كفة الإعلام المناهض لأميركا ترجح في الشرق الأوسط بوقف "الحرة"

واشنطن - أعلنت قناة الحرة المؤسسة الإعلامية الناطقة بالعربية التي أنشأتها الولايات المتحدة ومولتها بعد غزوها العراق من أجل موازنة نفوذ قناة الجزيرة، السبت أنها ستسرح معظم موظفيها وستتوقف عن البث، بسبب انتهاء الدعم بقرار اتخذته إدارة الرئيس دونالد ترامب.
وفي إطار سياستها الرامية إلى خفض الميزانية الفيدرالية بشكل جذري، قررت إدارة الرئيس الأميركي في مارس إنهاء كل دعم مادي لوسائل الإعلام الممولة من الحكومة. وأعلنت الشبكة السبت عن تسريحات جماعية، تم فيها تقليص عدد الموظفين بشكل حاد وتقليص العمليات بشكل كبير. ووفقا لإدارتها، لم يكن هذا القرار خيارا بل كان إجبارا.
وفي بيان، قال جيفري غدمين الرئيس التنفيذي لشبكات الإرسال في الشرق الأوسط التي تضم تحت مظلتها قناة الحرة وغيرها من وسائل الإعلام العربية الأصغر حجما والممولة من الولايات المتحدة، “في الشرق الأوسط، تتغذى وسائل الإعلام على معاداة أميركا.”
وأضاف غدمين “لم يُترك لنا أي خيار… وافق الكونغرس على تمويلنا في الرابع عشر من مارس. لكن في اليوم التالي، تم تجميد هذا التمويل بشكل مفاجئ وغير قانوني من قبل ما يسمى بـ’وزارة الكفاءة الحكومية’ وكاري ليك، المستشارة الخاصة للوكالة التي تشرف علينا”، مضيفا أن “كاري ليك ترفض مقابلتنا أو حتى التحدث معنا.”
وأعرب عن أسفه قائلا “أستنتج أنها تحرمنا عمدا من الأموال التي نحتاجها لدفع أجور موظفينا المخلصين الذين يعملون بجد”، مشيرا إلى أن قناة الحرة ستتوقف عن البث وستقلص عدد العاملين فيها إلى “بضع عشرات”. ومع ذلك تسعى الوسيلة الإعلامية إلى مواصلة تغذية موقعها.
وتقول قناة الحرة إنها تصل إلى أكثر من 30 مليون شخص أسبوعيا في 22 دولة. ولكنها تعاني خصوصا منافسة من شبكة الجزيرة القطرية. وأنشئت قناة الحرة في عام 2004 لموازنة نفوذ القناة القطرية، بعدما أبدى مسؤولون أميركيون عدم رضاهم عن تغطية حرب العراق التي بدأت في مارس 2003.
كما أن ثمة منافسة شرسة من قناتي “العربية” و”سكاي نيوز عربية” الممولتين من السعودية والإمارات على التوالي. وقال غدمين إن إنهاء برامج قناة الحرة يمكن أن “يفتح الطريق أمام خصوم الأميركيين وأمام المتطرفين الإسلاميين.”
وصعّد ترامب هجماته على الصحافة منذ عودته إلى البيت الأبيض في نهاية يناير، وهو يشكك في الاستقلالية التحريرية لوسائل الإعلام الممولة من الحكومة. وتتلقى قناة الحرة تمويلا حكوميا، لكنها لا تعتبر ذراعا للحكومة الأميركية، خلافا لإذاعة صوت أميركا.
وتساءلت الحرة على موقعها الإلكتروني “من يتحكم بالإنفاق في نظامنا الدستوري، الكونغرس أم الرئاسة؟ وفي الوقت الذي ينفق فيه أعداء أميركا مئات الملايين من الدولارات على الدعاية، هل هذا هو الوقت المناسبة لحكومتنا كي تستسلم في معركة الأفكار؟”
وجاء في بيان غدمين، أن “بعد 22 عاما من الصحافة الناطقة بالعربية، الملتزمة بالقيم الأميركية، والموجهة إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أجبرت شبكة الشرق الأوسط للإرسال على تقليص حاد لبثها التلفزيوني والرقمي، ليس بسبب مواجهة اعتادت على خوضها مع أجهزة التضليل المنظم، والقوى الدعائية المعادية للولايات المتحدة، بل نتيجة خنق بيروقراطي داخلي”.
