قضايا ليبيا تتجاوز السحر والشعوذة

التيار السلفي الذي يسيطر على مفاصل المجتمع الليبي يدافع عن فكرة أساسية هي: إقناع الفقراء بفقرهم والعاجزين بعجزهم وتحميل السحرة والمشعوذين المسؤولية عن كل ما يحدث في البلاد من كوارث.
السبت 2025/04/05
كل ما يحدث في ليبيا سببه السحرة والمشعوذون.. حتى الكوارث الطبيعية

عندما بدأ الحديث عن الحرائق الغامضة التي اندلعت في عدد من المنازل بمدينة الأصابعة وضواحيها، خرج البعض ليعزو أسبابها إلى أعمال السحر الأسود. وانخرط مسؤولون في هذا الاتجاه بدعوة دار الإفتاء للتدخل لتفسير الظاهرة.

حاول وزير التعليم العالي في حكومة طرابلس عثمان القيب تقديم تفسير علمي للظاهرة، مرجحا أن تكون الهزات الأرضية الأخيرة في منطقة الرحيبات المجاورة سببا محتملا للحرائق في الأصابعة. وقال “رصدنا خلال الأيام الماضية زلزالا بقوة 3.5 درجة على مقياس ريختر وعلى عمق 5 كيلومترات تحت الأرض. هذه الهزات تؤدي إلى تشققات في الأرض تنبعث منها غازات قابلة للاشتعال.” وأشار إلى أن أجهزة الرصد سجلت انتشارا كبيرا لغاز الميثان في مدينة الأصابعة، وهو غاز عديم اللون والرائحة وقابل للاشتعال.

تلك المعطيات التي تحدث عنها الوزير كان يمكن أن تضرب سردية التفسيرات الغيبية في مقتل. لذلك، سارع رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة إلى تقريع الوزير من خلال بيان رسمي حذّر فيه المسؤولين من الإدلاء بتصريحات غير مدروسة. وأكد أن أيّ تجاوز للاختصاصات أو خرق للوائح المنظمة سيواجه بالمساءلة القانونية، مشددا على أن الوزير القيب كان عليه التواصل مع الجهات المختصة قبل الإدلاء بتصريحاته.

◄ الشعوب العظيمة والقوية هي التي تفسر ظواهرها وتحدد خياراتها وتصنع حاضرها ومستقبلها بالعلم والتقنية، لا بمزاعم الحرب على السحر والشعوذة

يبدو أن التفسير الذي أقنع حكومة الدبيبة وجانبا كبيرا من الشارع هو أن الجن كان وراء الظاهرة. وقد جاء لينتقم من السكان المحليين بحرق منازلهم بعد أن قام بعض أبناء المنطقة باستخراج كنز كبير من تحت الأرض دون رغبته. وخرج أحد “العارفين” على شاشة التلفزيون ليعلن بوضوح أن الجن وجه رسالة إلى الأهالي مفادها “أعيدوا لي كنزي، أتوقف عن حرق بيوتكم.”

في يناير 2024، أقر مجلس النواب الليبي، في جلسته بمدينة بنغازي، قانون حد السحر والشعوذة، الذي تقدمت بمشروعه هيئتا الأوقاف والشؤون الإسلامية في طرابلس وبنغازي. وينص القانون على معاقبة الساحر بالقتل إذا ثبت أن سحره تضمن كفرا، أو ترتب عليه قتل نفس معصومة. كما يمكن للقاضي أن يحكم، وفقا لما توفر لديه من حيثيات قانونية، على الساحر بإحدى العقوبات الآتية: القتل، أو السجن المؤبد، أو السجن لمدة لا تقل عن خمس عشرة سنة، مع غرامة قدرها مئة ألف دينار.

وطالما هناك قانون، فلا بد من مؤسسات تتولى تفسيره والتوعية بمخاطر الأعمال التي تؤدي إلى تسليط العقوبات التي ينص عليها. وهو ما حدث بالفعل من خلال تأسيس اللجنة العليا لبرنامج “حصين” لمكافحة أعمال السحرة والمشعوذين، التي تنتشر في أغلب مناطق البلاد من خلال فروع تنشط داخل مكاتب الأوقاف. وتقول اللجنة إن هدفها توعية الناس بخطر السحرة والمشعوذين، وكشف شرهم وحيلهم. ويؤكد زوار مكاتب الهيئة أن الشيوخ العاملين فيها يمتلكون العلم والموهبة لإخبار من يجلس أمامهم عمّا إذا كان مسحورا أم لا.

