دنفر ليست مدينة فحسب بل مزاج يلتقي فيه الماضي بالحاضر

لكل مدينة حكاية لن تعرفها إلا بدخول شوارعها الخلفية واكتشاف زواياها البعيدة والاطلاع على عاداتها والتحادث مع ناسها. لكل مدينة سحرها وخصوصيتها وتاريخها. ودنفر الأميركية من تلك المدن، فيها التقاء ساحر بين الطبيعة والإنشاء البشري، وفيها قصص لم يمحها الزمن، فهي حاضرة ومازالت أمام كل من يفتح قلبه لها.
دنفر ليست مدينة تزار وحسب، بل مكان يعاد اكتشافه في كل مرة، كأنها تتعمد أن تبقي شيئا منها مخفيا عنك لتهمسه لك في الزيارة التالية، لتغويك بمفاجأة جديدة، أو ذكرى قديمة، أو شعور لا تدري من أين جاء. لا يهم كم مرة وطأت أرضها ففي كل مرة تشعر أنها تمنحك وجها جديدا من وجوهها، كأنها تحتفظ بسر في كل حي، وتطويه لك بعناية في زاوية شارع أو مقهى أو ناصية جبل.
في قلب القارة الأميركية، حيث يلتقي الشرق بالغرب وتفصل بينهما المسافة وتربطهما الجبال، تتربع دنفر، عاصمة ولاية كولورادو، كأنها مدينة ولدت من صلب الطبيعة لا من رحم العمران. ليست دنفر مجرد مدينة عادية من مدن الولايات المتحدة، بل هي نقطة التقاء بين الحضارة والبرية، بين التقدم والمدى المفتوح، بين الماضي والدهشة الأولى.
أعلى من البحر
أذكر حين زرت دنفر أول مرة، كنت في منتصف الثلاثينات من عمري، العمر الذي يقال إنه بداية النضج، لكنه في الحقيقة ذروة الحيرة الجميلة. فيه ما يكفي من الشباب ليبقى فيك الولع بالاكتشاف، وما يكفي من التجربة لتدرك أنك لا تعرف إلا القليل.
في ذلك الزمن، كنت أبحث عن أماكن لا تشبه المدن المعتادة. دنفر كانت كذلك. كانت فكرة أكثر من كونها وجهة: مدينة توصف بأنها الأمن في الولايات المتحدة، مدينة يغلب شبابها على كهولها، ولدت على علو شاهق عن البحر، كأنها تنأى بنفسها عن ضجيج السهول، وترتفع باتجاه النقاء.
في قلب القارة الأميركية حيث يلتقي الشرق بالغرب وتفصل بينهما المسافة وتربطهما الجبال، تتربع دنفر، عاصمة كولورادو
أنفاسها جافة، لكنها صافية. هواؤها لا يحمل رطوبة لزجة، بل خشونة خفيفة تذكرك بأنك في مكان يجاور الجبال، لا المدن. ربيعها رطب بما يكفي ليوقظ الأشجار، ودافئ بما يكفي لتزهر الأرواح. وأينما تولي وجهك تجد الماء، ينبع من ثلوج ذابت، من سماء أغدقت، من نهر خجول يسيل في حديقة عامة.
تلقب بـ”المدينة المرتفعة” لأنها تقف على ارتفاع ميل كامل عن سطح البحر، كأنها أرادت أن تنأى بنفسها قليلا عن الضوضاء، وتقترب أكثر من السماء. ومنذ تأسيسها في عام 1858، وهي تحمل روح المغامرة في تفاصيلها، تلك الروح التي حملت المستكشفين الأوائل إلى سفوح “بايكس بيك” بحثا عن الذهب، والتي لا تزال حتى اليوم تنبض في شرايين من يزورها.
القطارات التي صنعت مجدها، ما زالت تسير – وإن لم تعد كثيرة – لكنها تسير بما يكفي ليبقى صوتها جزءا من حكاية دنفر. في “محطة يونيون” العريقة، حيث يدخل الزائر كما يدخل قلب المدينة، تفوح رائحة التاريخ في كل ركن، وتتناثر الطاولات والمقاهي كما تتناثر الذكريات على أرصفة الزمن. المحطة، التي تحولت إلى مكان للتأمل والتذوق، لا تزال “غرفة المعيشة” الأولى لدنفر، حيث يستريح المسافرون ويتنفس الماضي الحاضر.
لكن دنفر لا تتوقف عند حدود المدينة، بل تتسع لتشمل مشاهد لا تنسى: جبال مهيبة، وسهول تلوح بالأفق، وغابات كأنها خرجت من لوحة انطباعية، وأخاديد حمراء تشق الأرض بشغف. هل تتصور أنك في يوم واحد يمكنك أن ترى الثلج على القمم، وتلامس الدفء في السهول، وتتنقل بين الصخور الملونة والأودية الوعرة؟
مدينة الحكايات
في منتزه “بينت ماينز”، الذي يبعد ساعة ونصف عن المدينة، تتبدى الطبيعة بلون الطين المؤكسد، كأن الأرض رسمت نفسها بألوان النار والتراب. وهناك، وسط صمت التكوينات الصخرية، يخيل إليك أن الأزمنة تتداخل، وأنك تقف على عتبة حضارة قديمة لا تزال تنبض من تحت التربة.
