المقهى العربي.. ذاكرة الإبداع ومنفى الجسد

مكان خط فيه محفوظ حكاية شعب والماغوط مرثياته والمثقفون العرب أحلامهم.
الأحد 2025/04/20
مكان تتنفس فيه المدن وتهمس فيه الأرواح

من المقاهي العربية خرجت الكثير من الحركات الأدبية والفكرية والسياسية، وفيها اجتمعت كل شرائح المجتمع، كانت أكثر من فضاءات للتسلية، كانت نسخا مصغرة عن المجتمع، عبرت من جيل إلى جيل على امتداد أكثر من قرن من الزمان، حتى صارت ثقافة راسخة، كل ذلك قبل أن تتغير الأوضاع جذريا في السنوات الأخيرة.

في زاوية شارع ضيق تغمره ظلال شجرة قديمة، أو على رصيف بحري يواجه غروبا أزليا، تنبعث من فناجين القهوة رائحة الذاكرة، وتتناثر على الطاولات أوراق لا تنتهي، حكايات لم تكتمل، وجمل ضاعت بين دخان الأراجيل وضجيج الشوارع. المقهى العربي، ذاك الكائن الغامض العصي على التصنيف، لم يكن يوما مجرد مكان، بل كان حالة وجودية، كينونة ثقافية، ومنفى طوعيا لمن ضاقت بهم الطرق واتسعت بهم الأحلام.

في هذا المكان ثمة طاولة وكرسيان متقابلان، وعبق القهوة يغمر الأرجاء. لا شيء هنا يوحي بشيء خارق، ولكن داخل هذا الفضاء الصغير تشكل على مدى قرن من الزمن تاريخ كامل للوعي العربي، ومسرح خفي للكتابة، ولصراع الأفكار، ولولادة أساطير الأدب والفن. المقهى الثقافي، تلك الظاهرة التي لم تكن مجرد مكان، بل كينونة ثقافية بحد ذاتها، ظل عبر الأجيال منارة للضوء، وسقفا مؤقتا للهاربين من صقيع العزلة وضجيج الواقع.

حق التأمل والجدل

المقهى العربي، ذاك الكائن الغامض العصي على التصنيف، ليس مجرد مكان، بل حالة وجودية وكينونة ثقافية

المقهى في مدننا ليس مجرد كرسي وطاولة، بل طقس شعائري، له صوفية خاصة، يمارس فيه التأمل كما تمارس الكتابة، ويكتب فيه التاريخ بالحبر والأسى. هو البيت البديل للمنفيين من دفء العائلة، والجامعة الحرة لطلاب الفكر، والمساحة الهاربة من سطوة الأنظمة إلى حضن الحرية.

من القاهرة إلى بيروت، من بغداد إلى تونس، ومن الجزائر إلى طنجة، ظل المقهى العربي كأنه القلب النابض لمدننا، ذلك القلب الذي كلما تعب المجتمع عاد إليه ليستمع إلى نبضه الحقيقي.

منذ بدايات القرن الماضي، كان المقهى العربي هو المساحة الوحيدة شبه المجانية التي تمنح الإنسان، وخاصة المثقف، حق التأمل، وحرية الجدل، ورفاهية الحديث. هو المكان الذي لا يسأل عن الهوية، ولا عن الانتماء الطبقي، ولا حتى عن السبب. يكفي أن تدخل، وتطلب فنجان قهوة، لتصبح جزءا من نسيج المكان، شاهدا وربما راويا. وكان هذا ما جلب إليه الشعراء والكتاب والرسامين، بل وحتى الثوار.

في تلك الزوايا، تشكلت أنوية الوعي العربي الحديث. في مقهى “الفيشاوي” في القاهرة، مثلا، لم يكن غريبا أن ترى نجيب محفوظ يخط ملامح حكاية شعب بأكمله وسط صخب الأراجيل وهمهمات الزبائن.

في دمشق، حيث تهمس الحجارة بتاريخ لا يشيخ، كانت المقاهي أكثر من محطات للعبور؛ كانت نوافذ للروح، ومرايا لأزمنة تتقلب على مهل. في مقهى “الهافانا” جلس محمد الماغوط يكتب مراثي وطن تائه، بينما تمر الكلمات من حوله كأنها دخان كثيف من السجائر الثقيلة. ولم تكن مصادفة أن يكتب “كأسك يا وطن” وهو يرقب المارة بنظرة شاعر مهزوم وجارح.

في مقهى "الهافانا" جلس محمد الماغوط يكتب مراثي الوطن
في مقهى "الهافانا" جلس محمد الماغوط يكتب مراثي الوطن

كان المقهى ذلك الركن الذي ضج بالشعر والمرارة، وهناك، بين فناجين القهوة السوداء، اختلطت السياسة بالشعر، والخيبة بالأمل.

