احتفالات الباكالوريا رياضة تأخذ بعدا آخر في تونس

أصبحت الاحتفالات المرافقة لاختبارات التربية البدنية لطلاب البكالوريا المعروفة بـ"الدخلة" مصدرا لبث العنف والفوضى في عدد من المعاهد الثانوية، كما أصبحت مصدرا لإثقال كاهل الأسر بنفقات مخصصة لثمن اللوحة الجدارية والمعلقات والزي الموحد والشماريخ. وقد خرجت "الدخلة" عن طابعها الاحتفالي البهيج لتصبح في بعض الأحيان مناسبة للموت عن طريق حوادث المرور التي يتسبب فيها طيش الطلاب ما يخلف لوعة في قلوب أهاليهم.
تونس ـ برزت في السنوات التي تلت ثورة 2011 فعالية ثقافية في المعاهد الثانوية التونسية تسبق إجراء امتحان البكالوريا رياضة هي “الدخلة”، أو ما يعرف في أوساط الطلاب بـ”الكراكاج”.
ورغم أن الدخلة هي تقليد يحتفي فيه الطلاب بأنفسهم وعلى طريقتهم بعيدا عن إلزامات الأنظمة الداخلية للمؤسسات التربوية، إلا أنها أخذت بعدا آخر في السنوات الأخيرة أخرجها من طابعها الفني الإنساني لتصبح مناسبة لإثقال كاهل الأسر باحتفالات استعراضية مبالغ فيها تؤدي أحيانا إلى حوادث مميتة، ما دفع إلى منعها في كافة المعاهد الثانوية بمحافظة القيروان، وسط تونس.
وقررت إدارة المرحلة الإعدادية والتعليم الثانوي بالقيروان، الجمعة الحادي والثلاثين من يناير 2025، منع تنظيم أيّ نشاط يتعلق بالتظاهرة المعروفة بـ”دخلة البكالوريا” منعا باتا داخل معاهد الجهة، وفق ما تداولته وسائل إعلام محلية في تونس.
ورأى نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أن قرار المنع قرار حكيم معتبرين أنّ تظاهرة “دخلة البكالوريا” لا تعدو أن تكون مضيعة للوقت ومظهرا من مظاهر الانحلال الأخلاقي، حسب تقديرهم، ناهيك عن كونها مناسبة تكثر فيها حوادث المرور في كل سنة.
أولياء أمور الطلاب مدعوون إلى تحمل مسؤولياتهم في تأطير أبنائهم خلال الاختبارات بجميع مراحلها وحثهم على الالتزام بقواعد السلوك المحترم
وقد توفيت، هذا العام، خلال حادث مرور بجهة سيدي أحمد والكرنيش من محافظة بنزرت (شمال) طالبة مستوى سنة رابعة شعبة رياضة فيما أصيب 12 طالبا كانوا على متن سيارتين ضمن احتفالات بكالوريا رياضة، وفقا لما نقلته إذاعة خاصة عن مصدر من المستشفى الجامعي ببنزرت.
وقالت فضيلة التكاري أم لطالبة تدرس بشعبة بكالوريا آداب، إنه عليها أن توفر لابنتها ثمن زي موحد مثل بقية زملائها وزميلاتها وكذلك مساهمتها في تكلفة اللافتة الكبيرة التي تكتب عليها الشعارات الاحتفالية وثمن بعض الشماريخ، مشيرة إلى أن مصاريف الدخلة تعتبر باهظة خصوصا إذا كانت ستتلوها مصاريف حصص المراجعة الأخيرة.
بدورها قالت منى العروسي، وهي أم لطالبة تدرس بشعبة الباكالوريا اقتصاد وتصرف، “على أيامنا لم تكن هناك احتفالات تسبق أو تتلو الباكالوريا رياضة ولم نعرف تظاهرة ‘الدخلة’.”
