رشدي فتحي موساوي.. رجل الاستخبارات الذي سيغير صورة الجهاز من الخفاء إلى العلن

في قلب الصورة الجديدة التي تتشكل اليوم حول رجل الاستخبارات الجزائري العميد رشدي فتحي موساوي الملقب بالصادق، تبرز ملامح مختلفة تماما عمّا رُوّج له لعقود.
إنها صورة واضحة المعالم، تُزيح الغبار عن الكثير من الأساطير التي أحاطت بجهاز طالما ظلّ يكتنفه الغموض منذ نشأته الأولى.
من جذوره الثورية تحت قيادة عبدالحفيظ بوصوف، حيث وُلد الجهاز في رحم الكفاح التحرري، إلى تحوله في السبعينات إلى مؤسسة تُثير الرهبة في عهد الكولونيل قاصدي مرباح، مرورا بمرحلة التذبذب في الثمانينات التي تميّزت بتعدد الرؤى والصراعات الداخلية، وصولا إلى سنوات التسعينات، حين اكتسب الجهاز بعدا شبه أسطوري بقيادة الفريق محمد مدين، المعروف باسم “توفيق”، قبل أن ينقلب المشهد كليا مع انطلاق الحراك الشعبي، حيث وجد هذا الجهاز نفسه لأول مرة في موقع الاتهام، مطعونا في شرعيته ومتهما بالإرهاب.
غموض الصورة ووضوح الاختراق
لم يكن جهاز الاستخبارات الجزائري يوما مؤسسة يسهل النفاذ إلى أسرارها، ولا كانت وجوه رجالاته ونسائه مرسومة بوضوح في الذاكرة الجمعية للجزائريين. ما توارثه الناس عن هذا الجهاز كان دوما مزيجا من الغموض، الهيبة، والجاذبية التي تثير الفضول أكثر ممّا تُشبع الأسئلة. صورة شديدة التركيب، يستحيل تفكيكها دون نبش عميق في أرشيف غير موثق، أو شهادة ضباط ظلّوا في عزلة اختيارية أو رحلوا دون أن يتركوا أثرا مكتوبا أو مسجّلا. فقد ضاع الكثير من البطولات والإنجازات الكبرى بين الصمت والمحو، وظلت مجرد إشارات عابرة في خطابات رسمية أو ذكريات متناثرة.
حتى السيناتور السابق دحو ولد قابلية، أحد الذين عايشوا الجهاز من الداخل، قال في حوار سابق لي “لو كتب تاريخ هؤلاء الرجال، لكان اسم رأفت الهجان مجرد هامش في كتاب كبير.” لكن شحّ الكتب والمذكرات والروايات والأفلام، ناهيك عن غياب التحليلات العميقة لمسيرة الجيش وتطوّر جهاز مخابراته، جعل من الاقتراب من هذه “القلعة” المهمة ضربا من المغامرة.
رجل يتقدّم من موقع بالغ الحساسية، وسط معادلة معقدة: جهاز يرزح تحت ثقل إرث طويل من السرية والاتهام، وضباط موزّعون بين صقور وحمائم
مع ذلك، يبقى اختراق الصورة ممكنا، وإن تطلّب قدرا من الجرأة النادرة. وهو ما اختبرته شخصيا عند صدور كتابي “زمن العسكر/القلاع والبوصلة”، حين قررت أن أطرق باب الجهاز مباشرة، حاملا نسخة منه إلى مقر الأمن الخارجي، موجّهة باسمه إلى العميد موساي، المدير الحالي.
كان المشهد سورياليا بحق: جندي يُحدّق فيّ بدهشة، وأنا أضع الظرف البريدي على الطاولة بجرأة ربما لم يعتادوا عليها. لحظة خُيّل إلي أنني من كوكب آخر، أو أنني أمام بشر قادمين من زمن مختلف.
ليست تلك التجربة الوحيدة، إذ سبق لي أن زرت أحد المراكز العسكرية الأشهر بدعوة رسمية، بعد مقال أثار اهتمام المؤسسة. كانت فرصة نادرة خضتها بفضول الباحث لا المراسل، ودوّنت تفاصيلها في تحقيق مطوّل نشرته لاحقا، ضمن ذات الكتاب، والذي للأسف، لم يجد له مكانا في الإعلام الجزائري المحكوم بهاجس الخوف.
كل هذه الذكريات عادت إليّ حين بثّ التلفزيون العمومي لأول مرة كلمة العميد موساي، المعروف بلقبه “الصادق”. لم نرَ صورته فحسب، بل سمعنا صوته أيضا. صوت بدا حقيقيا، لا ذبذبة غامضة كما كنّا نتخيل، وُلد في لحظة إعلامية مفصلية تتحدث عن “الأخبار المضللة”. تلك اللحظة اختصرت المسافة بين الصورة والأسطورة، وجعلت من الهالة القديمة شيئا يمكن لمسه، وربما فهمه أيضا.