أما “شلالات برايدل فيل”، فهي قصيدة ماء تنحدر من علو 365 قدما، هناك في شرق تيلورايد، حيث يختبئ الجمال في أقصى تفاصيل الطبيعة. إنها أعلى شلالات كولورادو، تصلها عبر مسارات مشي تحفها الأشجار والضباب، وتبقى عالقة في الذاكرة كأغنية لا تنتهي.
ولمحبي السفر بالسكك الحديدية، توفر دنفر رحلة حالمة على متن قطار “روكي ماونتينر”، الذي ينطلق ببطء كأنه يمنحك وقتا كافيا لتقع في حب كل مشهد، من الصخور الحمراء في يوتا إلى الأخاديد المتعرجة في كولورادو. القطار لا يسرع، بل يتأنى عن قصد، كي تعيش الرحلة بكل حواسك. يمر بنفق “موفات” الأسطوري، ويعبر “روبي كانيون” الذي لا يمكن بلوغه إلا من على متن هذا القطار أو عبر الماء، في مشهد فريد يجعل من كل لحظة على السكة قصيدة مصورة.
لكن دنفر ليست فقط طبيعة، بل مدينة حقيقية تنبض بالناس والحياة. بشوارعها الأنيقة، وأبنيتها التاريخية في “لاريمر سكوير”، حيث الطوب الأحمر والأضواء الدافئة تعكس طابعا تراثيا جذابا. سكانها قرابة 700 ألف، يمثلون فسيفساء بشرية متنوعة، من ثقافات وخلفيات متعددة، جعلت من المدينة مكانا يليق بالجميع.
الاقتصاد فيها قوي ومتنوع، يقوم على السياحة، التكنولوجيا، التعليم والطاقة. الدخل السنوي للأسرة ارتفع من 60 ألف دولار في 2017 إلى 70 ألفا في 2024، ما يعكس نهضة متواصلة، رغم أن أسعار المساكن ليست بالرخيصة، إذ تبلغ القيمة المتوسطة للمنزل حوالي نصف مليون دولار، والإيجارات تلامس 1800 دولار شهريا.
أما التعليم، فهو ركيزة أساسية في شخصية المدينة، إذ تحتضن جامعات مرموقة مثل جامعة كولورادو وجامعة دنفر، وتتميز بمنظومة صحية حديثة، بمستشفياتها المتقدمة كمستشفى “أورورا” أو “سانت جوزيف”.
دنفر لا تتوقف عند حدود المدينة بل تتسع لتشمل مشاهد لا تنسى: جبال مهيبة، وسهول وغابات خارجة من لوحة انطباعية
المناخ في دنفر يشبه المزاج البشري المتقلب، فالأيام مشمسة غالبا، لكنك لا تأمن مفاجآت الطقس، وقد تمر عليك الفصول الأربعة في يوم واحد. لكنه طقس يحفز الخيال ويغذي الشعر، ويمنح الطبيعة مسرحا لعروض لا تتكرر.
دنفر ليست فقط مدينة، بل مزاج… لا تدخلها عابرا، بل تدخلها كما يدخل العاشق قلب من يحب، ببطء، بتأمل، بتوقع دائم للمفاجأة. هي مكان تتآلف فيه الجغرافيا مع الذاكرة، وتتجاور فيه الجبال مع ناطحات السحاب، وتسمع فيه أصوات القطارات القديمة جنبا إلى جنب مع موسيقى المقاهي العصرية.
إنها المدينة التي همست للجبال يوما “إن كنتم شامخين بالصمت، فأنا سامقة بالحكايات”.
في دنفر تتوزع المتنزهات كأن المدينة مصممة لترتاح. قرابة مئتي حديقة وحديقة، متناثرة مثل نقط ندى على صفحة منسوجة بالخضرة. لكن ليس الخضار وحده ما يسكن دنفر، بل الجبال. جبال الروكي، تلك القمم الشامخة التي ترنو إليك من الأفق، ولا تكتفي بالفرجة، بل تدعوك لتأتي. وهناك، في مرتفعاتها، يمارس الزائرون هوايات لا تصلح إلا لمن بقي في قلبه طفل: التزلج، ركوب الدراجات، تسلق الصخور، اللهاث خلف الأفق.
في كل خطوة، تلمس مدى ما تقدمه المدينة لسكانها من توازن: متاحف تحفظ تراثا علميا وفنيا وإنسانيا، من “متحف الطبيعة والعلوم” إلى “متحف الفن المعاصر”، وصولا إلى المتحف الذي يروي تاريخ الأميركيين السود في الغرب الأميركي. والمجتمع هناك، ليس فقط في ظاهره متنوع، بل في عمقه كذلك.
المدينة الآمنة تعتبر نقطة التقاء بين الحضارة والبرية، بين التقدم والمدى المفتوح، بين الماضي والدهشة الأولى
على شارعها السادس عشر، حيث يقف قلب دنفر نابضا، تمشي في متاهة من الأبراج والمصارف، لكنك لا تشعر بأنك غريب، لأن الشارع، رغم صخبه، يترك لك متسعا للانفراد بنفسك. هو شارع مشاة، لا تزدحم فيه السيارات، بل تزدحم فيه القصص.