وأشارت إلى أن اختبارات البكالوريا رياضة عندما كانت هي طالبة، كانت تقام في أجواء عادية، وكانت التحضيرات تقتصر على شراء الزي الرياضي الذي كان محتشما.
وأضافت لـ”العرب” أن دخلة الباكالوريا “هي تظاهرة تقام من خلال إعداد لوحات تتضمن شعارات مختلفة تحمل قضايا إنسانية واجتماعية وغيرها، فضلا عن فقرات من الرقص والغناء وقرع الطبول وقذف الشماريخ.”
وبعيدا عن مضمون اللوحة التي تكلفت حوالي ألف دينار (550 دولارا)، وصفت العروسي “دخلة” اختبار التربية البدينّة بأنها لم تعد تعبيرا عن الفرحة أو مناسبة سنويّة لمشاركة الاحتفال، كما لم يعد الهدف منها جمع طلاب مختلف شعب الباكالوريا في احتفال موحد، بل أصبحت مناسبة لاحتفالات استعراضية تثقل كاهل الأسر وتزيد من نفقاتها، إضافة إلى كونها في بعض الأحيان مناسبة للموت عن طريق حوادث المرور التي يتسبب فيها طيش الطلاب ما يخلف لوعة في قلوب أمهاتهم.
ويمكن للطالب أن ينفق في احتفالية “الدخلة” ما يساوي 450 دينارا (250 دولارا)، وهو مبلغ تجده بعض الأسر باهظا مقارنة بميزانيتها البسيطة.
وقالت مريم التكاري طالبة بشعبة الآداب لـ”العرب”، “ندفع المال بشكل جماعي ونساهم في صنع اللوحات وارتداء ملابس خاصة.”
وأفادت بأنها أنفقت على ملابسها الرياضية ومساهمتها 600 دينار (200 دولار). وأوضحت أنه تم إطلاق شماريخ بقيمة ألفي دينار (650 دولارا).
ومنذ نحو عقد من الزمن تحول الاحتفال بـ”الدخلة” إلى فقرة أساسيّة لا يخلو منها معهد من معاهد تونس ولا يتخلف عنها أي مرشح، سواء بالاحتفال أو بالمشاركة في المصاريف الباهظة.
ويقوم المرشحون خلال الاحتفال برسم لوحات جدارية وتخصيص أزياء موحدة تحمل شعارات مميزة غالبا ما تكون خارجة عن المألوف وتتمّيز بالطرافة والتحدي.
ويزهو التلاميذ بإطلاق الشماريخ والمفرقعات (ألعاب نارية) وتقام فيها الحفلات الراقصة واللوحات الاستعراضيّة.
تقوم فكرة “دخلة البكالوريا” أو “الكراكاج” على اختيار مجموعة من تلاميذ البكالوريا من كل تخصص (اقتصاد، رياضيات، آداب، علوم وتقنية)، الذين يتفقون على تنفيذ فكرة معيّنة بالشعارات واللافتات الكبيرة والموسيقى والشماريخ والزي الموحد كهوية خاصة بكل تخصص.
وقد تكون بعض الشعارات محل انتقاد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي أو قد تكون في بعض الأحيان محل تتبع قضائي، مثلما حدث في العام 2015 مع طلاب معهد ابن رشيق الثانوي بمحافظة القيروان، وسط تونس، حيث انقلب حفل “الدخلة” الذي أنفقوا عليه المئات من الدولارات إلى تتبع قضائي وإيقاف من قبل فرق مكافحة الإرهاب.
وقد تحولت جداريّة “الساموراي” التي أنجزها الطلاب إلى تهمة بعد أن نسبها موقع “أفريقيا للإعلام” المنسوب لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الملقب بـ”داعش” لنفسه وتاجر بفرحتهم.
وقد تم إيقاف خمسة طلاب من المعهد وقتها، من قبل فرقة مكافحة الإرهاب وتم نقلهم إلى تونس العاصمة من أجل التحقيق معهم ليتم إطلاق سراحهم لاحقا.
