احتضان ملكي لدول الساحل: نهج إستراتيجي نحو جغرافيا أكثر تكاملا

اللقاء الملكي مع المسؤولين الأفارقة الثلاثة يعكس نهجا جديدا يتبلور بخطوات ثابتة حيث يتشكل تكتل جيوسياسي تلتقي فيه رغبات المملكة وتلك الدول في تنويع تحالفاتها وتوسيع التكامل والتضامن فيما بينها.
الخميس 2025/05/01
علاقات قائمة على احترام الخيارات الداخلية

استقبال العاهل المغربي الملك محمد السادس لوزراء خارجية ثلاث دول من الساحل، وهي بوركينا فاسو ومالي والنيجر، مساء الاثنين، حمل أكثر من دلالة؛ إذ يتجاوز سردية ما هو جغرافي ليشكّل ركائز ثقافية واجتماعية وسياسية ودبلوماسية تتوافق مع رؤية المملكة لأفريقيا والعالم، وعبّر عن التضامن الذي طالما كان حاضرا في جميع محطات التعاون مع الدول الأفريقية منذ عقود طويلة. كما يشكل الإشراف الملكي على مبادرة الأطلسي وكل ما يتصل بالعلاقات مع هذه الدول الثلاث طموحا مغربيا قويا يسهم في بروز قوة إقليمية ممتدة من الداخلة إلى بوركينا فاسو، ما يفتح الساحل على فضاء المحيط الأطلسي.

الزيارة شكلت فرصة لنقل وزراء خارجية التحالف إلى الملك محمد السادس امتنان رؤساء دولهم للاهتمام الدائم بمنطقة الساحل، وكذلك المبادرات الملكية الرامية إلى تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلدان المنطقة وسكانها، ومن ضمنها تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، مؤكدين التزامهم بالعمل على تسريع تفعيلها.

لا شك أن دول الساحل اطلعت على النموذج المغربي في التعامل مع الظاهرة الإرهابية. هذا النموذج نجح إلى أبعد حد، حيث لا يمكن أن تقتصر مكافحة الإرهاب على العمل الأمني فقط

لنتأمل الخطوط العريضة التي تناولها اللقاء من خلال تصريحات نكاراموكو جون ماري تراوري، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإقليمي والبوركينابيين في الخارج، الذي قال “إن الملك محمد السادس كان على الدوام مدافعا كبيرا عن التعاون جنوب – جنوب.” هذا الأمر تجسد من خلال المبادرة الملكية الرامية إلى تشجيع ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، ما جعل هذا الاستقبال الملكي مناسبة للتبادل بشأن التعاون بين المملكة والدول الثلاث، وأيضا بشأن تحالف دول الساحل.

ما دار بين ملك المغرب ووزراء خارجية مالي وبوركينا فاسو والنيجر له مركزيته وراهنيته، نظرا إلى الظروف الإقليمية المعقدة التي تواجهها تلك الدول، والتي تحتم عليها التعامل بسرعة وفاعلية مع التحديات السياسية والأمنية، وكذلك التجاوب مع الآفاق المستقبلية بقدرة أفضل على التنسيق والتنفيذ السريع. برز ذلك مع ابتعاد هذه الدول عن المنظمات الإقليمية التقليدية، حيث شعرت بأنها لا تلبي توقعاتها الأمنية والتنموية والاقتصادية، الأمر الذي دفعها إلى الخروج من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، تعبيرا عن رغبتها في الانفصال عن النهج التقليدي لإدارة الأزمات الإقليمية، الذي أعاق سعيها لتحقيق السيادة وتعزيز القدرات العسكرية والسياسية والاقتصادية.

اللقاء الملكي مع المسؤولين الأفارقة الثلاثة يعكس نهجا جديدا يتبلور بخطوات ثابتة، حيث يتشكل تكتل جيوسياسي تلتقي فيه رغبات المملكة وتلك الدول في تنويع تحالفاتها وتوسيع التكامل والتضامن بما يخدم التعاون الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والأمني. هذا النهج يعد جزءا من الديناميكية التي تنتهجها المملكة المغربية، حيث تعتمد على الترابط الاقتصادي وتبتعد عن كل ما يزعزع الاستقرار، وذلك من خلال حسابات دقيقة للتكاليف والفوائد في ما يتعلق بالصراع على النفوذ والطرق المثلى لاستخدام القوة الناعمة كأساس للعمل السياسي والإستراتيجي داخل القارة وخارجها، إلى جانب الاستخدام المدروس للقوة الصلبة في مكافحة انعدام الأمن والإرهاب.