عند ناصية ذلك الشارع، تتبدى هوية المدينة القديمة. دنفر، قبل أن تصبح دنفر التي نعرفها، كانت بلدة جبلية تلبس قبعة “الستيتسون” وتشمر عن ساعديها. لا تزال تحتفظ بشيء من تلك الروح حتى الآن. أغنية “Rocky Mountain High” لا تزال تغنى، وأطباق مثل “خصيتي الثور” لا تزال تقدم، لا لمجرد الطرافة، بل كطقس محلي يختبر به الزائرون جرأتهم.
وإن رفعت بصرك، ستجد تمثال راعي البقر هناك، لا يقف فقط ليزين المكان، بل كمن ينتظر إشارة ليعود إلى المزرعة. والكاوبوي في دنفر ليس مجرد أسطورة، بل هو وجه من وجوه الحياة.
المدينة أيضا مدينة علم، ففيها جامعة تعود إلى عام 1864، جامعة دنفر، حيث تختلط العلوم بالسياسة بالتاريخ بالشغف. من قاعاتها خرجت مادلين أولبرايت، وكوندوليزا رايس، فالأرض التي تحتضن الجبال قادرة أيضا على إنجاب السياسات الكبرى. الجامعة مزيج من المعارف، كأنها جبال الروكي الأكاديمية، ترتفع من كلية إلى أخرى: من إدارة الأعمال، إلى القانون، إلى الدراسات الدولية، إلى علوم الحاسوب والهندسة.
في إحدى الرحلات، دعاني صديق يملك أهله أراضي شاسعة لا تعرف لها نهاية. ركبنا السيارة، واتجهنا نحو الأفق. مررنا على جسور، منها جسر “دنفر ميلينيوم”، الذي بدا لي وكأنه آلة موسيقية بيضاء، أو جناح طائر ضخم يرتفع 61 مترا في الهواء، مشدودا بالكابلات، كأنه لا يريد أن يطير، بل يبقى معلقا على حافة الحلم.
مزيج من جبل وريح
حين وصلنا قرية قريبة، تركني صديقي عند مدخلها ليجلب السيارة. استغللت الوقت، ودخلت مقهى صغيرا على ناصية الشارع. المكان بدا بسيطا، لكنه مشغول بتفاصيل تدهش: ثريات قماشية تضفي دفئا، مفارش عنابية، لوحات لأشجار مجهولة، وطاولات صغيرة تكاد تهمس لك بأن تختار إحداها بهدوء.
في آخر المقهى، كان هناك باب زجاجي كتب عليه بخط يدوي “حديقة خلفية”. استأذنت العاملة، فسمحت لي، فدخلت إلى الحديقة. لم تكن كبيرة، لكنها مرتبة بعناية كأن أحدهم يعتني بها كل صباح. نسمة باردة لسعتني، لم أعرف إن كانت نسمة برد أم ذكرى مرت من هنا قبل أعوام. تلفت باحثا عن مصدر هذا الإحساس، فوجدت المفاجأة تنتظرني، لا في من رأيت، بل في ما أيقظت رؤيته في من دهشة قديمة.
بعدها بأيام، زرت مطعما عربيا لصديق من أصول سورية، يقيم في دنفر منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما. كان المطعم ممتلئا برائحة الشام: توابل، أصوات طرب، وزبائن يتحدثون العربية بلكنات مختلفة. صديقي يملك عددا من المطاعم، ويعمل في تجارة العقارات والتوابل. يطوف العالم بحثا عن أعشاب وبهارات لها طعم، وله فيها ذكريات، يشحنها من تركيا، من إسبانيا، ويوزعها على مطاعم دنفر.
في كل زيارة تكررت إلى كولورادو، كنت أجد دنفر كما تركتها، لكنني أنا لم أكن كما كنت. المدينة تبقى، تتغير في التفاصيل فقط، بينما نحن الذين نتغير من أعماقنا، فتنكشف لنا زوايا جديدة كنا نمر بها دون أن نراها.
في بيوت كثيرة دخلت، في بلدان عبرت، وجدت حكايات كانت تستحق أن تروى، وأخرى تستحق أن تدفن في القلب. حاولت أحيانا أن أروي ما لا يروى، أن أجمل تفاصيل القسوة، أو أن أحذف ما يوجع، لكنني كنت أفشل دائما، لأن الحكاية لا تكون حكاية إن نزعت منها جوهرها.
دنفر، في النهاية، ليست مدينة فحسب، بل مزاج. مزيج من جبل وريح، من قهوة وأغنية، من شتاء وصيف، من عربي مهاجر يحمل تراثه في صوته، إلى أميركي يبحث عن جذوره في وجوه الغرباء. هي مدينة تشبه الإنسان في تحوله، في ثباته، في تناقضه. ولهذا، ستبقى واحدة من المدن القليلة التي إن خرجت منها، لم تخرج هي منك.