"امرأة رائعة".. نظرة إنسانية عميقة على معاناة المتحولين جنسيًا

يأخذنا المخرج التشيلي سيباستيان ليليو عبر كاميرته نحو عالم المتحوّلين جنسيا ومعاناتهم الاجتماعية، انطلاقا من مجتمعه التشيلي الذي تبدو فيه هذه الأقليات مرفوضة، وهو ما ثبّت اسمه كواحد من المخرجين الشجعان الذين يروون حكايات معاصرة بأسلوب يمزج بين الواقعية والخيال، من أجل أن يحث مشاهدي أفلامه على إعادة التفكير في الكثير من المفاهيم.
يعد فيلم “امرأة رائعة” واحدا من أبرز أعمال المخرج التشيلي سيباستيان ليليو وقد حقق نجاحًا كبيرًا على المستوى العالمي منذ صدوره الرسمي في العام 2017. يحكي الفيلم قصة مارينا، امرأة متحولة جنسيًا تعمل كنادلة ومغنية. تنقلب حياتها رأسًا على عقب بعد وفاة حبيبها الأكبر سنًا، حيث تواجه سلسلة من التحديات المجتمعية والتمييز والعنف.
وبحسب العديد من الآراء النقدية، فقد قدمت دانييلا فيغا، وهي ممثلة متحولة جنسيًا، أداءً مميزًا في دور مارينا، مما أكسب الشخصية عمقا وأصالة، وأضفى على الفيلم واقعية استثنائية جذابة. ونال الفيلم إعجاب النقاد كما فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 2018، ما جعله عملا بارزًا في تقديم قضايا مجتمع الميم بطرح إنساني مؤثر.
أظهر الفيلم أسلوب المخرج سيباستيان ليليو وحساسيته تجاه الفئات المهمّشة، وكيف يولي اهتمامًا خاصًا بقضايا هذه الفئات، وخاصة مجتمع الميم، كما يظهر في فيلم “امرأة رائعة”، حيث قدم نظرة إنسانية عميقة على معاناة المتحولين جنسيًا.
بين الواقعية والخيال
في بداية الفيلم، يصوّر ليليو علاقة مارينا بحبيبها أورلاندو برومانسية وحميمية طبيعية، لتقوية فكرة أنها امرأة حقيقية. لكن بعد وفاته، تتعرض مارينا للتمييز من الشرطة وعائلة أورلاندو، حيث يواجهونها بأسئلة مسيئة تعكس نظرتهم التمييزية، مثل سؤال الابن عمّا إذا كانت تمتلك عضوًا أنثويًا، وسؤال المحققة عن علاقاتها الجنسية.
الغالبية لم يفهموا أن العلاقة كانت علاقة حب وليست مصلحة مادية؛ مارينا لم تكن تؤجر جسدها، ولم تستغل حبيبها ماديًا.
في مشهد الفحص الطبي، تظهر الإهانة التي تتعرض لها مارينا بأسلوب حساس؛ تعمّد المخرج عدم إظهار جسدها مباشرة، لكن المحققة كانت تطلب منها كشفه. في حين أن اختيار المخرج لإنهاء المشهد بأسلوب القطع يعكس احتجاجه على السياسات التمييزية، ويبرز معاناة المتحولين جنسيًا بشكل مؤثر.
واستخدم ليليو المرايا بشكل متكرر في الفيلم، ليصوّر بأسلوب يقترب من الشعرية تعقيدات الهوية الداخلية لمارينا وتحدّيها لنظرة المجتمع.
كما تظهر هذه المرايا كيف ترى مارينا نفسها، وكيف يُنظر إليها من قبل الآخرين، ما يجعلها رمزا للصراع بين الإدراك الذاتي والنظرة الخارجية. وتؤكد مارينا اعتزازها بكينونتها وهويتها الأنثوية، وتناضل من أجل تأكيدها.
ويتميّز المخرج سيبستيان ليليو بمزجه بين العناصر الواقعية والتخيلية، حيث يحاول في أفلامه أن يخلق أساليب فريدة في سرد القضايا الاجتماعية، ويضفي على قصصه أبعادًا جمالية إضافية. فهو لا يكتفي بقراءة الواقع وتوثيقه، بل يبحر ضد الأمواج ويقرأ طبقات الواقع الخفية.
وفي “امرأة رائعة” تظهر الواقعية في المواقف والأحداث التي عرضها الفيلم، لكننا نلاحظ أن ليليو وظّف الخيال للتعبير عن الحالة النفسية لمارينا والصراع الداخلي الذي تعيشه وسط هذا العنف والتهميش.
كما تظهر مشاهد الحلم والمرايا كعنصر خيالي متكرر، مما يتيح للمشاهد الدخول إلى عقل مارينا والتعرف على طريقتها في رؤية ذاتها والعالم من حولها، يلعب الصمت دورًا مهمًا ويتيح لنا مساحة لتأمل وجه هذه الشخصية المرهقة ويأتي بمثابة احتجاج صارخ ضد أساليب التمييز.
وبرغم كل هذه العذابات والمحن نجد أن مارينا في كل مرة، تؤكد ثقتها الكاملة بنفسها كامرأة وثقتها في جسدها، دون أن تشعر بأي ندم على هذا التحول. وفي أحد المشاهد المؤثرة، نراها تمشي ضد الرياح العاتية، التي تبدو كأنها قوة خيالية مضادة تحاول إسقاطها.
هذا المشهد، الذي يخرج عن حدود الواقع العادي، يُجسد صراعها الداخلي مع التمييز والاضطهاد الاجتماعي، ويعكس قوتها ورغبتها في المضي قدمًا واستكمال حياتها كامرأة، لا كرجل في جسد أنثى.
