صراع الصلاحيات يتصاعد في ليبيا مع إصدار المنفي مراسيم الاستفتاء

طرابلس - أثارت سلسلة المراسيم التي أصدرها المجلس الرئاسي الليبي الثلاثاء، وعلى رأسها مرسوم تشكيل المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني، عاصفة من الجدل والانتقادات الحادة على الساحة السياسية والقانونية الليبية.
وقد انقسمت الآراء بشكل حاد حول شرعية هذه المراسيم وتوقيتها، مما يعكس حالة الاستقطاب السياسي والمؤسسي العميق الذي تعيشه البلاد منذ سنوات.
ونشرت الصفحة الرسمية للمجلس الرئاسي الليبي الثلاثاء عبر حسابها على فيسبوك ثلاثة مراسيم، يقضي المرسوم الأول بوقف العمل بقانون المحكمة الدستورية الصادر عن مجلس النواب، بينما يحدد المرسوم الثاني آليات وشروط انتخاب المؤتمر العام للمصالحة الوطنية، أما المرسوم الثالث، فقد نص على تشكيل المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني وحدد مهامها.
ويأتي إصدار هذه المراسيم في ظل سعي المجلس الرئاسي المعلن إلى تجاوز حالة الانسداد السياسي والوصول إلى حلول جذرية للأزمة الليبية عبر الاحتكام إلى إرادة الشعب من خلال الاستفتاءات الوطنية.
ويُنظر إلى هذه الخطوة من قبل البعض على أنها محاولة لقطع الطريق أمام لجنة العشرين الاستشارية المشكلة من قبل بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
ولم يمض وقت طويل على نشر المراسيم حتى بدأت ردود الفعل الغاضبة تتقاطر من مختلف الأطراف، وكان في مقدمة المنتقدين رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح.
ووصف صالح المراسيم الرئاسية بأنها "تغولا على عمل السلطة التشريعية ومنعدمة الأثر". وفق بيان رسمي صادر عن مكتبه الإعلامي.
وشدد صالح على أن السلطة التشريعية هي الجهة الوحيدة المخولة بإصدار القوانين في البلاد، ولا يمكن لأي جهة أخرى القيام بذلك إلا في حالات استثنائية ينص عليها الدستور بوضوح، مثل غياب السلطة التشريعية المنتخبة، وهو ما لا ينطبق على الوضع الحالي.
واعتبر صالح أن المرسوم الرئاسي بإلغاء قانون إنشاء المحكمة الدستورية يمثل تعدياً سافراً على صلاحيات السلطة التشريعية ويعد بالتالي "منعدماً".
وأوضح أن الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي الليبي لم يمنحا المجلس الرئاسي صلاحية إصدار القوانين، مؤكداً على أن مجلس النواب يمارس مهامه التشريعية بشكل طبيعي ولا توجد أي ضرورة لإصدار مثل هذه المراسيم.
وبين أن المشرع هو من منح المحكمة العليا في السابق ثم المحكمة الدستورية العليا لاحقا صلاحية النظر في دستورية القوانين، وأن سحب هذه الصلاحية أو منحها يقع ضمن سلطة المشرع التقديرية، مستشهدا بالتاريخ التشريعي الليبي في هذا الشأن، حيث تم منح وسحب هذه الصلاحية من المحكمة العليا عدة مرات بموجب قوانين مختلفة.
وخلص صالح إلى أن قرارات المجلس الرئاسي الأخيرة "والعدم سواء ولا يعتد بها"، معتبرا إياها "ترقى إلى تعطيل عمل المؤسسات الشرعية"، ودعا إلى ضرورة مراجعة اختصاصات المجلس الرئاسي وفقاً لما نص عليه الاتفاق السياسي.
وأكد على أن تنظيم القضاء وإنشاء المحاكم هو اختصاص أصيل للسلطة التشريعية دون غيرها، وأن إنشاء المحكمة الدستورية العليا جاء تلبية لرغبة المشرع في وجود قضاء متخصص بالرقابة على دستورية القوانين.
من جهتها، هاجمت الحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد بشدة المراسيم الرئاسية، واصفة إياها بأنها "اعتداء على اختصاص مجلس النواب".
وقالت الحكومة في بيان لها بأن المجلس الرئاسي لا يملك صلاحية إلغاء القوانين أو تحديد أنواع المحاكم، خاصة المحاكم الدستورية، حتى في حال استمرار شرعيته.
وحذرت من أن هذه القرارات ستؤدي إلى "خلل وانقسام في سير مرفق القضاء الذي لازال واحدا موحدا رغم انقسام كافة مؤسسات الدولة الأخرى".
وأشارت إلى أن المجلس الرئاسي استند في قراراته إلى حكم صادر عن الدائرة الدستورية بمحكمة النقض، والتي "زالت عنها ولاية القضاء في مثل هذه الدعاوى" بعد صدور القانون رقم 5 لسنة 2023 بإنشاء المحكمة الدستورية العليا الذي سحب منها هذا الاختصاص. واستشهدت بحكم صادر عن محكمة جنوب بنغازي الابتدائية قضى بانعدام حكم الدائرة الدستورية لانعدام ولايتها القضائية.
وهاجمت حكومة حماد رئيس المجلس الرئاسي، مشيرة إلى أنه "لطالما رفع شعارات رفض القرارات أحادية الجانب"، ولكنه "انفرد لنفسه بإصدار القرارات بل وحتى ألغى وجود باقي هيئة الرئاسة التي اشترط الاتفاق السياسي موافقتها بالإجماع لإصدار أي قرارات ضمن حدود صلاحياته وإلا صنفت باطلة ومعدومة".