يمكن للطالب أن ينفق في احتفالية "الدخلة" ما يساوي 450 دينارا (150 دولارا)، وهو مبلغ تجده بعض الأسر باهظا مقارنة بميزانيتها البسيطة
وبنفس الطريقة وجد عدد من تلاميذ معهد جندوبة (شمال غرب) أنفسهم مطلوبين لدى فرقة مكافحة الإرهاب بسبب لوحة جداريّة تم تعليقها بالمعهد تمجد الزعيم النازي أدولف هتلر.
وتثير الاحتفاليات المقامة في العديد من المعاهد الكثير من الجدل في الأوساط التربوية والاجتماعية من جهة، كما كانت لها تبعات أمنية وقضائية من جهة أخرى.
وفي الوقت الذي اتجهت فيه أنظار الإعلام المحلي والخارجي إلى اللوحات المتهمة بتمجيد العنف والعنصرية، وعددها قليل، فإن هناك احتفاليات كثيرة في معاهد في محافظة القيروان ومحافظات أخرى احتفت بفلسطين وبالعلم التونسي والشهداء. وكذلك معاهد احتفى فيها الطلاب بالمربين، على عكس معاهد أخرى حاولت انتقاد إضرابات أساتذة التعليم الثانوي، إلى جانب استحضار شخصيات تاريخيّة مثل هتلر أو بن لادن وغيرهما، وفي حين حظيت بعض الأعمال التي نفذها بعض الطلاب بالإعجاب والمساندة، قوبلت أخرى بالرفض واعتبرت مستفزة.
وتتحول المؤسسات التربوية التي يحكمها النظام الداخلي الصارم (منع التدخين ومنع ارتداء الملابس القصيرة للفتيات ومنع الغناء والرقص ومنع رفع الصوت…) أيام امتحان البكالوريا رياضة، إلى مسرح لأعمال خارجة عن السياق التربوي وأقرب إلى الملاعب الرياضية.
وكثيرا ما تدعو وزارة التربية التونسية أولياء الطلاب إلى تحمل مسؤولياتهم في تأطير أبنائهم خلال الاختبارات بجميع مراحلها ومرافقتهم عن كثب ودعوتهم إلى الالتزام بقواعد السلوك المحترم، حتى لا تخرج هذه الاختبارات عن إطار القانون وتصبح مصدرا لبث العنف والفوضى، حيث سبق لتلاميذ أن رفعوا صورا للزعيم النازي أدولف هتلر وزعيم تنظيم “القاعدة” السابق أسامة بن لادن وغيرهما، وهو ما دعا رئاسة الحكومة إلى التنديد بالأمر، والتهديد باتخاذ إجراءات صارمة ضد المخالفين.
وفي تحليل لظاهرة “دخلة” اختبار التربية البدنية ورمزيتها التربوية والنفسيّة وتداعياتها على المؤسسة التربوية والمنظومة، يعتبر الأستاذ في علم الاجتماع ومدير المرصد الوطني للشباب (حكومي) محمد الجويلي أن المدرسة التونسية هي مدرسة محافظة تاريخيا ولا تقبل بسهولة أي خروج عن أهدافها الأساسية.
وأشار الجويلي إلى تسجيل تداخل في المجالات داخل المؤسسة التربوية فلم تعد المؤسسة التربوية المحافظة قادرة عن تحصين نفسها مثلما كان في السابق، وهو ما اعتبره من آثار العولمة التي من عناصرها الأساسية كسر الحدود وجعلها حدودا مرنة.
واعتبر الجويلي أن الاحتفالات التي يقيمها التلاميذ هي من منطلق “القدرة على التجلي وتمديد المساحات وجلب الانتباه والتفرد والإثارة والخروج عن المألوف” وهي عناصر، بحسب الجويلي، تنطلق من رغبة التلميذ في تبليغ رسائل كون المدرسة، المؤسسة المحافظة، أصبحت مؤسسة مقيتة وفيها الكثير من البؤس واللامعنى واللاجدوى.