ليليو استخدم المرايا بشكل متكرر ليصوّر بأسلوب يقترب من الشعرية تعقيدات الهوية لمارينا وتحدّيها للمجتمع
ولا يعزل ليليو الواقعية عن الخيال في أفلامه بل يجعلهما يتداخلان في أشكال فنية بديعة. على سبيل المثال، استخدام المرايا المتكرر يعكس استكشاف مارينا لهويتها وإدراكها الذاتي بينما يُظهر المجتمع وجهه القاسي المتحيز والعنصري. المرايا تصبح هنا أداة بصرية فاعلة، تمثل عالمًا خياليًا مساندًا للشخصية، حيث يمكن لمارينا أن تتأمل ذاتها بعيدًا عن نظرات الآخرين وأحكامهم.
في بعض اللحظات، يتلاشى الخط الفاصل بين الواقع والخيال عندما تواجه مارينا شراسة المجتمع وسخريته.
مشاهد مثل تلك التي تتخيل فيها نفسها راقصة وسط حلبة مليئة بالأضواء، تعبّر عن قوتها الداخلية وقدرتها على تجاوز العوائق وتحمّل الألم. هذه المشاهد أضافت بعدًا شاعريًا للشخصية، لكنها طرحت تساؤلات عميقة: ما الذي يُشكّل هويتنا الحقيقية؟ هل هو ما يفرضه المجتمع؟ أم ما نؤمن به نحن عن أنفسنا؟
وهذا المزج بين الواقعية والخيال يضج بالدلالات والرموز، ويمنح الفيلم ثراءً جماليًا ومعنويًا، وبالتالي يدفع المشاهد للتفكير في القضايا والأسئلة الشائكة المطروحة بعمق أكبر.
الواقعية تجعل القصة ملموسة وقابلة للتصديق، بينما يساهم الخيال في خلق مساحة للتعاطف والارتباط بالبطلة مارينا على نحو أعمق. كما أن هذا الأسلوب يوضّح بقوة القيم الإنسانية للفيلم، ويؤكد على ضرورة رؤية الأفراد ككيانات متعددة الأبعاد، تتجاوز القوالب النمطية والتصنيفات الطبقية التي تفرضها المجتمعات.
أكثر من مجرد حكاية
نود أن نلفت الانتباه قبل ختام هذه القراءة إلى أهمية الخلفية الاجتماعية والسياسية للتشيلي وصعوبة التطرق لمثل هذه المواضيع فيها والكثير من بلدان العالم حيث تدفن القضايا الكبيرة وتمنع الأسئلة الصغيرة قبل الكبيرة، مثل هذا الفيلم كان يحتاج لشجاعة كبيرة من المخرج وفريق عمله، وهذا ما منح تجربة مارينا بعدًا واقعيًا أكثر جرأة. كما أن أي دراسة لهذا الفيلم بحاجة للتوقف على استخدام الموسيقى والتصوير والألوان، عندها تظهر لنا عبقرية ليليو وإبداعه في الحفر في الداخل النفسي لمارينا بلغة بصرية حساسة تخيّلية.
وتجدر الإشارة إلى أن اختيار دانييلا فيغا، المتحوّلة جنسيًا، لم يكن صدفة فنية، بل نعتقد أنه كان موقفًا سياسيًا جريئًا، خاصة بعد تحوّلها إلى رمز عالمي لمجتمع التعدد الجندري. من جهة أخرى، فقد استقبل الجمهور هذا الفيلم بحفاوة وتقدير، ونجح الفيلم داخل صالات العرض في المهرجانات العالمية وخارجها ولا يزال يحصد المشاهدات ويثير النقاش حول قضايا شائكة.
ويمكن القول إن فيلم “امرأة رائعة” أكبر بكثير من حكاية عن متحوّلة جنسيًا تصارع التهميش، لا بل إنه تجربة سينمائية تنبض بحس إنساني عميق تضعنا وجهًا لوجه أمام أسئلة الهوية، الكرامة، والحب. لقد نجح سيباستيان ليليو في تقديم شخصية مارينا كذات مكتملة، حيث لم يسع لتقديمها كضحية ولا كرمز مثالي خارق، إنها امرأة تناضل في مواجهة العنف الرمزي والمادي مع ذلك لم تفقد كبرياءها أو حسها الداخلي بالجمال.
وما يميّز أسلوب المخرج سيبستيان ليليو أشياء كثيرة منها جرأته في طرح قضايا حساسة وكذلك أسلوبه المتفرّد في المزج بين الواقع والمتخيل، وتحويل الألم إلى شعر بصري مدهش. ويتقاطع هذا الأسلوب مع أعماله الأخرى مثل “غلوريا” و”عصيان”، حيث يواصل الاشتغال على شخصيات نسائية ذات تعقيدات خاصة تبحث عن ذاتها خارج التصنيفات الاجتماعية الضيقة.
في “امرأة رائعة”، نرى كيفية تحول المرآة إلى فضاءٍ تأملي ومقاومة، وكيف يمكن لحلبة رقص خيالية أن تصبح ساحة انتصار رمزي. الفيلم يجعلنا نؤمن بأن الفن قادر على فعل التغيير، حين يُصغي بصدق للهمس الخافت للهوية غير المرئية، يمكنه أن يفتح نوافذ جديدة لفهم الإنسان مهما كان لونه أو جنسه. وبأن المهمّشين، حين تروى قصصهم بصدق، لا يعكسون فقط معاناتهم بل يكشفون هشاشتنا الجمعية وصراعنا الأبدي مع الخوف من الاختلاف وكثرة شعاراتنا الزائفة.