البرلمان الليبي يتحرك لمساءلة محافظ المركزي بشأن قرار تخفيض العملة

احتجاجات في طرابلس ومصراتة ضد تلاعب الحكومات المتنافسة بالمال العام وإهدار الميزانيات، مع المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن التدهور الاقتصادي والعجز المالي.
الثلاثاء 2025/04/08
ليبيا على صفيح ساخن بعد قرار المركزي

بنغازي - قرّر البرلمان الليبي مساءلة محافظ المصرف المركزي ناجي عيسى بشأن قراره المفاجئ بتخفيض قيمة الدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية، على وقع غضب شعبي عارم وهلع واسع النطاق عمّق الخلافات بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس (غرب) والحكومة الموازية في بنغازي (شرق) وسط تبادل الاتهامات بتحمّل مسؤولية الأزمة.

واستدعى رئيس البرلمان عقيلة صالح كافة النواب إلى جلسة عامة طارئة ستعقد يوم الثلاثاء الموافق 15 أبريل، خصصت لمناقشة الإجراءات الأخيرة التي اتخذها المصرف المركزي والمتعلقة بالوضع المالي والاقتصادي المتردي في البلاد، والاستماع إلى إيضاحات المحافظ.

وكان المصرف المركزي قد أقدم الأحد الماضي على خفض سعر صرف الدينار بنسبة كبيرة بلغت 13.3 بالمئة، ليصبح 5.56 دنانير مقابل الدولار الأميركي الواحد، في حين تجاوز سعره في السوق الموازية حاجز الـ 7 دنانير.

وبرر المصرف هذه الخطوة بأنها "اضطرارية في ظل غياب آمال أو آفاق لتوحيد الإنفاق المزدوج بين الحكومتين المتنافستين"، إلا أن هذا القرار أشعل فتيل الغضب الشعبي، الذي تجلى في خروج مظاهرات احتجاجية ودعوات صريحة للعصيان المدني في عدة مدن ليبية.

وقد أثار قرار تخفيض قيمة الدينار مخاوف وهلعًا واسعًا بين الليبيين، خشية من تأثيراته المدمرة على قدرتهم الشرائية وتداعياته المباشرة على أوضاعهم المعيشية المتردية بالفعل، خاصة في ظل التراجع المستمر لأسعار النفط، المصدر الرئيسي للدخل في البلاد.

وجاء تحرك البرلمان استجابة لطلب عاجل تقدم به 69 نائبًا، طالبوا فيه بضرورة مناقشة الأوضاع الخطيرة المتعلقة بعمل مصرف ليبيا المركزي واستدعاء المحافظ لتقديم توضيح مفصل وشفاف حول آخر التطورات المالية والاقتصادية التي تشهدها ليبيا.

وفي غضون ذلك، شهدت العاصمة طرابلس ومدينة مصراتة وقفات احتجاجية حاشدة نظمها ليبيون للتعبير عن سخطهم العميق إزاء ما وصفوه بتلاعب الحكومات المتنافسة بالمال العام وإهدارها للميزانيات الضخمة دون رقيب أو حسيب. وطالب المحتجون بمحاسبة المسؤولين المتورطين في تدهور الوضع الاقتصادي والعجز المالي المتفاقم.

ورفع المتظاهرون لافتات تحمل شعارات قوية مناهضة للفساد ومطالبة بالإصلاحات الجذرية، من بينها "أموالنا ليست غنيمة.. أين الرقابة؟ أين المحاسبة؟"، و"حاسبوا اللصوص.. ليبيا ليست للبيع"، بالإضافة إلى المطالبة بـ "الشعب يطالب بالتغيير.. وحكومة موحدة".

ووجه نشطاء عبر مواقع التواصل الإجتماعي دعوات للتظاهر أمام مقر مصرف ليبيا المركزي غدا الأربعاء لرفض قرار تخفيض قيمة الدينار والمطالبة بإقامة إصلاحات إقتصادية.

وتأتي هذه المظاهرات الاحتجاجية في سياق عام يشهد حالة مزمنة من الانقسام السياسي العميق والركود الاقتصادي الحاد والتردي المريع في الأوضاع المعيشية للمواطنين، مصحوبًا بغلاء فاحش في الأسعار وانهيار متسارع للدينار الليبي أمام الدولار الأميركي، وسط مطالبات شعبية متزايدة بضرورة محاسبة المسؤولين عن هذا الوضع الكارثي وتحقيق الشفافية الكاملة في إدارة المال العام.

وقد فتح قرار مصرف ليبيا المركزي الباب واسعًا أمام سجال حاد وتبادل للاتهامات بين الحكومتين المتنافستين على حكم البلاد، حيث يسعى كل طرف بضراوة إلى تحميل الطرف الآخر المسؤولية الكاملة عن الوضع المتردي الذي آلت إليه المالية العامة في هذا البلد الثري الذي يغرق في مستنقع أزمته المتفاقمة منذ 14 عامًا.

في هذا السياق، أكدت حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة أن "حجم الإنفاق الموازي من الحكومة (المكلفة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد) والذي جرى خارج الترتيبات المالية الرسمية خلال العام 2024 بلغ ما قيمته 59 مليار دينار (10.65 مليار دولار)"، مشيرة بأسف إلى أن هذا الرقم "يعادل خمسة أضعاف ما خُصِّص للتنمية العامة في الميزانية والتي لم تتجاوز 12 مليار دينار".

