براين كارلسون يرسم صرخة لاستعادة إنسانيتنا

جعل الفنان الأميركي براين كارلسون أعماله صوتا للمهجرين والمعذبين في كل بقاع الأرض، ضد كل أشكال التبعية لأنظمة سياسية تقمع شعوبها، معيدا سرد مآسي العصر الراهن، حيث يرصد ملامح شخوص أرهقتها الحياة وهي تحاول الفرار من قبضة موت محتم، ما جلعه واحدا من أبرز مناصري القضايا الكبرى والمدافعين عن البيئة وساكنيها.
الفنان الأميركي براين كارلسون لا يرسم شعارات، ولا يصفّ لوحاته خلف راية أو نظام أو حزب أو جماعة. لوحاته لا تصرخ من أجل أيديولوجيا، بل من أجل البشر، أولئك الذين سحقهم العالم تحت ركام صمته. هو فنان يرفض القتل أيا كان مصدره، ويجرّم آلة الحرب مهما تلونت أعلامها.
في أعماله، لا نجد سوى الإنسان، حين يُهجر، حين يُكسر، حين يُدفن طفلا أو يُحرم من ذراعيه. يصوّر مدينة دمرها القصف، أمّا تقبّل يد ابنها الشهيد، وطفلا بلا أطراف، لكنه بأجنحة من كرامة.
براين، الفنان الأميركي، اختار المسار الأصعب. ترك وطنه، واختار المهجر، مستقرا في الأرجنتين ليكون أقرب إلى البسطاء، إلى الناس، إلى الحقيقة. لم يُخدع بصورة “الآخر” كما ترسمه وسائل الإعلام الغربية، ذلك العربي أو الفلسطيني أو الأفريقي الذي يُصوَّر دوما كمشروع فوضوي أو إرهابي. في فنه، ينتصر براين للمدنيين الذين لم تمسّ أيديهم سلاحا، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وُجدوا في المكان الخطأ تحت طائرات لا ترحم.
يرسم كل يوم، وكل لوحة كأنها الأخيرة. من الصعب الحديث عن كل أعماله، لكننا سنعرض ثلاثا من لوحاته، رسمها مؤخرا هي أشبه بصرخات لضمير العالم، حكايات من ألوان ودموع، وجمال يشهد على الألم لكنه لا يستسلم له.
امتداد الجرح المفتوح
ما يميز هذا الفنان هو رفضه للاستعراضات، وتفضيله الوضوح العاطفي والنقاء التعبيري، ليصوغ أعمالا تختزل المأساة دون ابتذال
في لوحات براين كارلسون الثلاث “مشهد المدينة المدمّرة”، “قبلة الأم”، و”الفتى المجنّح”، نشاهد تمثيلات بصرية للمعاناة، والأكثر دهشة أننا نتتبع خيطا سرديا متماسكا، كأن كل لوحة هي فصل من رواية كونية عن الألم الإنساني، مكتوبة بلغة اللون والملمس. ما يميز هذا الفنان هو رفضه الصارم للاستعراضات، وتفضيله الوضوح العاطفي والنقاء التعبيري، ليصوغ أعمالا تختزل المأساة دون أن تبتذلها.
من أول نظرة، يمكن للقارئ البصري أن يلمح تقنية سردية عميقة في لوحات براين، ترفض الخطابة أو “الرمزية الثقيلة”، نرى مشهدية مفجعة تشبه اللقطات السينمائية المتروكة للمشاهد ليكمّلها بخياله وتجربته الخاصة. كل لوحة تحوي ما يشبه “الفجوة السردية”، فراغات دلالية تدفع المتلقي إلى التأمل بعيدًا عن التلقين الجاهز.
نرى في لوحة “المدينة المدمرة” أناسا ينتشرون فوق الركام، لا يُحدّثوننا ولا يشرحون ماذا جرى، لكننا نعلم أن شيئا كارثيا قد حدث. وفي لوحة الأم، لحظة قبلة واحدة تنوب عن مجلدات من قصائد الفقد وروايات الضياع والرعب. أما الفتى المبتور، فهو لا ينظر إلى عدسة افتراضية، بل يواجه الكون كله، متسائلا بصمت مهيب.
ويظهر براين اقتصادا في الألوان يعكس لغة البُعد الداخلي، إذ لا يغرق لوحاته بطيف لوني عريض، بل يعتمد على لوحة لونية محدودة، أقرب إلى الباهتة، الرمادية، الترابية، مع تداخلات لونية نابضة بالحياة تُستخدم كضوء داخلي يخرج من الشخصية لا يُسلّط عليها. هذا التقشف اللوني يمنح العمل قوة داخلية ويوجه التركيز نحو “الفعل العاطفي”، لا الشكل الظاهري.
في لوحة “القبلة”، تتباين لمعة الدم القانية على يد الطفل مع باقي التكوينات البنية والرمادية، والمرأة كأنها العذراء العصرية. في لوحة “أجنحة الشفاء”، يسطع الأبيض في الأجنحة وسط ألوان منهكة، كأن النور ينبع من داخل المعاناة نفسها. وهذا ما يعزز حس القداسة حول الشخصية، ليس من خلال “الهالة التصويرية”، بل من خلال اندماجها الصامت في محيط مشوش ومضطرب.
ويعتمد كارلسون أيضا على الشكل المتآكل والامتداد المفتوح، إذ من أبرز خصائص أعماله الشكلية هو عدم اكتمال التكوين النهائي، حيث تبدو الحواف متآكلة، والعناصر غير مكتملة، والتفاصيل تذوب في الخلفية. هذا ليس خطأ أو تسرعا، بل اختيار مقصود يمنح الأعمال طابعا شعريا مفتوحا وغير مغلق دلاليا، كأن كل لوحة تقول: هذه ليست نهاية المشهد، الركام في اللوحة الأولى يمتد إلى خارج الإطار، الأم في الثانية محاطة بخطوط خافتة وغير محددة، والفتى في اللوحة الثالثة تنتهي يداه قبل أن تبدآ، لكن أجنحته تستكمل الرحلة.
