رشيد الخيون يواصل الحفر في الحضارة الإسلامية بحثا عن الحقائق

لم يأت تتويج الباحث العراقي - البريطاني رشيد الخيون بجائزة تحقيق المخطوطات ضمن جائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الـ19 من باب الصدفة، بل هو وليد مشروع دؤوب استمر في نحته الباحث عبر الحفر عميقا في الحضارة الإسلامية بمختلف مآثرها، بحث خاضه بأدوات علمية مدروسة ورؤية متوازنة، مكنته من الكشف عن الكثير من الخفايا.
لندن - نال الباحث العراقي - البريطاني رشيد الخيون مؤخرا جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع تحقيق المخطوطات، وذلك عن تحقيقه كتاب “أخبار النساء” للأمير مجد الدولة أسامة بن منقذ الشيزري الكناني (488 هـ – 584 هـ)، الصادر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية عام 2024، والذي يعد من بين المصادر النادرة في موضوعه، ويتميز بتحقيق علمي رفيع المستوى.
ووفق لجنة تحكيم الجائزة فقد أظهر المحقق فهما عميقا للنص وأصالته التاريخية، إذ يقدم الكتاب إضافة قيمة للدراسات الأدبية والتاريخية، ويعد من أوائل المختارات النسائية عالميا.
أخبار النساء
ذكر الخيون أن كتاب «أخبار النساء» عمل فريد في منهجه ومحتوياته، جمع بين التاريخ، والأدب، والسير لأشهر النساء، جاء زاخرا بالمنثور والمنظوم، والأحكام الفقهية؛ فقد صنفت كتبٌ غير قليلة في أحوال النساء، رصدتها مقدمة التحقيق، لكن ليس لأيّ منها الشمولية التي امتاز بها كتاب ابن منقذ، وهو أحد أبرز أمراء الحرب مع الإفرنج وما عرف بالحروب الصليبية، وكان كتابه «الاعتبار» سيرة ذاتية لنفسه، وربما عد ابن منقذ أول من اهتم بكتابة سيرته بقلمه، وبعده ابن خلدون (ت 808 هـ)، وكتابه «التعريف».
وأضاف الخيون “التقى السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589 هـ)، متأخرا، فلم يتمكن من مرافقته في الحروب التي خاضها الأيوبي، وذلك لكبر سنه، وقد تجاوز الثمانين، حين التقاه، وتوفي مناهزا السادسة والتسعين. كان صلاح الدين شغوفا بشعر ابن منقذ، وفضّل ديوانه على دواوين بقية شعراء تلك الفترة، جمعه له ابنه مرْهف بن أسامة بن منقذ، وكانت له حظوة عنده.”
وكان مخطوط الكتاب في عداد المفقود من مخطوطات التراث الأدبي، حتى قادته الرحلة من أفغانستان إلى باكستان، ثم استقر به المقام في مركز الملك فيصل الذي أولاه عناية كبيرة، وعمل على تحقيقه وإعادة إحيائه ليطبع طباعة فاخرة للمرة الأولى، ويصبح متاحا للباحثين والمختصين وعموم القراء في أرجاء الوطن العربي.
وأوضح محقق الكتاب أنه بعد بحث في مكتبات العالم لم يجد إلا هذه المخطوطة الفريدة النادرة التي يملكها مركز الملك فيصل، ولأن الكتاب مفقود البداية، ومفقودة بعض الأبواب من نهايته، فلم يذكره أغلب المفهرسين والمترجمين، وظل حبيس أدراج المكتبات حتى استدل عليه، وصحت نسبته لمؤلفه بأدلة ضافية.
يذكر أن كتاب «أخبار النساء» صدر في 700 صفحة من القطع المتوسط، ويحمل الرقم 52 في سلسلة تحقيق التراث التي يصدرها مركز الملك فيصل الذي يعمل منذ تأسيسه عام 1983 على العناية بالتراث العربي والإسلامي، والتعريف بنفائس المخطوطات الفريدة والنادرة، وإعادة إحيائها وإصدارها في طبعات علمية أنيقة، حتى أصبحت منشورات المركز من المراجع التراثية والتاريخية التي يحرص على اقتنائها نخبة المتخصصين والمهتمين في العالم العربي.
