الفراتي جمعة الناشف يمزج الحبر بالصخر واللون بالقصيدة

يتكامل الفن التشكيلي مع الكلمة الشعرية رغم اختلاف أدوات العمل، فلا عمل شعريا من دون تصور تشكيلي وتصويري، ولا عمل تشكيليا بلا رؤية شعرية تكثف الأشياء والأفكار والمشاعر، قد يغلب عند المبدع الذي يجمع بينهما أحد الفنين على الآخر، لكنهما في النهاية يشكلان رؤية نافذة في اكتشاف عوالم الإنسان وهذا ما نجده في تجربة الفنان السوري الفراتي جمعة الناشف.
يعد الفنان التشكيلي والنحات والشاعر السوري الفراتي جمعة الناشف من الأسماء اللامعة في المشهد الفني السوري والعربي، حيث استطاع أن يحفر اسمه في عالم التشكيل بموهبته الفريدة التي مزجت بين الرسم والنحت والشعر، فكان إبداعه انعكاسا لرحلته الحياتية الشاقة، ونضاله الفني الذي جعله يتجاوز كل الصعاب.
ولد الفراتي جمعة الناشف في بيئة بسيطة، حيث كان والده عاملا بالأجر اليومي يعيل أسرة كبيرة، وقد عاش طفولته وصباه في بيئة بسيطة ما جعله يعمل منذ نعومة أظافره ليتمكن من شراء الأدوات التي يحتاجها لممارسة هوايته الفنية. ورغم كل العقبات التي واجهها، لم يتخل عن حلمه، بل كان إصراره على النجاح أقوى من الظروف القاسية التي عايشها.
النحت والقصائد
بعد سنوات من الكفاح، انتقل الناشف إلى بيروت، حيث كانت هذه النقلة نقطة تحول في مسيرته، فقد أتيحت له فرصة عرض أعماله والمشاركة في المعارض، ما ساعده على نيل الاعتراف بفنه. ومن خلال معارضه الفنية، تمكن من ترك بصمته الخاصة التي جعلت منه فنانا مميزا بأعماله النحتية والتشكيلية.
أبدع الفراتي جمعة الناشف في مجال النحت بطريقة فريدة، حيث تمكن من تطويع الصخر وتحويله إلى تحف فنية تعبر عن قضايا إنسانية ووطنية. لم يكن النحت بالنسبة إليه مجرد تشكيل لمواد صلبة، بل هو عملية إبداعية روحية تتداخل فيها المشاعر والأفكار. فقد قدم العديد من المنحوتات التي عبرت عن مآسي الحرب والأمل بالسلام، ومنحوتاته تحمل في طياتها ملامح التاريخ السوري وموروثه الثقافي. استطاع أن يخلق من الحجارة الجامدة قطعا تنبض بالحياة، وتروي قصصا خالدة عن الإنسان السوري، عن نضاله وصموده.
كما أن لوحاته تعكس رؤيته العميقة للحياة، فقد استخدم ألوانا قوية ومتناقضة لتعكس صراعات الإنسان الداخلية والخارجية. وقد تميزت أعماله التشكيلية بأنها لا تقتصر على الجمال البصري فحسب، بل تحاول إثارة الفكر وتحريك المشاعر، حيث تأخذ المتلقي في رحلة تأملية تعبر عن معاناة الإنسان وأحلامه. وفي معرضه “خربشات خلف القماشة”، استخدم تقنية الخربشات كأداة تعبيرية، حيث دمج الخطوط العشوائية مع الألوان، ليخلق عوالم متحركة تعكس فوضوية الحياة وعبثيتها، تاركا للمتلقي حرية استكشاف الأفكار الثورية التي تنبثق من تفاصيل لوحاته.
لم يكن الناشف فنانا تشكيليا وحسب، بل كان أيضا شاعرا حساسا، حيث كتب العديد من القصائد التي ربطت بين تجربته التشكيلية ورؤيته الشعرية، فكانت كلماته بمثابة نحت للأحاسيس والمشاعر كما كان ينحت الصخر. ومن أبرز قصائده “لحافي والحبر”، التي تحمل نغمة وجدانية عميقة، تعكس معاناته وصراعه مع الحياة. وتتجلى في كلمات الشاعر مشاعر الحب والحنين للوطن.
كونه ابن مدينة الرقة السورية، كان لنهر الفرات أثر بالغ في تكوينه الإبداعي، حيث انعكس في لوحاته ومنحوتاته وشعره. فقد كان الفرات مصدر إلهام له، سواء عبر مشاهده الطبيعية الخلابة أو كرمز للخصب والتجدد الذي تجسد في أعماله التشكيلية التي ترسم مشاهد من النهر بأسلوب تعبيري يحاكي الحنين والجذور. وقد أبدع في توظيف الرمز في أعماله، حيث تجد في منحوتاته وأعماله التجريدية إيحاءات مستمدة من طبيعة المكان وانعكاساته على ذاته، حيث يرى في الفن وسيلة لنقل التاريخ والوجدان والهوية الثقافية السورية.
مزيج فني
شارك الناشف في العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل سوريا ولبنان وخارجها، وكان له حضور قوي في صالات بيروت الفنية، حيث لفتت أعماله أنظار النقاد والمتابعين. ومن بين أبرز معارضه “وجه أمي” الذي قدم فيه أربعين لوحة تكرم والدته وسوريا الأم الكبرى، و”خربشات خلف القماشة” الذي جمع فيه بين العشوائية الفنية والرمزية العميقة، و”إزميل الحبق” حيث كانت الكلمة المنحوتة جزءا من العرض التشكيلي. كما أنه استلهم العديد من الأعمال من الأسطورة السورية والتاريخ الفينيقي، حيث مزج بين الطابع المعاصر للوحة والنحت وبين العمق التراثي.
تجربته الفنية خولته ليكون أحد أبرز الفنانين السوريين الذين أثروا في المشهد الفني العربي، حيث استطاع أن يخلق أسلوبا فريدا يجمع بين التجريد والتعبير الرمزي، ما جعله مختلفا عن باقي فناني جيله. كما أنه يحمل رسالة ثقافية في فنه، فهو لا يرسم أو ينحت لمجرد الإبداع، بل يسعى دائما لتجسيد قضايا إنسانية ووطنية عبر أعماله، حيث تشعر في أعماله بوجود صوت داخلي يخاطب المتلقي، ويدعوه إلى التأمل والتفكير في القضايا الكبرى التي تؤرق الإنسان المعاصر.
إن الفراتي جمعة الناشف ليس مجرد فنان تشكيلي أو نحات، بل هو حالة فنية متكاملة تمزج بين الإبداع البصري والكلمة الشعرية، ما يجعله أحد أبرز رموز الفن السوري والعربي. ورغم أن مسيرته كانت مليئة بالتحديات، إلا أن شغفه بالفن جعله يحفر اسمه في ذاكرة التشكيل العربي، ليبقى إبداعه شاهدا على موهبة فريدة لا تعرف الحدود. وبفنه الذي لا يعرف القيود، استطاع أن يعبر عن المأساة والأمل في آن واحد، حيث تجسد أعماله رحلة الإنسان السوري بين الحلم والمعاناة، بين الجمال والخراب، بين الأصالة والحداثة، ليشكل بذلك مزيجا فنيا متميزا يحمل في طياته روح الفرات وأصالة التراب السوري. لقد أعاد صياغة الجمال في النحت والرسم عبر رؤى حداثية تتجلى في توازن الأشكال وانسيابية الخطوط وقوة التعبير، ليبقى اسمه خالدا في سجل الإبداع الفني السوري والعربي.