إستراتيجية جزائرية فاتها الزمن: دروس من عقلية العزلة

وفي خضم الأزمة الدبلوماسية مع فرنسا، تراقب الجزائر صعود المغرب من خلال شبكة اقتصادية قوية عبر أفريقيا وروابط أمنية مع إسرائيل، بينما حوّلت روسيا جارتها الشرقية غير المستقرة ليبيا إلى قاعدة لعملياتها الأفريقية المتوسعة.
واحتدمت الأزمة المطولة بين فرنسا والجزائر بعد اعتقال الكاتب بوعلام صنصال لدى وصوله إلى البلد الشمال أفريقي خلال نوفمبر الماضي. ويحمل هذا الكاتب المرموق الجنسيتين الجزائرية والفرنسية، لكن انتقاداته المتكررة للجزائر في وسائل الإعلام الفرنسية نفرت الكثير من الجزائريين.
وتصاعد الخلاف الدبلوماسي، حيث دأب سياسيون فرنسيون بارزون، وخاصة من اليمين، على انتقاد الجزائر في وسائل الإعلام الفرنسية لأسباب من أبرزها مزاعم رفضها استعادة مواطنيها الذين أدانتهم المحاكم الفرنسية.
عادت ذكريات حرب الاستقلال الجزائرية الدموية (1954 – 1962)، التي أدت إلى انهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة، إلى الواجهة مع إحياء بعض الفرنسيين المدافعين عن صنصال رواية أن فرنسا جلبت الحضارة إلى الجزائر “البربرية” بغزوها بعد 1830.
المغرب (منافس الجزائر في شمال أفريقيا) اكتسب زخما اقتصاديا ودبلوماسيا غير مسبوق من خلال بناء شراكات اقتصادية في جميع أنحاء أفريقيا
وقاد وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو هذه الهجمات، بهدف تعزيز فرصه في الترشح للرئاسة عن حزب الجمهوريين في 2027. وبتبنيه موقفا أكثر صرامة تجاه الهجرة من موقف حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان، ارتفع رصيد ريتايو في استطلاعات الرأي، إلا أنه لا يحلّ القضايا الشائكة ويُفاقم الخوف والاستياء بين ملايين المواطنين الفرنسيين ذوي الأصول الجزائرية. والمشكلة الأعمق هي أن العلاقة الفرنسية – الجزائرية لا تزال عالقة في الدورات الانتخابية لكلا البلدين، حيث يستغل كل جانب التصعيدات الرمزية لتحقيق مكاسب سياسية محلية.
وطرأ تحسن طفيف بعد اتصال هاتفي رمزي جمع بين الرئيسين إيمانويل ماكرون وعبدالمجيد تبون في 30 مارس. لكن الأزمة سرعان ما عادت للاشتعال، وسحبت فرنسا سفيرها من الجزائر. وكان السفير الجزائري قد غادر باريس بالفعل عقب رسالة ماكرون في 30 يوليو إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس التي أيد فيها خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء المغربية باعتبارها الحل الوحيد القابل للتطبيق للنزاع المستمر منذ 1975 بين المغرب والجزائر وجبهة بوليساريو حول وضع الإقليم الدولي.
وعلى الرغم من أن ماكرون قد اتخذ خطوات رمزية للاعتراف بأخطاء فرنسا في الحقبة الاستعمارية، إلا أنه لا يزال مثقلا بإرث القادة السابقين، وخاصة فرانسوا ميتران (1981 – 1995).
وعمل ميتران على إعادة تأهيل ضباط الجيش الذين حاولوا اغتيال شارل ديغول (1959 – 1969) الذي منح الجزائر استقلالها، وطمس سياساته القاسية ضد الجزائريين خلال نضالهم حين كان وزيرا للداخلية والعدل. ويستكشف كتاب “فرانسوا ميتران، الإمبراطور الأخير – من الاستعمار إلى فرنس أفريك” هذا التناقض.
وغالبا ما يحتضن القادة الجزائريون المواجهات مع فرنسا لإبراز قوميتهم الهشة وصرف الانتباه مؤقتا عن قمعهم للحريات المدنية منذ الاستقلال.
ومن التطورات المهمة الأخرى، وإن كانت أقل وضوحا، تراجع دور الجزائر كزعيمة في العالم الثالث. لقد اختفى مفهوم العالم الثالث (الذي يُشار إليه الآن باسم الجنوب العالمي) في رمال التاريخ المتحركة.
وفي غضون ذلك اكتسب المغرب (منافس الجزائر في شمال أفريقيا) زخما اقتصاديا ودبلوماسيا غير مسبوق من خلال بناء شراكات اقتصادية في جميع أنحاء أفريقيا، وإقامة علاقات أمنية مع إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.
وهو يجذب استثمارات أجنبية كبيرة، بينما لا تزال الجزائر متمسكة بنموذج الاقتصاد الموجه الذي يُثبط الاستثمار الخاص، ولا تزال تعتمد على صادرات المحروقات في أكثر من 90 في المئة من دخلها الأجنبي. ولم يتغير هذا الوضع منذ السبعينات.
وتشعر الجزائر في الآونة الأخيرة بالخيانة من روسيا، التي تُزوّدها بثلثي أسلحتها، وإن لم تكن حليفة لها.