من الظلال إلى الضوء
في مشهد بدا لوهلة غير مألوف في تقاليد أجهزة الاستخبارات الجزائرية، وقف العميد موساي، بلباس مدني أنيق، يتقدّم منصة ندوة إقليمية جمعت وفودا استخباراتية من خمس دول أفريقية.
لم يكن ظهوره مجرّد مشاركة رسمية، بل علامة فارقة في مسار مؤسسة لطالما ارتبط اسمها بالسرية والانعزال عن الفضاء العام. موساي، ابن مدينة عنابة، وواحد من الأسماء الثقيلة التي بقيت خارج الضوء لسنوات، شغل سابقا مناصب حساسة، بينها مدير مصلحة مكافحة الإرهاب، وممثل الاستخبارات الخارجية في سفارات الجزائر ببرلين وباريس، قبل أن يُعيَّن مديرا للوثائق والأمن الخارجي خلفا لجبار مهنا.
ورغم أن سيرته ما تزال محاطة بالكتمان، شأنه شأن الكثير من كبار إطارات الدولة، إلا أن ظهوره ذاك حمل رسالة تتجاوز الحدث البروتوكولي. فقد ضمّ الجمع بعض كبار ضباط المؤسسة العسكرية الجزائرية، ليس بالزي الرسمي، بل بلباس مدني، ما أوحى بإشارة جديدة إلى محاولة “تمدين” واجهات المؤسسة، وكسر الصورة النمطية التي حوّلت رجال الاستخبارات إلى كائنات نصف أسطورية، لا تراهم إلا في الظلال، ولا تسمعهم إلا همسا.
على مدى عقود، ساهمت المؤسسة نفسها، عن وعي أو بحكم الضرورة، في ترسيخ هذا التصور؛ حيث ظلّ رجل المخابرات يعيش في العتمة، ويعمل خلف ستائر سميكة، لا اسم له ولا صورة، كأنما هو من طينة غير بشرية.
وهي سمات مرتبطة بلا شك بطبيعة العمل الاستخباراتي نفسه، الذي يقتضي التخفي والتعتيم والانغلاق، لكن هذا التكتّم المزمن، في السياق الجزائري، تحوّل مع الوقت إلى عبء سياسي واجتماعي، وفتح الباب أمام سرديات الخوف والهيمنة، بل والتقديس في بعض الأحيان.
وما بين التقديس والشيطنة، ظل الجهاز حبيس صورته القديمة، حتى جاء الحراك الشعبي في 2019 ليُحدث الشرخ الأكبر.
يومها، رفع المتظاهرون شعارات تساوي بين الاستخبارات والإرهاب، في مشهد دراماتيكي حوّل الجهاز من “الظلّ الحامي” إلى متهم علني في الساحات.
هذا التحوّل الصادم لم يكن نتيجة حدث مفرد، بل ثمرة تراكمات طويلة من الغموض والتوظيف السياسي، من بينها تعيين شخصيات غير مؤهلة في مواقع حساسة، كما حدث مع واسيني بوعزة، أحد المقربين من الفريق الراحل أحمد قايد صالح، والذي وُضع على رأس الجهاز دون خلفية استخباراتية متينة.
ورغم كل ذلك، تظل الحقيقة الأعمق دفينة في صدور رجال الجهاز أنفسهم. أولئك الذين قاتلوا الإرهاب في الجبال والسهوب، وشيّعوا رفاقهم بصمت ووحشة، وهم يرون الآن صورتهم تنهار في عيون مجتمع لم يعرفهم حقّ المعرفة.
قال لي أحد الضباط في لقاء نادر “ما جرى أثّر فينا كثيرا… حتى عائلاتنا تألمت من تلك الصور التي وُصمنا بها.” لقد كانت تلك شهادة لرجل كُتب عليه أن يعيش في الظل، لكنه – مثل موساي – بدأ يستعيد حضوره في الضوء، ولو بخطى بطيئة، ربما تمهّد لمرحلة مختلفة في علاقة الجهاز مع المجتمع والدولة.
بين صقور الظل وحمائم التغيير
وسط المشهد المتغيّر ببطء في المؤسسة الأمنية الجزائرية، يبرز العميد موساي، كأحد الوجوه التي يُعوّل عليها لترميم صورة رجل الاستخبارات، وتوجيهها نحو أفق جديد، أقل توترا، وأكثر انفتاحا.
رجل يتقدّم من موقع رمزي بالغ الحساسية، وسط معادلة معقدة: رأي عام منقسم، جهاز يرزح تحت ثقل إرث طويل من السرية والاتهام، وضباط موزّعون بين “صقور” صنعوا في الجبال وتحت النيران، و”حمائم” تشكّلت رؤيتهم داخل مؤسسات التكوين العالي والبعثات الدبلوماسية.
