نجاة الذهبي ترسم بقوة الإيحاء لإنقاذ الواقع من ضجره

تشكيلية تونسية لا تتمرد على الأساليب الفنية المتاحة تونسيا بقدر ما تسعى إلى إقامة وشائج بين تجربتها وتجارب فنانين عرب.
الأحد 2025/03/30
رسوم نجاة الذهبي من تحت وسادة الساحرة

حين قرأت أول مرة مقالا للفنانة التونسية نجاة الذهبي وجدت فيه ما يبهر من الأفكار الفنية المدهشة التي تتجاوز المألوف والسائد. لقد قلت يومها “هذه ناقدة من طراز خاص في حياتنا الثقافية”، غير أنني حين رأيتها ترسم في مدينة الحمامات ثم عدت في زمن آخر إلى رؤية أعمالها في مرسمها بتونس العاصمة، تأكدت من أنها توظف أفكارها المتمردة في ابتكار أسلوب يقدمها رسامة من طراز خاص أيضا.

الهوية الكاملة

الذهبي المولودة عام 1978 في بلدة المزونة بولاية سيدي بوزيد كانت قد خططت منذ دراستها الأكاديمية وكانت بعنوان “إيروس في تصويري للجسد الأنثوي” بعد “الصورة الإيروسية في المنمنة الإسلامية” لمشروعها الفني ليكون مزيجا من الرؤية النقدية للعالم الفني وتفكيك علاقة المرأة بمحيطها.

كل المراجعات النقدية التي قدمتها الفنانة نجاة الذهبي وهي تتصدى لتجارب الآخرين الفنية إنما تدخل في صلب رغبتها في الإخلاص لتمردها على يسر الوصفات الجاهزة لخلق صورة. وإذا ما كانت الفنانة قد ركزت على صورة المرأة في المخيلة الشخصية للآخر المختلف والذاكرة العامة المليئة بشوائب الفكر الذكوري، فإن ذلك لم يكن إلا تجسيدا لرؤيتها النسوية التي تنطوي على الكثير من مفاهيم التمرد على الصورة المتاحة في الواقع كما في اللوحة.

وعلى الرغم مما يبدو من زهو انفعالي في لوحات الذهبي كما لو أن مفرداتها تندفع بعصف تأثير موسيقي عالي الإيقاع يحث على الرقص، فإن هناك جانبا حزينا يهب الوقت الذي يقضيه المرء في تأمل لوحاتها معنى المساءلة والاستفهام عن الأبعاد التأويلية للصورة وهل تتمكن الأشكال الناقصة من الإبلاغ عن هويتها الكاملة في عالمنا المضطرب؟

ترسم الذهبي صورا لا تكتمل إلا في خيال مَن يشاهدها. ستكون لكل متلق صورته التي تستجيب لطريقته، لا في النظر فحسب بل وأيضا في التفكير. فالذهبي التي تستعير مشاهدها من واقع متخيل لا ترسم إلا بعد أن يكتمل لديها الإحساس بأن الصورة التي سترسمها ستكون قادرة على استدعاء مئات الصور التي تشبهها في الواقع من غير أن تكون نسخة منها.

أليس العالم مجرد لقطات عابرة يلاحق بعضها البعض الآخر فلا يملك أحدنا أن يغلق عينيه على مشهد حتى يشعر أن ذلك المشهد قد تحلل كما لو أنه قد خُلق من مادة سائلة؟

ولأن النساء أكثر الكائنات التي تشف عن سؤال الفقدان فقد وجدت الذهبي فيهن ضالتها. فعلى الرغم من اهتمامها بالمكان من خلال تجلياته المصغرة فإن الزمن هو الخيط الذي تعلق عليه شذراتها التي تنتقيها من أجزاء مختلفة من جسد المرأة. النساء أكثر من سواهن اهتماما بمساءلة الزمن. والذهبي حين تضع فرشاتها على جسد امرأة فإنها تحرر ذلك الجسد من تكلسه العضوي لتبعث الحياة في تمرده على ذاكرته. فهي لا ترسم لكي تتذكر وما من واحدة من نسائها لا ترى في النسيان طريقا تشتبك فيه القداسة بواقع تتحكم به قوتا الحُسن والدهاء.

هناك خيلاء فائضة يمكن النظر إليها باعتبارها نوعا من شهوة لم يعشها أحد وهي شهوة حياة صادمة لا يمكن التعبير عنها بالصورة إلا إذا كان في إمكان تلك الصورة أن تدفع مشاهديها إلى الصراخ احتجاجا أو اعجابا.