هذا التآكل في الشكل يُغني المعنى، ويغرس الواقع فيه. كما أن تقنية التآكل تمنح اللوحة بعدًا زمنيا مفتوحا، فما نراه ليس لحظة عابرة بل جزء من سيرة مستمرة، كأن براين يهمس بأن ما نراه هو العالم الجديد، عالم المستقبل، وللأسف الحروب والاستبداد والأنانية تطحن المساكين في فلسطين واليمن وأفريقيا، وحتى في بلده الولايات المتحدة حيث يعاني البعض من الجوع والمرض. يخلق براين التماهي العاطفي مع الشخصيات، فهي لا تبدو “مكتملة جاهزة للتلقي”، بل ككائنات حية لا تزال تنمو أو تتلاشى أمام أعيننا.
في لوحاته الثلاث "مشهد المدينة المدمّرة" و"قبلة الأم" و"الفتى المجنح" نشاهد تمثيلات بصرية للمعاناة ونتتبع خيطا سرديا متماسكا
وتتسم أعماله بالبساطة العميقة: فكرة أو فكرتان تكفي. ولا تسعى أعماله لإرباك المتلقي، وليست لوحات مزدحمة بالتفاصيل أو الرموز. في كل عمل، نجد فكرة مركزية واحدة أو اثنتين واضحة، مؤثرة، ومصوغة باقتصاد بصري عال.
في “القبلة”، لا شيء يصرف الانتباه عن العلاقة بين الأم وابنها الشهيد. في “أجنحة الشفاء”، الفتى هو المحور الوحيد، والخلفية لا تنافس حضوره، حتى في لوحة المدينة، رغم كثرة العناصر، يبقى الإنسان في المقدمة، وتُعامل الخلفية كصدى لا كغابة سردية.
ويبدو أنه يرفض البلاغة التشريحية والمثالية، إذ لا تسعى لوحاته لمحاكاة الواقع تشريحيا. الأجساد ليست متقنة التفاصيل من ناحية علم التشريح، والوجوه لا تتبع معايير الجمال أو المثالية الكلاسيكية، بل إن هناك تخشينا مقصودا، وضربات فرشاة متوترة، وتضاريس حادة، تعكس القسوة وتبتعد عن الجمال المصفّى، لكنه، في الوقت ذاته، لا يُهمل التعبير، بل يمنح لكل شخصية قوة داخلية، صوتا صامتا، وحضورا قدسيا غير قابل للتجاهل.
ومن أروع ما في أعمال براين كارلسون أنه لا يُقدّم ضحاياه ككائنات مكسورة، بل ككائنات تستحق التبجيل. هناك نوع من “القداسة الصامتة” يطبع ملامحهم، سواء كانت أمًّا أو فتى أو جمهورا يفتش بين الأنقاض. لا نرى فيهم استجداءً ولا شكوى، بل حضورا إنسانيا كاملا، متماسكا، رغم كل الفقد.
هذه اللمسة شبه السريالية – أن تُمنح شخصيات محطمة أجنحة أو أضواء داخلية – لا تأتي من استعراض تقني، بل من فلسفة جمالية تقول إن الإنسان لا يقاس بجسده بل بروحه.
اللوحة كفعل مقاومة

في إحدى الصور المنشورة على بروفايله في موقع فيسبوك، يقف براين كارلسون بجانب إحدى لوحاته كما لو أنه يحرسها، لا كفنان يتفاخر بإبداعه بل كناشط يُدافع عن أرواح مجروحة وكرامة مهدورة. وجهه الصارم، وملابسه البسيطة، ووضعه الجسدي المتواضع، يقول لنا أكثر مما تقول الكلمات: هذا الرجل لا يرسم ليجني المال أو ينال الأوسمة والصفات، بل يرسم ليقاوم.
إنه لا يكتفي بمواجهة الإبادة الجسدية، بل يُشهِر فنه في وجه إبادة الكرامة، ومحاولات تشويه الضحايا، ونزع إنسانيتهم. يرى في العالم الجديد، ذلك الذي تصنعه القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، نظاما يعيد إنتاج العبودية، ويعيد تدوير الاستعمار بقفازات نظيفة. لذا، فإنه يقاومه عبر ما يملكه: اللون، الخط، الكلمة، والموقف.
ورغم أنه رجل في السبعينات من عمره، لا يعيش براين على أمجاد الماضي، ولا يتقاعد في صمت مريح، بل يمضي أيامه في المرسم، يكتب بيانات غاضبة، يشارك في المظاهرات، ينشر أعماله في معارض شعبية، ويساهم عمليا في حملات إنسانية تعيد للأطفال أطرافهم، وللأمهات بعض أملهن.
براين كارلسون فنان مناصر للبيئة، كاره للعنصرية، ساخط على الظلم، عاشق للسلام العادل غير المزيف. وهو في كل ما يفعل، لا يدّعي النقاء، لكنه يرفض الصمت، وهذا وحده يكفي ليدخله ضمير الزمن القادم من أوسع أبوابه.
لوحاته، وكتاباته، وصورته هذه، كلها تقول: ما زال هناك من يرفض أن يكون شاهدا صامتا. ما زال هناك من يؤمن بأن الفن يمكنه – ويجب أن – يكون صوتا للذين لا صوت لهم.