وبينما تُحوّل روسيا ليبيا إلى مركزٍ لتواجدها العسكري الأفريقي المُتوسّع يواجه القادة الجزائريون، الذين نددوا لعقود بالتدخل “الاستعماري الجديد” الفرنسي في دول الساحل، مرتزقة من مجموعة فاغنر التي أُعيدت تسميتها، والتي تُعرف الآن بـ”فيلق أفريقيا”، مُذكّرة بـ”الفيلق الأفريقي” تحت قيادة المارشال النازي إرفين رومل.
وقد صُدم القادة الجزائريون، مثل نظرائهم الأوروبيين، عندما أعادت روسيا نشر أصولها العسكرية السورية بسرعة إلى قواعدها الخمس في ليبيا بعد سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا. وتدعم هذه الموارد الآن العمليات في مالي وتشاد والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى، وهي مستعمرات فرنسية سابقة سحبت فرنسا قواتها منها بشكل مهين خلال السنوات الأخيرة.
وتُمثل مشاركة المخاوف الإستراتيجية مع أوروبا موقفا غير مريح للجزائر. ففي أغسطس حاول خليفة حفتر، القائد العام للجيش الليبي، الاستيلاء على حقول النفط في غدامس جنوب غرب البلاد، بالقرب من الحدود الجزائرية.
وحذّر الجيش الجزائري روسيا من أن القوات الجزائرية ستعبر إلى ليبيا إذا تقدّم حفتر (وهو ما لم يفعله).
ولا تزال الجزائر تتذكر الهجوم الإرهابي المدمر الذي وقع في 2013 واستهدف أحد حقول الغاز الرئيسية في البلاد بتيقنتورين، وقد نفذه مسلحون من جماعة إرهابية إسلامية عبروا من ليبيا. كما تُسلط حادثة غدامس الضوء على قلق الجزائر العميق.
في غضون ذلك يُعزز المغرب نفوذه في منطقة الساحل بفضل المشاركة الاقتصادية المتنامية من خلال شركة الفوسفات والأسمدة الحكومية العملاقة، وبنوكه الرائدة، والدبلوماسية الدينية بتدريب الأئمة في معهد محمد السادس بالرباط على الترويج للإسلام المعتدل. كما يُقدم المغرب منحا دراسية للشباب ويبني قوته الناعمة من خلال الروابط الثقافية والرياضية في جميع أنحاء أفريقيا.
وشمل النشاط الدبلوماسي الجزائري في الأثناء استغلال البلاد مقعدها المؤقت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث تمكّنت في يناير 2024 من فك تجميد الصندوق السيادي الليبي والدعوة إلى زيادة نفوذ الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن.
أما بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي فسيكون لإخراج روسيا من ليبيا تأثير مضاعف حيث سيُعيق جهود موسكو في تأليب الدول الأفريقية ضد أوروبا، كما سيُعيد تشكيل المنافسة العالمية على المعادن النادرة، وسيُقوّض الإستراتيجية الروسية الأوسع.
ويُجادل القادة الجزائريون بأن مخزون جيشهم الضخم من الطائرات والسفن الحديثة (معظمها روسي، وبعضها إيطالي) ضروري لردع حلف شمال الأطلسي “المُعادي”. مع ذلك، يُنكر الناتو هذه الادعاءات باعتبارها جنون شكّ يعود إلى الحرب الباردة.
وأشعل التدخل المدعوم من الناتو في ليبيا خلال 2011 (بقيادة فرنسا) فوضى في ليبيا وفي جميع أنحاء منطقة الساحل. ولئن كانت مخاوف الجزائر مُبررة بعض الشيء، إلا أنها لا تُشكّل أساسا متينا للعقيدة الإستراتيجية التي تتبناها البلاد.
وأوروبا منشغلة حاليا بتركيزها على أوكرانيا حيث تهدف إلى صد روسيا، وعلى غزة حيث يبقى نفوذها محدودا. كما فشل الغرب في فهم التحولات الإستراتيجية الروسية في ليبيا ومنطقة الساحل. وفي شمال أفريقيا سيكون دعم خطة المغرب للصحراء أكثر فاعلية إذا منحت أوروبا الأولوية للمصالحة بين الجزائر والمغرب.
وتبدو فرنسا، المقيدة بتاريخها وتداعيات تدخل نيكولا ساركوزي في ليبيا خلال 2011، عاجزة عن طرح إستراتيجية أوروبية جديدة للمنطقة. وتتطلب إعادة تقييم سياسة أوروبا المغاربية عملا جماعيا، تلعب فيه إيطاليا (نظرا إلى علاقاتها القوية مع الجزائر) وألمانيا وإسبانيا أدوارا رئيسية. ولطالما كان غاز الجزائر بالغ الأهمية لأوروبا، وخاصة لإيطاليا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
وعلى مدى ستين عاما زوّدت الجزائر إسبانيا والبرتغال وفرنسا والمملكة المتحدة وبلجيكا وإيطاليا بالطاقة بشكل موثوق. وهي تظل ذات أهمية حيوية مع احتياطاتها الكبيرة من الغاز ومشاريع الهيدروجين الجارية مع شركاء أجانب. ومع ذلك، يجب أن يدرك قادتها أن إبراز صورة “الجزائر الحصن” لا يدعم مناخ التفاهم المتبادل.