غير بعيد، كان مقهى “الروضة”، المطل على حديقة الصالحية، أشبه بصالون دمشقي مفتوح، يتلاقى فيه أدباء من طراز حنا مينة وشوقي بغدادي، لتصاغ الحكايات ويهمس بالتاريخ في زواياه الظليلة.

أما مقهى “النوفرة”، قبالة الجامع الأموي، فقد ظل كأنه ينتظر الزمن ألا يرحل. هناك لا يزال الحكواتي يروي، وإن كان صوته اليوم خافتا، تغلبه كاميرات السياح. كان هذا المكان مسرحا للكلمة المنطوقة، حكايات تروى لا تكتب، وتحيا فقط حين تسمع.

وفي زوايا دمشق القديمة، تناثرت مقاه أخرى كانت تضج بنبض المدينة، مثال مقهى “الكمال”، حيث امتزجت السياسة بالصحافة في أيام الملكية، و”البرازيل”، حيث تحلقت النقاشات اليسارية حول طاولة صغيرة بلا ادعاء، و”المغرب العربي”، حيث كانت الحرية تناقش كأنها لغز يجب تفكيكه على مهل.

مقاهي دمشق، في نهاية الأمر، لم تكن مجرد أماكن عابرة، بل أمكنة من لحم وذاكرة، عاشت فيها المدينة حقيقتها كما تخيلها شعراؤها.

للمقهى طقوسه، ومعماره النفسي قبل أن يكون ماديا. الجدران المليئة بالملصقات القديمة، الطاولات الخشبية التي شهدت ملايين الحوارات، المقاعد التي التصقت بها أرواح من مروا وتركوا شيئا من أنفسهم هناك، حتى صوت الملاعق الصغيرة وهي تصطدم بجدران فناجين الشاي، كلها عناصر تنسج لحظة ثقافية سرمدية.

لم يكن مقهى “الشابندر” في شارع المتنبي ببغداد مجرد استراحة، بل معلما يشبه الكنائس في قدسيته للمثقفين. على تلك الطاولات تبادل الزهاوي والجواهري والرصافي رؤاهم، وتجادل علي الوردي مع طلابه عن البنية العشائرية للمجتمع العراقي. أما بدر شاكر السياب، فربما كتب أولى صرخاته الشعرية هناك، متأملا النهر وهو يعبر ذاكرته القلقة.

وسائل التواصل تهدد أهم كائن ثقافي واجتماعي عربي
وسائل التواصل تهدد أهم كائن ثقافي واجتماعي عربي

في مقاهي تونس مثل “العهد الجديد” أو “الديوان”، جلس الكتاب يتنفسون حرية الكلمة في ظل استبداد السياسة. أما في بيروت، فإنك إن وقفت أمام مقهى “الهورس شو”، أحسست أن صوت نزار قباني لا يزال يتردد بين المقاعد، وأن أدونيس ما زال يتأمل صراع الحداثة مع التراث من نفس الزاوية التي اعتادها قبل خمسين عاما.

المقاهي لم تكن يوما نخبوية فحسب، بل كانت محاكاة صادقة لمجتمع بأكمله. فيها يجلس السياسي مع العاشق، والشاعر بجوار المهاجر، والرسام أمام البائع المتجول. تذوب الفوارق بين الأفراد، ويتحوّل المقهى إلى بوتقة لصهر الهويات.

في مقاهي بيروت القديمة، كما “البحر”، أو “القزاز”، كانت السياسة تمشي مع الشعر، والموسيقى تتداخل مع صوت الشاعر. في “فتوح”، جلس الأخطل الصغير ليستمع إلى أغنيته تنبعث من صندوق الفونوجراف، وكتب عمر الزعني قصائده التي أربكت الانتداب الفرنسي.

كان رواد مقهى “النيغرسكو” مثلا، خليطا من الفنانين والمفكرين وحتى الجواسيس، في فترة كانت فيها بيروت عاصمة العالم العربي الثقافية. مقهى “المودكا” بدوره احتضن ليال طويلة من أمسيات ثقافية كانت تكتب فيها صحف الغد ومصائر الروائيين.

وكان “فيصل” في شارع بلس لا يختلف كثيرا عن برلمان مصغر، فيه كانت تناقش القومية والماركسية، وتحلل النكسة والانتصار، وينظر إلى التحرر كما تحاك الأحلام الكبرى. المثقف لم يكن هامشا هناك، بل كان هو النص، هو الزخم، وهو صوت الناس حين يعجزون عن التعبير.

وفي القاهرة، لم يكن غريبا أن ترى العقاد يجلس منفردا في مقهى “ريش”، يحدّق في اللاشيء، بينما على بعد طاولة واحدة، يناقش شباب الحرافيش فكرة رواية جديدة مع نجيب محفوظ. المقهى، بذلك، هو أكثر من مكان، هو نص حي، وسجل مفتوح للحياة اليومية، لكنه مسكون بالشعر، محاط بضباب الفلسفة، ومحفوف بظلال السياسة.