بين الحين والآخر، تقوم الهيئة بحملات للكشف عن طلاسم وحروز السحر التي قد تكون دُفنت في المقابر. في ديسمبر الماضي، شنّ اللواء 444 قتال، تحت إمرة محمود حمزة، مدير جهاز المخابرات العسكرية في غرب ليبيا، حملة مكثفة بالتعاون مع لجنة “حصين” لتنظيف المقابر من السحر المنتشر بكثرة بين القبور. وأكد أن الحملة مستمرة في عدة مناطق.

ليس مهما أن تكون هناك طلاسم منتشرة فعلا في القبور، لأن من السهل على الأطراف المستفيدة إعدادها ودفنها في المقابر، ثم التظاهر لاحقا بالعثور عليها بين عظام الموتى. هذا يبرّر سيطرة رجال الدين الذين أحكموا قبضتهم على المجتمع من خلال فرض مظاهر التدين الاجتماعي على الفاعلين الأساسيين في المشهد العام، وهم أمراء الحرب وقادة الميليشيات. هؤلاء يتظاهرون بالزهد والتقوى، بينما يمارسون من وراء تلك الصورة كل أشكال النهب والفساد والعبث بالمال العام، وتهريب الأموال إلى الخارج، والتلاعب بممتلكات الدولة دون رادع أمني أو قضائي.

◄ وزير التعليم العالي في حكومة طرابلس عثمان القيب حاول تقديم تفسير علمي للظاهرة، مرجحا أن تكون الهزات الأرضية الأخيرة في منطقة الرحيبات المجاورة سببا محتملا للحرائق في الأصابعة

إذا اقتربنا أكثر من المسألة، نجد أن التيار السلفي، الذي يسيطر على مفاصل المجتمع الليبي سواء في شرق البلاد أو غربها، يعد الحليف الأول للممسكين بمقاليد السلطة، والأقدر على ابتزازهم. يدافع هذا التيار عن فكرة أساسية هي: إقناع الفقراء بفقرهم، والعاجزين بعجزهم، والمحرومين بحرمانهم، وتحميل السحرة والمشعوذين والجن والشياطين والغضب الإلهي المسؤولية عن كل ما يحدث في البلاد من أزمات وكوارث. في المقابل، تُطلق أيادي أصحاب القرار للتمسك بامتيازات الحكم ونهب الثروات دون حسيب أو رقيب.

بحسب تقرير صادر عن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، فإن “المعتقدات والممارسات المتعلقة بالسحر والشعوذة أدت في العديد من البلدان إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الضرب، والإقصاء، وقطع أعضاء الجسم، والتعذيب، والقتل.” وعلى الرغم من خطورة هذه الانتهاكات، غالبا ما تغيب الردود الصارمة من الدول، مما يكرّس الإفلات من العقاب.

قبل أيام، قرر جهاز الأمن الداخلي الليبي إغلاق مقار عدد من المنظمات الإنسانية الدولية. ورغم أن السبب المعلن هو تورطها في خطة توطين المهاجرين غير الشرعيين، إلا أن الدوافع الحقيقية تبدو مرتبطة بتشجيع مبادرات المجتمع المدني ونشر أفكار تخالف قيم المجتمع الليبي، مثل الإلحاد والمثلية. الحقيقة التي يمكن التوقف عندها هي أن الجماعات الدينية الحاكمة ترى في حكم طالبان بأفغانستان النموذج الأفضل لإدارة المجتمع، وهو ما يتطلب إغلاق الأبواب أمام أيّ رياح مغايرة قد تهب من الخارج.

في النهاية، الشعوب العظيمة والقوية هي التي تفسر ظواهرها وتحدد خياراتها وتصنع حاضرها ومستقبلها بالعلم والتقنية، لا بمزاعم الحرب على السحر والشعوذة.

8