الثقافة في الجزائر: معارك الوزير التي لم تبدأ

إذا كان تعيين زهير بللو وزيرا للثقافة والفنون مفاجئا للكثير من المتابعين، كونه لم يأتِ، كما تعوّد المشهد، من قلب المشهد الثقافي والفني أو قريبا منه، فإن مرور أكثر من أربعة أشهر يُعد فترة كافية لإحداث طفرة ونقلة نوعية لافتة يمكن أن تُحسب له أو تُضاف إلى مساره، خاصة وأن الرجل متمرس في دواليب الوزارة، يعرف تجاذباتها ومشاكلها ورجالها ونساءها، فقد شغل عدة مناصب فيها، كان آخرها أمينا عاما، قبل أن يتم إنهاء مهامه بشكل دراماتيكي وهو يؤدي مناسك الحج في عهد وزيرة الثقافة والفنون السابقة صورية مولوجي.
سرّعت النميمة والصراعات على النفوذ في إسقاطه، قادتها الحلقة الضيقة التي كانت تلتف حول الوزيرة سالفة الذكر، بما فيها مستشار جيء به وسقط من السماء في عهد الفيلسوفة حاليا مليكة بن دودة، وزيرة الثقافة السابقة. وتقول مصادر من هناك إنه أعاد ترتيب نفسه وهندامه ليبدو أكثر وضوحا في عين الوزير.
لا يبدو على الوزير الاستعجال في حسم الكثير من الأمور العالقة التي يتخبط فيها القطاع، خاصة معركة السينما، حصان طروادة الرئيس عبدالمجيد تبون، الذي حثّ وألحّ وأصرّ على بعث مجدها، ولو كلف ذلك “أموال قارون”، كما قال ذلك في جلسات خاصة بالسينما عُقدت منذ فترة أمام الإطارات العليا للدولة. ملل الفنانين والممثلين والمنتجين سريعي الاستجابة، وهو تصريح أسال اللعاب وهم يتلقونه بالكثير من التصفيق الحار حتى كادت أيديهم تصاب بالتقرح.
◄ من خلال الكثير من القراءات ثبت أن جل وزراء الثقافة لا يملكون سياسة واضحة لما يريدونه من الثقافة والفن؛ لا رؤية حقيقية تلمع بالأهداف البعيدة والقريبة، ولا حسا عاليا بحجم التحديات التي تمر بها الجزائر
في اعتقادنا، أن الخبرة لا تنقصه، ولا الاستشارات التي تأتيه طازجة وتكاد تتفحم من كثرة ما تتردد على مسامعه. ويكون قد أخذ عنها فكرة واسعة وهو خارج الوزارة حين تمت الإطاحة به، بل هناك أمر جوهري يعطل ويكبح، ويكاد ينطبق على معظم الوزراء الحاليين، ألا وهو عدم تلقيهم الضوء الأخضر من طرف المسؤولين الفعليين، خاصة في مستويات عليا في الدولة، الذين يعود إليهم القول والفصل والفعل في القرارات، حتى في أبسط التعيينات وإنهاء المهام.
مثلما هو حاصل مع الوزير، الذي حسب معلومات، تمّ تجميد قائمة الأسماء التي اقترحها لترافقه في مشوار حكمه في الوزارة. أسماء انتهت صلاحيتها ولم تعد تنفع، وأخرى كان سيستقدمها، والله أعلم من أين؟ وأخرى فُرضت عليه فرضا حين فاجأوه بقرار إلحاق شخصية على جناح السرعة بـ“الكبينات”، ثبت فشلها في تسيير قناة تلفزيونية قال إنها ستكون قناة عالمية من شأنها أن تنافس كبريات القنوات. غير أنها انطلقت، واتضح فيما بعد أنه كان يبيع الوهم ولم تحقق الحلم. وبعد سنوات، تم الاستغناء عن خدماته، غير أنهم أعادوه إلى الواجهة كما أسلفنا، وبالضبط إلى جنب وزير الثقافة والفنون.
هذه العطالة المتذاكية التي وجد الوزير نفسه فيها ليست بالشيء الجديد في منظومة الحكم في الجزائر، خاصة وأن السنوات الأخيرة حملت بشائر التغيير في عقلية كل شيء، كما تصوره تبون وخطط له منذ توليه الرئاسة. غير أنه لم يتحقق ولم يحقق المرجو منه، فتكررت الوجوه وكأنها عُجنت في قالب واحد، وأعيدت رسلكة نفس النمط في التسيير القائم على التعيينات المؤسسة منذ الاستقلال على الولاءات والجهة والصحبة.