لكن، أين ذهب كل ذلك الآن؟ لماذا لم تعد المقاهي ذات الدور الذي كانت تضطلع به؟ لقد غيّرت التكنولوجيا شكل العلاقات الإنسانية. في الماضي، كان الإنسان لا يكتب إلا حين يخرج، يجالس، يراقب، يحاور. أما اليوم، فبضغطة زر يمكنه محاورة العالم، دون أن يغادر سريره. اختفت الحاجة الاجتماعية والروحية للقاء الجسدي، واستبدلت بشاشة وملف رقمي.

تراجع دور المقاهي

سلطة المقهى كمؤسسة ثقافية تراجعت اليوم لصالح المنصات الافتراضية والمجموعات المغلقة على وسائل التواصل

تراجع دور المقاهي الثقافية أيضا بفعل متغيرات سياسية وأمنية واقتصادية. ففي عواصم عربية عديدة، تحول المقهى إلى “كافيه” بلا روح، بديكور مكرر، وموسيقى صاخبة تلتهم الذاكرة. لم يعد المكان يصغي، بل يفرض عليه أن يلهي. وتراجعت سلطة المقهى كمؤسسة ثقافية، لصالح المنصات الافتراضية، والمجموعات المغلقة على وسائل التواصل.

ورغم هذا التراجع، تبقى المقاهي الثقافية جزءا من الذاكرة الجمعية، لا تمحى بسهولة. إنها تشبه الأرصفة التي مررنا بها في صبانا: حتى لو تغير شكلها، تبقى صورتها محفورة فينا.

وفي بلد مثل الجزائر، لا يزال لمقهى “الرمانة” و”طانطافيل” رائحة الثورة، إذ كانت مقرات خفية للمقاومة الثقافية والفكرية. وفي المغرب، يطل مقهى “الحافة” على البحر من علٍ، كأنه يقول: هنا كتب محمد شكري مذكراته، وهنا صرخ المثقفون في وجه الريح.

أجمل ما في المقاهي القديمة أنها كانت مستودعات غير مرئية للأفكار المرفوضة، للأصوات المهمّشة، وللتجارب التي لم تجد مكانا في القنوات الرسمية. هي المعادل الشعبي للجامعات، ولكن بلا جدران، بلا مناهج، بلا تقييمات. كان المثقف يمرّ من مقهى إلى آخر، كأنه راهب في رحلة، وكل مقهى يحمل طيفا من سابقة، أو ومضة من ذاكرة.

ولذلك، فإن الحديث عن المقاهي لا ينفصل عن الحديث عن تحولات المجتمعات العربية نفسها. حين كانت الثقافة مركزية، كان المقهى يضج بالجدل، والبيان، والبيان المضاد. أما اليوم، حيث الثقافة أصبحت ترفا، انكمش المقهى إلى ركن صامت، لا يتكلم إلا بالصور.

وربما آن أوان التفكير في إحياء هذه الفضاءات، ولكن بروح جديدة. ليس بإعادة الديكور أو بتقليد المقاهي الأوروبية، بل بإعادة الإيمان بأن المقهى يمكن أن يكون منصة للفكر، لا مجرد واجهة للسوشيال ميديا. أن يعود مكانا للجدل لا للعرض؛ وللحوار لا للتفاخر.

يجب أن تمنح المقاهي الثقافية دعما حقيقيا، لا شكليا، وأن تعاد صياغتها كمؤسسات ثقافية حية، لها برامج، وضيوف، وأهداف. وربما، فقط ربما، نعيد بذلك جزءا من النبض إلى قلب الثقافة العربية، الذي لطالما دق من داخل فنجان قهوة، وداخل عيون رجل يكتب بصمت في ركن بعيد، تاركا للعالم أن يتغير على مهل.

مسرح صغير

فضاء صنع الوعي العربي
فضاء صنع الوعي العربي

يبقى المقهى العربي، رغم كل شيء، قصيدة لم تكتمل. فكل من جلس فيه أضاف بيتا من شعر، أو سطرا من سيرة، أو تنهيدة غامضة. هو مكان تتنفس فيه المدن، وتهمس فيه الأرواح. هو مسرح صغير للحياة، لكنه يحمل في داخله أعمق تأملات الموت، والرحيل، والبقاء.

وربما آن الأوان لإعادة الاعتبار لهذا الفضاء الثقافي، لا بإعادة الزخرفة أو الإنارة، بل بإعادة الإيمان بأن اللقاء البشري لا يزال أصدق من ألف رسالة إلكترونية، وأن فنجان قهوة، يشرب بهدوء في زاوية مقهى، يمكنه أن يغير مجرى حياة بأكملها.

فالمقهى العربي، في جوهره، ليس مجرد مكان. إنه نص حي، وطقس من طقوس الوجود، بل لعله آخر ما تبقى لنا من أزمنة كانت الكلمة فيها سيدة الحضور، والقهوة عنوانا للثورة، والكرسي شريكا في صناعة الحلم.

10