واتهمت الحكومة رئيس المجلس الرئاسي بتكرار هذه التصرفات "كلما اقتربت الأطراف الليبية من توحيد المؤسسات العامة وخاصة السيادية منها"، واستغلال "ما مُنح للمجلس من تعامل دولي مرحلي ومؤقت" لتقويض "كافة المسارات التوافقية الوطنية".
وأكدت حكومة حماد أن ما صدر عن المجلس الرئاسي "لا يترتب عليه أي أثر دستوري أو قانوني ويُعد والعدم سواء"، محذرة من "مغبة الممارسات الخاطئة للمجلس منتهي الولاية" التي تقوض جهود توحيد المؤسسات وتهيئة الظروف للانتخابات.
وشددت على تمسكها بمسار وطني حقيقي يفضي إلى إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في أقرب الآجال، مؤكدة أنها لن تتهاون مع أي جهة تمس المؤسسات الشرعية.
وفي تطور لافت، قال عضو المجلس الرئاسي عبدالله اللافي إن "إصدار المراسيم الرئاسية يتطلب قرارا جماعيا للمجلس، ولا يمكن الانفراد به".
واعتبر في منشور على صفحته في فيسبوك أن "أي إعلان منفرد لا يُمثّل المجلس الرئاسي مجتمعًا، ولا يُرتب أثرا دستوريا أو قانونيا، وهو والعدم سواء"، مما يضعف من شرعية المراسيم الصادرة.
وهذا التصعيد في الخلافات ليس وليد اللحظة، بل يمتد إلى خلافات سابقة بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب حول صلاحيات كل منهما ودور السلطة القضائية. ففي نوفمبر 2024، طالب المنفي مجلس النواب بإلغاء القانون رقم 5 لسنة 2023 بشأن إنشاء المحكمة الدستورية، متهماً البرلمان بـ"محاولة الهيمنة المستمرة على السلطة القضائية من خلال أداة التشريع".
وقد رد مجلس النواب في أكتوبر 2024 بالتأكيد على أن المحكمة العليا لم تعد مختصة بنظر الطعون الدستورية بعد صدور قانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا.
كما أن إعلان رئيس المجلس الرئاسي في أغسطس الماضي عن إنشاء المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني في طرابلس، ومنحها صلاحيات واسعة تتعلق بالانتخابات والرقابة عليها وتنظيم التغطية الإعلامية، قد أثار بالفعل مخاوف لدى بعض الأطراف من إمكانية تحول هذه المفوضية إلى أداة للسيطرة على المعلومات المتعلقة بالانتخابات.
وبحسب نص القرار المعلن، فإن الهدف الأساسي من تأسيس المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني هو تنفيذ الاستفتاءات والاستعلامات الوطنية بشكل شامل، بدءاً من الإعداد والتحضير، مروراً بالإشراف على عملية التصويت وفرز النتائج، وصولاً إلى تسجيل المواطنين الراغبين في المشاركة في هذه الاستفتاءات وفقاً للقوانين الانتخابية وتوزيع مراكز الاستفتاء بناءً على الدوائر الانتخابية المعتمدة.
ويتضح من ردود الفعل المتباينة أن جوهر الخلاف يدور حول عدة نقاط أساسية في مقدمتها تجاوز الصلاحيات الدستورية والقانونية، إذ يرى المنتقدون، وعلى رأسهم مجلس النواب وحكومته، أن المجلس الرئاسي قد تجاوز بشكل واضح الصلاحيات الممنوحة له بموجب الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري، حيث أن إصدار القوانين وتنظيم عمل السلطة القضائية يقع ضمن الاختصاص الأصيل للسلطة التشريعية المنتخبة.
ويرى البعض أن إصدار مثل هذه القرارات الأحادية الجانب في هذا التوقيت بالذات، الذي يشهد تحركات نحو توحيد المؤسسات وإنهاء حالة الانقسام، قد يؤدي إلى تقويض هذه الجهود وزيادة حالة الاحتقان السياسي.
واللافت في حملة الانتقادات هو الطعن في شرعية القرار داخل المجلس الرئاسي نفسه، فتأكيد اللافي بعدم وجود قرار جماعي بشأن هذه المراسيم يضع علامات استفهام كبيرة حول شرعية هذه القرارات وإمكانية الاعتداد بها قانونا ودستوريا.
ويخشى المنتقدون من أن يؤدي إلغاء قانون المحكمة الدستورية وتشكيل مفوضية ذات صلاحيات واسعة تتعلق بالانتخابات إلى المساس باستقلال القضاء وإمكانية استخدامهما كأدوات للتأثير في العملية السياسية.
ويكشف الجدل المتصاعد حول مراسيم المجلس الرئاسي، وخاصة مرسوم تشكيل مفوضية الاستفتاء، عن عمق الأزمة السياسية والمؤسسية المستمرة في ليبيا.
فبينما يرى المجلس الرئاسي في هذه الخطوات محاولة لفتح مسارات جديدة نحو حل الأزمة والوصول إلى انتخابات، تعتبرها قوى سياسية وقانونية أخرى تعديا على الشرعية وتقويضاً لجهود التوافق الوطني. ويبقى مصير هذه المفوضية والمراسيم الأخرى معلقا على التطورات السياسية والقانونية القادمة، وعلى قدرة الأطراف الليبية على الحوار وتجاوز خلافاتها من أجل تحقيق الاستقرار والوحدة في البلاد.