كان موساي قد ترقّى عبر هذا الحقل الشائك بهدوء وثبات. من مصلحة مكافحة الإرهاب إلى تمثيل الاستخبارات الجزائرية في برلين وباريس، وصولا إلى رئاسة جهاز الوثائق والأمن الخارجي خلفا لجبار مهنا. صعوده لم يكن نتاج قرارات استعراضية، بل خلاصة مسار بعيد عن الأضواء. وقد بدا حضوره مختلفا منذ ظهوره الأخير بلباس مدني أنيق، لا يحمل رتبة ولا شارة، في ورشة نظمتها لجنة الاستخبارات الأفريقية (سيسا).
لم يكن ظهوره مجرد مشاركة عابرة، بل إعلان ضمني عن لحظة مفصلية في علاقة الجهاز بالمجتمع، وعن شخص يحمل مشروعا – ولو خافتا – لإعادة تعريف الاستخبارات في سياق الدولة الحديثة.
الجهاز ظل حبيس صورة التقديس حتى جاء الحراك في 2019 ليُحدث الشرخ الأكبر. ورفع المتظاهرون شعارات تساوي بين الاستخبارات والإرهاب
في قاعة مليئة بوفود استخباراتية من خمس دول، لم يُدهش موساي من الوجوه، عرف بعضها، وتجاهل البعض الآخر بصمت مدروس. وجهه صارم، خالٍ من المجاملات، كما تظهره الصور. لكن من يعرفه عن قرب، يصفه بالرجل الهادئ، اللبق، ابن عائلة محترمة من عنابة. يوم نال رتبة عميد، قصّ التلفزيون لقطة وضع الشارة عن كتفيه، ما أثار أسئلة حول حدود المسموح والممنوع في بث صور رجالات المخابرات، في تقليد بقي راسخا منذ سنوات توفيق، حين كانت الصور تُبث بالخطأ فتُطاح على إثرها رؤوس.
لكنّ المفاجأة الأكبر، كما لاحظها الرأي العام، لم تكن في ظهوره ولا في بدلته المدنية، بل في لغته. نطق موساي بالعربية الفصحى، وبخطاب متماسك حول مخاطر الأخبار المضلّلة، بعيدا عن اللغة الفرنسية التي ارتبطت طويلا بالنخب الأمنية. تحدّث بلغة أمنية تمزج بين الدقة والموقف السياسي، واضعا نفسه في قلب النقاش العمومي حول الإعلام والمجتمع، في زمن تتدفّق فيه المعلومات دون رقيب، وتُهدد استقرار الدول كما تهدّد عقول مواطنيها.
وراء هذا الظهور، تقف تركيبة بشرية معقدة. صقور قاتلوا الإرهاب بالسلاح، وسقط منهم الكثيرون في صمت. وحمائم عاشوا الأحداث الكبرى كمتفرجين واعين، محدودي التأثير في زمن هيمنة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة الذي جعل الاستخبارات جزءا من شبكات النفوذ، ثم أتى قايد صالح ليُحدث انقساما حادا، تحت غطاء “التصحيح”، بقرارات منفردة وصارمة، لا تقبل المراجعة.
اليوم، يجد موساي نفسه على رأس جهاز يحاول استعادة توازنه في بيئة مشحونة، حيث ما زالت شظايا الحراك تلتهب في الذاكرة، حين وُصم الجهاز بالإرهاب. تركة ثقيلة، تحتاج أكثر من إصلاح تقني، بل مراجعة عميقة لطبيعة العلاقة بين الاستخبارات والمجتمع، وبين رجل الدولة ورجل الشارع.
هل ينجح موساي في صياغة هذا التغيير؟ الأمر يتطلب – كما يقول أحد المقربين منه – “عقلا منتبها وخيالا حيا، وشجاعة لإزاحة ثقافة الخوف من الطريق.” يتطلب حوارا صريحا مع النخب والمثقفين، وتقليصا للخطاب السلطوي، والتخلي عن الفكرة القائلة بأن “الحقيقة حكر على جهة واحدة فقط.” فقط بهذه الطريقة، يمكن للمؤسسة أن تعيد بناء ثقتها مع المجتمع، وتستعيد دورها دون أن تثير الفزع.
من تابع خطاب موساي، لم يُفاجأ كما يبدو. في صوته، لمح الكثيرون نغمة تغيير حقيقية. وفي صورته، قرأوا مشهدا جديدا يتشكل بصمت. رجل خرج من الظل، ليبدأ ترميم الجسور مع الداخل والخارج، ومع ماضي الجهاز ومستقبله. فهل سيكون هو من يقود هذا التحول؟ لننتظر ونرى.