"السؤال المفتوح والجواب الحتمي".. كتاب يعيد تعريف العلوم الإنسانية

عمان - يدعو كتاب “السؤال المفتوح والجواب الحتمي: نموذجية العلوم الإنسانية في حوار التخصصات” للألماني هانس روبيرت ياوس، ترجمة الباحث المغربي رضوان ضاوي، إلى تجديد وظائف العلوم الإنسانية التي تنفرد بها، والتي تساهم بقدرتها المنهجية في عملية تكوين التخصصات العلمية، وفي إعادة تعريف العلوم الإنسانية وفق ما أتى به مشروع إصلاح الجامعة للفيلسوف الألماني هامبولدت القائم على فكرة الوحدة والترابط والتكامل بين البحث العلمي والتعليم.
يتضمن الكتاب، الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن (2025)، جملة من العناوين التي حافظ المترجم على ترتيبها وفقا للتقسيم الذي ارتآه المؤلف، حيث العنوان الرئيسي: “نموذجية العلوم الإنسانية في حوار التخصصات”، وتندرج تحته العناوين: “النموذجية التكاملية للعلوم الإنسانية”، و”الوحدة الحوارية في صراع الكليات الجديدة”، ثم “وظيفة العلوم الإنسانية المتجاوزة للحدود: أداة للبحث المتداخل الثقافات وللبحث الأنثربولوجي”. كما ذيلت كل فقرة بهوامش تعريفية وتوضيحية عامة على شكل شروح أو تعريفات أو إشارات.
ويركز موضوع “النموذجية التكاملية للعلوم الإنسانية” على أن الفكر الذي يزود معرفتنا عن الأشياء ويضيف إليها آراء جديدة، هو نفسه الفكر الذي يكمل أيضا كيفية الفهم الأفضل لكمها المتنامي، بواسطة إجراءات مختصرة، وأنه بمقدور فكر البحث العلمي الحديث تحقيق الوظيفتين التاليتين: توسيع دائم ومستمر لدائرة المعرفة، وفي الوقت نفسه تحقيق وسائل جديدة والتغلب مرة أخرى على الغموض الذي يهددها.
ويؤكد الباحث أن الفيلسوف والشاعر فونتنيله، أحد رواد عصر الأنوار، أدرك بفطنته لب المشكلة، وكان قد طرح هذا السؤال قبل ثلاثة قرون، وبقيت إجابته حية في الذاكرة، لأنها تدرك بطريقة ما عملية المعرفة العلمية، والتي لم يلتفت إليها في تاريخ العلم إلا نادرا. فقد أدى تقدم المعرفة الفياضة والمتحررة إلى ظهور مناهج لتبسيطها، وتحقيق المعارف، وإعادة تقييم المعرفة القديمة في ضوء التساؤلات الجديدة.
ويرى الباحث أن الأمر إذا كان يتعلق اليوم بإعادة تفعيل الوظيفة التكاملية للعلوم الإنسانية من أجل حوار التخصصات، فإنه يمكن أن نراهن على التخصصات الكلاسيكية: على الفلسفة ما دامت تدعم مشاكل التلقين بين مجالات العلم والفكر والفن ضد المطالبة الموحدة للعالم، لكن ضد التقسيم الحصري أيضا للعمل بين الفلسفة والعلم، كما يمكن أن نراهن أيضا على اللسانيات ما دامت تخلت عن الكون اللغوي المكتفي ذاتيا وأدمجت فروعها للبحث بعدما أصبحت مستقلة، وكذلك على علم التاريخ، وعلم الأدب.
وفي موضوع “الوحدة الحوارية في صراع الكليات الجديد”، يشير الباحث إلى أنه لا يمكننا رؤية الضرورة الراهنة للعلوم الإنسانية في الزيادة النادرة لما هو قابل للمعرفة فقط، والتي لا يستطيع أن يستوعبها أي عالم كوني، بل يمكننا رؤية حاجة العلوم الإنسانية الحالية إلى التكاثر المنجز وإلى التخصص والاستقلال عن الفروع العلمية وإلى المواد الدراسية والاختصاصات، واستقلالها المؤسساتي الذي رافق، في الغالب، طموح المصطلحات الخاصة والمتقوقعة التي يصعب التواصل والتعاون معها. ولا يختص هذا، كما يؤكد، بالعلوم العملياتية والتأويلية فقط، ولكن أيضا التخصصات التي ما زال بإمكانها أن تتفاهم فيما بينها في اتحاد مع الكليات العتيقة، بعد حلها.