وأكد غدمين أن الوكالة الأميركية للإعلام الدولي هي المسؤولة المباشرة عن هذه الأزمة. ورغم أن التمويل تم تخصيصه رسميا من قبل الكونغرس، إلا أن الوكالة ترفض صرفه دون تفسير أو تواصل مباشر، وما تبقى من الشبكة الآن هو مجموعة مصغّرة تقاتل من أجل البقاء.
وقال السفير السابق رايان كروكر، رئيس مجلس إدارة الشبكة بالوكالة “أم.بي.أن كنز من المواهب والخبرة وذخر إستراتيجي للأمن القومي الأميركي… ما يجري الآن ببساطة غير منطقي.”
وبحسب المحلل الإستراتيجي إيلان بيرمان، وهو عضو في مجلس إدارة الشبكة، “الشرق الأوسط ساحة معركة إعلامية ضخمة”، فمن طهران إلى الدوحة، ومن موسكو إلى بيروت، تتسابق قوى إقليمية ودولية في ضخ السرديات الدعائية عبر التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، بهدف تقويض صورة الولايات المتحدة، وتعزيز التشكيك، وتأجيج المشاعر المعادية للغرب.
وفي هذه البيئة المتوترة، كانت الحرة تمثل نقيضا نادرا: وسيلة إعلامية موثوقة، تُدار بمعايير مهنية، وتغطي قضايا حقوق الإنسان، والحوكمة، والسياسة الأميركية، بلغة وأصوات مألوفة لدى الجمهور العربي.
واعتبر غدمين أن “هذا انتحار إستراتيجي”، مضيفا “في الوقت الذي تكسب فيه حماس وحزب الله والحوثيون والنظام الإيراني مساحات على مستوى السرد الإعلامي، نحن نسحب صحفيينا عن الهواء. هذا ليس فقط قصورا في الرؤية… إنه استسلام.”
وكانت الشبكة الأميركية قد مرت بعملية هيكلة وتطوير العام الماضي وفرت 20 مليون دولار أميركي على دافع الضرائب دون تقويض جهودها في إعادة موضعة ذاتها كصوت أميركي فعال في الفضاء الرقمي الناطق بالعربية.
وداخل الشبكة، تأتي التسريحات كضربة شخصية ومهنية، باعتبار أن الكثير من الصحافيين والمحررين العاملين فيها فرّوا من القمع في بلدانهم الأصلية، للتعبير والعمل بحرية. وقد غطوا قصصا لا يمكن تغطيتها في بلدانهم من حقوق النساء في السودان إلى الاحتجاجات في إيران والفساد في العراق.
والآن ومع غياب منصتهم، قد لا تُروى تلك القصص أبدا، بحسب غدمين الذي أضاف “الإعلام في الشرق الأوسط يتغذى على مشاعر العداء لأميركا… من غير المنطقي قتل الشبكة كبديل عقلاني، وترك الساحة خالية أمام المتطرفين وأعداء أميركا.” وبينما تصقل شبكات التضليل المنظم في العالم العربي أدواتها الرقمية والبصرية، تتراجع أميركا بهدوء عن ساحة المعركة الإعلامية التي ساعدت في بنائها.
وكتب بيرمان في تحليل لمجلة جي.أس تريبيون “الحرب الإعلامية في الشرق الأوسط ليست افتراضية… إنها معركة يومية وحقيقية، تزداد فعالية. وأميركا تتنازل عنها… شبرا بعد شبر”. وتصر إدارة أم.بي.أن على مواصلة كفاحها من أجل البقاء بفريق صغير جدا يبقي شعلة الأمل والحقيقة حية في الفضاء الرقمي العربي.