ولفتت حكومة الدبيبة إلى أن هذا الإنفاق الموازي جرى "دون الرجوع إلى مؤسسات الدولة وأجهزتها الرقابية، ما أدى إلى تداعيات كارثية على الاقتصاد الوطني تمثلت في استنزاف الاحتياطي النقدي، وارتفاع الدين العام بشكل غير مسبوق، وتراجع حاد في قيمة الدينار الليبي، إلى جانب ارتفاع كبير في الأسعار وتأزم الأوضاع المعيشية للمواطن".

وحذرت بشدة من أن "الإنفاق الموازي، الذي يدار خارج الأطر الرسمية والقانونية، يمثل تهديدًا خطيرًا لوحدة الدولة المالية ويضعف بشكل كبير فرص التنمية والرقابة"، منبهة إلى أن "أي جهد يبذل خارج الترتيبات المعتمدة يفقد الشعب حقه الأصيل في الشفافية والمحاسبة، ويضر بالمصلحة الوطنية العليا"، مجددة دعوتها الملحة "إلى توحيد المسارات المالية بشكل فوري، والعمل تحت مظلة الدولة الواحدة، بما يضمن العدالة الكاملة في التوزيع، ويعزز فرص التنمية المستدامة والاستقرار الشامل في كامل ربوع ليبيا".

في المقابل، ردت حكومة أسامة حماد بغضب على بيان المصرف المركزي واتهمت نظيرتها في الغرب بالإنفاق "دون أي سند قانوني وبالمخالفة الصريحة" لما صدر عن مجلس النواب من تشريعات واضحة في هذا الخصوص، مؤكدة أن هذا السلوك غير المسؤول هو الذي تسبب في "تفاقم الوضع الاقتصادي المتردي بالفعل، وأثر سلبًا بشكل مباشر في زيادة الإنفاق العام بشكل فوضوي وغير مبرر".

واعتبرت حكومة حماد أن هذا التصرف "هو السبب الرئيسي في خلق ظاهرة الإنفاق المزدوج المشؤومة التي أرهقت الاقتصاد الوطني وأوصلته إلى حافة الانهيار"، وقدرت نفقات حكومة الدبيبة حتى نهاية العام 2024 بنحو 500 مليار دينار ليبي.

وأكدت حكومة حماد التزامها الصارم بتنفيذ أحكام القانون الذي يوجب عليها العمل وفق اعتمادات شهرية موقتة تقدر بجزء من اثني عشر جزءًا من ميزانية العام السابق، وذلك إلى حين اعتماد قانون الميزانية الموحد لعام 2025، واتهمت المصرف المركزي بمخالفة القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية عبر "تغطية نفقات الحكومة منتهية الولاية دون أي سند قانوني أو أساس شرعي".

وعلى الرغم من تأكيدها أن قرار تخفيض قيمة الدينار هو اختصاص أصيل لمجلس إدارة المصرف المركزي، إلا أن حكومة حماد اعتبرته في بيان لاذع، محاولة يائسة للتنصل من المسؤولية عن اتخاذ التدابير الأخرى الضرورية للمحافظة على احتياطات النقد الأجنبي المتناقصة، والبحث عن حلول بديلة أكثر فعالية وجدوى للاقتصاد الكلي المنهار، مثل اتباع سياسة عادلة وشفافة في فتح الاعتمادات.

وأكدت حكومة شرق ليبيا حرصها الشديد على توحيد الإنفاق العام وتحقيق الشفافية الكاملة فيه وتعزيز الاستقرار الاقتصادي الهش، وقالت إنها لطالما دعت إلى "توحيد الإنفاق العام بشكل كامل، والالتزام الصارم بقواعد الحوكمة الرشيدة والشفافية المطلقة في كل المعاملات المالية، وحذرت مرارًا وتكرارًا من مغبة الإنفاق العشوائي وغير المسؤول خارج إطار الميزانية العامة للدولة".

وفي سياق تبادل الاتهامات الحاد، اتهمت حكومة حماد نظيرتها في الغرب بـ"رعاية اقتحام مقر مصرف ليبيا المركزي خلال العام الماضي عن طريق مجموعات مسلحة خارجة عن القانون، وذلك لفرض وتمكين مجموعة غير شرعية لإدارته بالقوة والاعتداء على موظفيه الشرفاء".

وتحدثت عن التبعات السلبية لهذا "الاقتحام" الخطير، ومنها التأثير السلبي على سمعة المصرف المركزي وإضعاف مركزه الائتماني أمام المؤسسات المالية الدولية المرموقة، لافتة إلى حدوث "سطو على احتياطيات المصرف الحيوية"، ما أدى في نهاية المطاف إلى التدهور الكارثي في سعر صرف الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية.

كما اتهمت حكومة الدبيبة بتجاوز قرار مجلس النواب الصريح بإيقاف مبادلة النفط بحلول سبتمبر الماضي، ما تسبب في "استنزاف خطير للموارد وسوء إدارتها بشكل فج، إذ إن هذه المبادلة لم يجر توثيقها بشكل رسمي في سجلات وزارة التخطيط والمالية وفق ما أقره النظام المالي للدولة".