحة.”
ويقول إن “الأمر ليس فقط لإشراك القارئ في تأول النص أو تفسيره، بل لأن العالم الذي يعبر عنه الفن القصصي والسرد عموما هو عالم في صيرورة مستمرة. ما قد يبدو اليوم نهاية حدث أو موقف ليس إلا بداية مرحلة جديدة في الحياة، ويفضل أن يحافظ الأدب على هذه الفكرة باستمرار.”
ويستدرك بالقول “الأمر الثاني هو أن العالم بالفعل غامض جدا، والإنسان المعاصر يقف حائرا أمام هذا الغموض فيستسهل التسليم بنظريات المؤامرة كإجابة وحيدة لكل ما لا يتمكن من فهمه. والأدب أيضا عليه أن يمثل هذه الحالة، أي تمثيل حالة الغموض، لا أن يقدم إجابات على ما لا إجابة واضحة عنه. وربما جاءت أغلب القصص على هذا النحو لأنها سمة تقريبا في أغلب أعمالي وليس في هذه المجموعة القصصية فقط.”
القصة في العالم تشهد انتعاشا كبيرا؛ دليل ذلك حصول القاصة الكندية أليس مونرو على جائزة نوبل في الأدب
وعن اختياره عنوان “حارسة الحكايات” كعنوان رئيسي للمجموعة يرى أن “هذا العنوان يحمل قدرا من الجاذبية، كما أنه يرتبط بشكل ما مع مدلول تراثي له علاقة بألف ليلة وليلة، بوصفها المجمع الأكبر لتراث الحكي. وأيضا لأنني واجهت صعوبة في إيجاد عنوان من خارج القصص يمتلك إمكانية التعبير عن كافة حالات القصص المتضمنة. ولكني وجدت أن عنوان ‘حارسة الحكايات’، حتى لو لم يعبر عن بعض قصص المجموعة، فإنه يتضمن تيمة ‘الحكايات’ كمشترك يجمع بين قصص لها طابع سردي طويل نسبيا، على الأقل بالنسبة إلى خبرتي في كتابة القصص التي كانت أميل إلى التكثيف والاقتضاب، لكنها هنا جاءت مسهبة، وثمة ‘حكايات’ فعلا في أغلب القصص، بعضها يشبه تداعيات الذاكرة، تتناسل من بعضها البعض.”
ولعل البعض يرى أن النتاجات القصصية اليوم باتت قليلة مقارنة بالرواية ما يشير إلى قرب اختفائها عربيا وربما عالمياً، بينما يرى صاحب مجموعة ‘حارسة الحكايات’ أننا “نعيش اليوم عالما رأسماليا بامتياز، تحركه الأسواق، وسوق النشر الراهن يضاعف الاهتمام بالرواية بأشكال متباينة، والجوائز تساعد في ذلك بشكل أو بآخر. وبالتالي من البديهي انتعاش الرواية. ومن اللافت أن بعض المجتمعات بدأ كتابها بالرواية مباشرة، وهو أمر لم يكن شائعا في الأدب العربي المعاصر.”
ويضيف “قلة إنتاج ونشر القصص في الوقت الحالي قد تكون من بين أبرز أسباب ظهور هكذا أجيال. لكن القصة في العالم تشهد انتعاشا كبيرا، وليس أدل على ذلك من حصول الكاتبة الكندية المبدعة أليس مونرو على جائزة نوبل في الأدب مثلا، وهي لم تكتب سوى القصة، بالإضافة إلى ظهور جائزة عربية رسخت حضورها وفاعليتها في الاهتمام بفن القصة القصيرة وهي جائزة الملتقى للقصة العربية التي تقام في الكويت. وخلال العقد الأخير يبدو لي أن القصة عادت إلى الانتعاش بشكل ما، على يد كتاب من أجيال مختلفة.”