يعد إنشاء جيش مشترك بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر جزءا من الديناميكية التكاملية المعززة مع المغرب، وسعيا إلى تكثيف العلاقات العسكرية بين البلدين، مع التركيز على مجالي التكوين والتجهيز العسكري للقوات المالية. وفي هذا السياق، استقبلت وزارة الدفاع والمحاربين القدامى في مالي، في فبراير الماضي، وفدا من القوات المسلحة الملكية المغربية برئاسة الجنرال عبدالغني موهيب من المفتشية العامة للقوات المسلحة الملكية، الذي أكد “التزام المغرب بتعزيز التعاون العسكري مع مالي، معربا عن امتنانه للسلطات العليا في البلدين على جهودها في توطيد الشراكة الإستراتيجية بين الرباط وباماكو،” مشيرا إلى أن “المغرب ومالي تربطهما علاقات تعاون وثيقة تمتد لسنوات طويلة في مجالات متعددة.”

ومن ثم، فإن دمج مكونات التنمية والاستقرار في إستراتيجية الأمن أمر ضروري لتوسيع أهداف المبادرة الأطلسية وتحصينها.

المغرب يقدم مبادرة الأطلسي مصحوبة بنموذج واقعي لمكافحة الإرهاب، حيث ستستفيد دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر من تجربة المغرب، عبر تنفيذ سياسات تنموية تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية

ولا شك أن دول الساحل اطلعت على النموذج المغربي في التعامل مع الظاهرة الإرهابية، وذلك عبر اعتماد التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى التدخل الأمني الاستباقي والتعامل الروحي لتقويم الانحرافات الفكرية المتطرفة. هذا النموذج نجح إلى أبعد حد، حيث لا يمكن أن تقتصر مكافحة الإرهاب على العمل الأمني فقط.

لذلك، يقدم المغرب مبادرة الأطلسي مصحوبة بنموذج واقعي لمكافحة الإرهاب، حيث ستستفيد دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر من تجربة المغرب، عبر تنفيذ سياسات تنموية تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية للسكان المحليين، الذين يعانون في بعض المناطق المتضررة من نقص البنية التحتية والخدمات الأساسية، وهو ما يشجع على الانضمام إلى الجماعات المتطرفة.

وباعتبارها ركيزة أمنية محورية للسلام والاستقرار الإقليمي والقاري في ظل تفاقم الاضطرابات العالمية والإقليمية، تقدم المملكة المغربية لدول الساحل والصحراء فرصة نادرة في التحالفات الدولية، حيث توفر منفذا إستراتيجيا إلى المحيط الأطلسي، بما يحتويه من إمكانات اقتصادية هائلة. فالمبادرة الملكية الأطلسية تفتح نافذة ساحلية غير مسبوقة لدول معزولة عن البحر، لتصبح مشاركة في التجارة العالمية، وهو ما ينعكس إيجابيا على التنمية والاستقرار في هذه الدول، ويمكّنها من الانتقال من تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي إلى بناء شبكة تواصل جيوستراتيجية بين قارات العالم، يكون المغرب حجر الأساس فيها.

بعدما انسحبت الدول الثلاث، التي لا تمتلك حدودا بحرية، من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) العام الماضي، وشكّلت تحالفا جديدا باسم اتحاد دول الساحل، فإن انضمام هذه الدول إلى مبادرة الأطلسي يمنحها قدرة أفضل على التنسيق والتنفيذ السريع، خاصة بعدما أظهرت التجارب السابقة أن مجموعة الدول الخمس في الساحل عانت من البيروقراطية ونقص التنسيق الفعّال في مواجهة الأزمات الأمنية والإرهابية.

أمام ديناميكيات جديدة للتعاون والتنمية، اغتنم الوزراء الثلاثة هذه الفرصة للإنصات إلى النصائح القيمة لملك المغرب، وتجديد امتنان رؤساء الدول الثلاث لهذه اليد الممدودة لصالح أفريقيا.

إنها ليست كلمات للاستهلاك الإعلامي؛ هذه الدول تجاوزت منطق الشعارات واتجهت مباشرة نحو تحقيق آمال شعوبها عبر الانخراط في عمل مهني يومي وفعّال.

8