ويبدو، بحسب الباحث، أن تعريف الصراع حول إذا ما كان ارتباط العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية بالحوار والتعاون سيكون أفضل من تعريفها على أنها فروع علمية متخصصة، أو حقول متداخلة، أو تخصصات تعددية، أو بوصفها “عبرمناهجية”، كما لو كانت صراعا حول الكلمات، مؤكدا أن في أعقاب تفتيت كلية الفلسفة العتيقة بلغ تقسيم تخصصاتها إلى مواد جزئية ومواد واصلة وضعا لم تكن لها فيه في الغالب أي أسباب موضوعية ظاهرة أكثر في النظرية العلمية أو في البحث العلمي.
أما في ما يخص “وظيفة العلوم الإنسانية المتجاوزة للحدود”، فيشير الباحث إلى أن الفلسفة تطرح في معناها التقليدي أسئلة يومية عن الخير والشر، عن الدور الذي قام به الإنسان، إذا ما أراد أن يعيش حياة جيدة، وعن الطبيعة، والدولة والجمال… ولكي تستطيع الفلسفة إعطاء أجوبة عن مثل هذه الأسئلة، طورت ما نسميه اليوم علوما، وأدركت أن هذه العلوم فاقتها نموا وحققت استقلالها وفقدت العلاقة مع هذه الأسئلة الساذجة والأساسية (أساسية لأنها ساذجة)، وأصبحت عديمة الأهمية.
ويرى الباحث أن العلوم الإنسانية نشأت نشأة غير مستندة على الماضي، بل هي نشأة عابرة للحدود، ما دامت هي مثل الفلسفة، تهتم مسبقا بالأسئلة التي لا توجد لها أجوبة علمية حتمية، فالأجوبة تكون علمية ما دامت تثبت في وجه النقد المنطقي، ولا تكون الأسئلة علمية، ما دامت تتجاوز حدود ما هو جاهز، وما هو معروف أو ما هو بديهي، وتكشف الأفق المنفتح لتجربة ما هو غير معروف بعد، موضحا أنه إذا كانت العلوم المتخصصة قد نشأت بتحصيلها لهذه التجربة وترتيبها في نظام، فإنها بالقياس إلى دقتها المتناهية فقد فقدت العلاقة مع أهمية حياة أسئلة المنطق، ولهذا السبب لم يعد لديها ما تقوله بالنسبة للوجود الإنساني في المجمل.
ويخلص الكتاب إلى أنه لا يمكن لـ”ثقافة” أن تظل طويلا فرعا لمجال من مجالات الحياة فقط (إلى جانب السياسة، والحقوق، والاقتصاد، والدين)، بل يتوجب عليها أن تتوسع على الكل الثقافي الذي يتضمن “الثقافة كجوهر للعمل الإنساني ولأشكال الحياة”، إذا لم تكن الغلبة اليوم سوى للشكل الثقافي للعالم، فإن العلوم الإنسانية، التي أعيد النظر في توجهها مرة أخرى، ستصبح “المكان الذي يوفر فيه العالم معرفة نفسه، وبعدها سيؤسس شكل المعرفة جوهرها، كما أسس شكل مبدأ المعرفة جوهرا للفلسفة، وستصبح نموذجية العلوم الإنسانية ذات منفعة لمشروع الأنثربولوجية الجديدة، ما دامت تفتح المنافذ التي لا تضم الأعمال الفنية أو أحداث التاريخ وحدها فقط، ولكنها تضم، أيضا، كل تعبير للسلوك الإنساني”.
وستبقى العلوم الإنسانية غير قابلة للاستبدال في ما يخص حوار التخصصات، عندما يتعلق الأمر بفهم موضوع ما انطلاقا من مفهومه، ومن تاريخه، ومن توقيع الحرف ومن شكله؛ أي، في الحقيقة، فلسفيا، وتاريخيا، ولغويا، أو جماليا.