الهروب الماكر

الإنسان بهروبه الماكر يُعلّم درسا قاسيا لمن استغله، فالفراغ الذي يتركه خلفه يصبح مرآة تعكس أفعالهم الشنيعة.
الخميس 2025/05/01
هروب من الواقع بكل أعبائه

يُستغل الإنسان المتواضع في كل زاوية من حياته، عندما يبدأ الأمر من الأقربين، والعائلة، التي يفترض أن تكون ملاذا، غالبا ما تتحول إلى مصدر استنزاف، فالأخ يطلب المال دون نية السداد، والوالدان يفرضان مسؤوليات إضافية بحجة أنت الأقدر، والأصدقاء يستغلون طيبته في طلبات لا تنتهي، والزملاء في العمل يحملونه أعباءهم بدعوى صبره وكفاءته.

هذا الإنسان بقناعته البسيطة وعفويته الصادقة، يجد نفسه عالقا في دوامة من التوقعات التي تثقل كاهله، فيُنظر إليه كمصدر للحلول، كمن يُعتمد عليه دائما، دون أن يُسأل عن قدرته أو رغبته، وهكذا تبدأ رحلة الاستغلال التي تتغذى على تواضعه وتُحيله إلى أداة في يد الآخرين.

يُهمَل هذا الإنسان في المجتمع الذي يمجد الطيبة شكليا، لكنه يستغلها بلا رحمة، فيُطلب منه دائما تقديم العون أو حل الخلافات، لأنه الموثوق، وهذه الصورة النمطية التي يرسخها المجتمع تجعله يشعر بأنه مجرد وظيفة، لا شخصا له احتياجات وأحلام، وعفويته التي كانت مصدر قوته، تتحول إلى نقطة ضعف تُستغل بلا هوادة، فيبدأ يشعر بأن قيمته مرتبطة بما يقدمه للآخرين، لا بذاته كإنسان، وهذا الإهمال الممنهج يزرع في نفسه بذور الإحباط، التي تنمو بصمت حتى تصل إلى نقطة الانفجار.

فيصحو هذا الإنسان فجأة، في لحظة قد تبدو عابرة للآخرين، لكنها بالنسبة له نقطة تحول. ربما كانت كلمة جارحة من صديق، أو طلبا متجاوزا من زميل، أو مجرد شعور بالإرهاق الذي لا يُطاق، في هذه اللحظة يتوقف عن تبرير استغلال الآخرين له، ويبدأ في مراجعة حياته، فيتساءل "لماذا أنا دائما من يدفع الثمن؟"، فيدرك أن تواضعه استُغل، وقناعته جعلته فريسة سهلة، وعفويته كانت سلاحا بيد من حوله، وهذه الصحوة مؤلمة، مشحونة بالغضب المكبوت والشعور بالظلم، مدركا أن استمرار هذا الوضع سيدمر ما تبقى من كرامته.

فيتمرد هذا الإنسان بطريقة لم يتوقعها أحد، تمردا ماكرا، صامتا، وحاسما، فيقرر "الهروب الماكر"، فيبتعد عن كل من استغله، دون إنذار أو تفسير، ويترك العائلة التي استنزفته، والأصدقاء الذين استغلوا طيبته، والعمل الذي لم يقدر جهوده، فيغير مكان إقامته، أسلوب حياته، وربما حتى هويته الاجتماعية، كإعادة تعريف له، إنه يعلن بصمته القوي، أنه لم يعد مستعدا ليكون ضحية، ويترك خلفه فراغا يشعر به الجميع، فيدركون متأخرين قيمة ما كان يقدمه.

ويتحرر هذا الإنسان من أغلال التوقعات، ويبدأ في بناء حياة جديدة تعكس قيمه الحقيقية، فيختار بعناية من يسمح لهم بدخول عالمه، ويضع حدودا واضحة لا تُناقش، ويتعلم أن التواضع لا يعني التضحية بالذات، وأن القناعة لا تعني قبول الظلم، وفي هذه المرحلة يدرك أن عفويته يمكن أن تكون مصدر إلهام، لا نقطة استغلال، ويجد السلام في عزلته المختارة، ويبدأ في استكشاف أحلامه التي أُجبر على تأجيلها لسنوات، وهذا التحرر ثورة داخلية تُعيد تشكيل هويته وعلاقته بالعالم.

ويُعلّم هذا الإنسان بهروبه الماكر، درسا قاسيا لمن استغله، فالفراغ الذي يتركه خلفه يصبح مرآة تعكس أفعالهم الشنيعة، فالعائلة التي اعتمدت عليه تدرك أنها فقدت دعامة أساسية، والأصدقاء الذين استهتروا بطيبته يواجهون وحدتهم، والزملاء الذين استغلوا صبره يعانون من غياب كفاءته، والمجتمع الذي اعتاد على أخذه كأمر مسلم به، يتساءل عن سبب اختفائه. هذا الدرس رغم قسوته ضروري، إنه يذكّر الجميع بأن الطيبة ليست ضعفا، وأن الإنسان، مهما كان متواضعا، يملك الحق في حماية كرامته.

18