رسوم نجاة الذهبي تنطوي على ذلك الإيقاع الموسيقي الذي لابد أن ينتهي بصرخة.

لقد تعلمت الفنانة أن تفلسف ما تراه بعينين تريان الجمال غنيمة حرب داخلية. ما من أشلاء لتسقط ولكنها الأفكار التي تحلق بتلك القطع الفاخرة من جسد امرأة مجهولة الملامح تمتنع عن أن تكون ضحية التأويل. ولكن الذهبي لا ترسم عالما مغلقا على لذائذ سحره الغامض إلا من أجل أن تصدمنا بحقيقة أن ما لا نقوى على احتوائه يظل جاهزا كما لو أن يدا لم تمتد إليه من قبل. تنعشنا نجاة الذهبي بنضارة رسومها التي يمكن أن يخبئها البعض تحت الوسادة باعتبارها نوعا من الأحلام.

بين الفن ونقده

◄ تحرر الأشكال الإنسانية من حدودها الخارجية
تحرر الأشكال الإنسانية من حدودها الخارجية

أقامت نجاة الذهبي أكثر من خمسة معارض فردية ناهيك عن مشاركاتها في المعارض الجماعية داخل وخارج تونس. أصدرت كتابا نقديا واحدا هو في امتداح العين. وهو عبارة عن قراءات في تجارب تشكيلية عربية معاصرة.

أحلى ما فيها أنها لا تنظر إلى تجارب الآخرين ممن تعجب بأعمالهم من خلال رؤيتها الفنية الشخصية أو طريقة تفكيرها في الفن. أهلتها خبرتها الأكاديمية لكي تكون على دراية بأن التجربة الشخصية لن تكون معيارا للحكم على الآخرين. هناك مناطق أخرى كثيرة يعمل فيها الخيال الفني على تأسيس وجوده.

عملت الذهبي نقديا على أن تكون منحازة لموضوعها غير أن هاجسها الأساس لم يكن مرتبطا بطريقة تفكيرها في الفن التي هي تلخيص لحساسيتها الشخصية. ذلك من حقها باعتبارها رسامة. يمكنها أن تقول بيسر “لستُ ناقدة. أنا فنانة. وحين استعرض آرائي بأعمال الآخرين فإنا أكشف عن شيء من أسراري الفنية” ذلك أمر طبيعي. ذلك ما يهب معنى حقيقيا لكل ما تفعله.

من وجهة نظري فإن نجاة الذهبي تمثل ظاهرة استثنائية في تاريخ الفن بتونس على المستوى النسوي على الأقل. ذلك لأنها لا تتمرد على الأساليب الفنية المتاحة تونسيا بقدر ما تسعى إلى إقامة وشائج بين تجربتها وتجارب فنانين عرب كان لها الفضل في تسليط الضوء عليها.

تحرر نجاة الذهبي الأشكال الإنسانية من حدودها الخارجية، أما عن طريق تقطيع تلك الحدود وأما من خلال اسالتها وإذابتها. وفي ذلك محاولة لإبراز التناقض بين العزلة الفردية والمشاركة الجماعية وهو تناقض لا يقع تحت السيطرة دائما. ذلك لأنه يتمدد في فضاء وهمي تعرف الفنانة جيدا أن مصائر كائناتها تتحرك فيه ومن خلاله.

كل الصور التي ترسمها قابلة للتأويل وهو تأويل يتداخل من خلاله المرح العابث مع شعور قوي بحجم الفقدان. لذلك تلجأ الذهبي إلى رسم سلاسل من اللوحات كما في القصص المصورة. كل سلسلة تروي حكاية من نوع خاص. حكاية ليست سردية بقدر ما هي محاولة لاقتناص لحظات الشعر الكامنة في حياة تمر سريعا.

تبدو لوحاتها كما لو أنها لم تكتمل. نداءات عاجلة يغلب عليها طابع الهلع والبحث عن منفذ للهروب. سيكون على كل مشاهد أن يخترع حكايته الشخصية لكي ينضم إلى عالم الفنانة المفتوح. نجاة الذهبي ترسم حياتها وحياة الآخرين بقوة الإيحاء وليس تحت تأثير الوقائع المباشرة. ذلك ما يضفي على محاولتها طابع التأليف الانفعالي.

تمثل نجاة الذهبي طليعة التحول الذي يشهده الرسم في تونس.

◄ رسامة من طراز خاص
رسامة من طراز خاص

 

8