مشروع بحثي
بتحقيقه لواحد من أهم مصنفات الحضارة الإسلامية يواصل رشيد الخيون مشروعه في الحفر في المناطق البعيدة من الحضارة الإسلامية وكشف دررها وأخبارها وإعادة طرح أهم القضايا الفكرية والدينية، التي تثبت ثراء الحضارة العربية وحركيتها التي منحتها المجد في أوقات سابقة.
ولا يقف الخيون عند المظاهر المضيئة في الحضارة الإسلامية فقط، بل يقدم رؤاه النقدية والكاشفة، إذ لا يسقط مثلما يفعل الكثير من الباحثين في التمجيد إلى حد التزييف، بل يستكشف مظاهر كثيرة مجهولة، ويعيد إحياءها والبحث فيها لتأسيس خطاب نقدي للواقع العربي اليوم، إذ يعود إلى الماضي لنقد ظواهر أحبطت النهضة العربية مثل التشدد والتطرف والانغلاق ومقاومة التجديد وغيرها.
من بين كتبه نذكر “جدل التنزيل مع كتاب خلق القرآن للجاحظ” الذي أثار أكثر القضايا الفكرية والحضارية جدلا في التاريخ الإسلامي ألا وهي جدل التنزيل للنص القرآني، التي شغلت فترة طويلة من الزمن بال المفكرين والدارسين، وخلقت ما يشبه الصراع بين مذاهب فكرية مختلفة، أشهرها المعتزلة الذين أسسوا لمفهوم أن النص المقدس مخلوق.
كما لا ننسى كتابه “أثر السود في الحضارة الإسلامية” الذي ينطوي على جهد بحثي واضح، تجلى في تتبع تاريخ السود وما عانوه بسبب اللون من استعباد وظلم في ظل نظام العبودية والرق الذي كان منتشرا في جميع الحضارات القديمة. كما يقدم الكتاب ترجمات للسود المسلمين ويقف على أدوارهم الثقافية والحضارية منذ فترة النبوة وحتى سقوط الخلافة العباسية ببغداد.
ونذكر أيضا كتابه “العقاب والغلو في الفقه والتراث الإسلامي” والذي يدعو فيه إلى إعمال العقل في عدد من المسائل التي يتم توظيف الدين فيها من قبل الإسلاميين بطريقة تخدم غايات بعينها، كذلك لا نغفل أهمية كتابيه “الأديان والمذاهب بالعراق حاضرها وماضيها”، و”إخوان الصفا إعجاب وعجب”.
يقف مشروع رشيد الخيون البحثي والثقافي مثل جسر يصل بين الماضي والحاضر بكل إشكالياتهما، مع كشف النقاط المضيئة في التاريخ الإسلامي والبناء عليها، لإنقاذ الحاضر من التصورات القاصرة للتاريخ والتي أقحمت العرب في فهم منقوص لماضيهم بل هو فهم مشوّه، وهذا ما يقاومه الباحث بدقة وإصرار، إيمانا منه بأن معالجة الحاضر لا تأتي إلا من خلال معالجة نظرتنا إلى ماضينا بعقلانية وتوازن.
يذكر أن رشيد الخيون أكاديمي وكاتب عراقي مقيم في المملكة المتحدة، حاصل على دكتوراه في الفلسفة العربية الإسلامية. مارس التدريس والإشراف الأكاديمي، وعمل محررا ثقافيا، وهو عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث ومستشار ثقافي في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
كتب في صحف ومجلات عربية كثيرة، ونال جوائز عدة، أبرزها جائزة الملك عبدالعزيز في الدراسات التاريخية، وجائزة أفضل كاتب مقال للعام 2022 من منتدى الصحافة والإعلام في دبي. أصدر نحو ثلاثين كتابا تناولت قضايا الفقه والتراث الإسلامي والتاريخ الفكري.