كما حصل مع المستشار الذي أشرنا إليه سابقا، حيث ينحدر من نفس منطقة أحد المتنفذين في دواليب النظام، وهو من وضعه على رأس القناة، ولكنه ليس هو من أخرجه. ولكي يتخفف من ثقله بعد أن ضيّق عليه السبل، أرسله مباشرة إلى مبنى وزارة الثقافة والفنون.
قلنا إن التسيير، والتعيين أيضا، ظل ثابتا لا يتزعزع في نظر العائلة الحاكمة. لا يعتمد في الكثير من الأحيان على المهارة والإتقان والتمييز والخيال، وروح تقاتل من أجل الأفضل والأحسن. وهو ما خلق حالات اعوجاج ونكوص وتراجع أعاق بعث الديناميكية في مفاصل الدولة، بل أحرجها وترك رجالا آخرين يرقعون الثقوب ويحاولون مسح الكوارث.
ضف إلى ذلك دبيب الخوف الزاحف في نفوس الكثير من الوزراء والمدراء والولاة منذ سقوط حكم بوتفليقة، حيث انكشف وجه الفساد القبيح والرهيب الذي تفشى في كل القطاعات بلا استثناء. جرّ معه من وُصفوا آنذاك بالأقوياء الذين لا يرف أمامهم جفن، إلى غياهب السجون في سلسلة طويلة من قضايا وملفات ما زالت قائمتها مفتوحة إلى الآن، حتى مع المنظومة الجديدة للحكم.
في حالة الثقافة والفنون، يبدو الأمر أعقد من مجرد وجوه ما زالت تتكرر وحتى تُستنسخ، ولم تعد تجدي نفعا.
◄ الثقافة والفن والسينما وغيرها من اللواحق تحتاج إلى همة وخيال متقد وانتباهات، لا إلى جبر خواطر فلان وعلان
سكنت هذه الوجوه مبنى ومعنى المشهد الثقافي والفني منذ سنوات، على الأقل منذ الوزيرة السابقة للثقافة والفنون صورية مولوجي، حتى يخال المرء أن هذا المشهد توقف وتجمد، وأصيب بالعطالة والعطب والكساح. فما الذي حققته المهرجانات السينمائية، مثلا؟ ولنذكر فقط مهرجانين أسالا الكثير من الحبر والجدل واللغط، وهما خير دليل على حجم الاستيلاء والتباهي بمنجزات ذهبت أدراج الرياح.
فلا انبثقت عنهما أفلام قوية تستمر في مخيلة المشاهد أو المتابع، ولا رُوّجت وجوه جديدة تكتسح الساحة، مثلما قالوا إنهم كوّنوهم ودربوهم واكتشفوهم من خلال ورشات وبرامج. ولم نقرأ عن انبهار الضيوف بهما بعد إسدال الستار، بل لم يقف هؤلاء ولو بكلمة طيبة أو يصدروا بيانا عما تواجهه الجزائر من هجمات وانتقادات وتشكيك. اختفوا في السراب، وهو ما ينطبق أيضا على تظاهرات أخرى ثقافية وفنية شدت الرحال إليها جموع الكتّاب والمثقفين العرب وغيرهم بدعوات كريمة إلى الجزائر، ولم يعطوا أنفسهم حتى حق السؤال عنا.
فما هي الأهداف، حقا، التي تتزركش في أفواه القائمين عليها حتى تعاد الثقة بهم ويقال لهم: شكرا واصلوا؟ هذا ما نتلمسه اليوم من محاولات حثيثة ضاغطة على الوزير ومحيطه تمنع التغيير، خاصة بعد أن وقعوا بين فكي شخصيتين إشكاليتين أصبحت لهما كلمة عليا وقرار غامض، وبدأتا تتسربان بسرعة في المشهد.
لن نخطئ في قراءة الواقع الثقافي والفني الذي ظللنا نتتبع تحولاته عشرات المرات، نحن وغيرنا، حتى كدنا نشكك في ما نقوم به: هل نحن على صواب حقا أم أننا نخبط خبط عشواء أمام قوة هؤلاء؟ وهي ليست قوة مواجهة الند للند، مشروع بمشروع، فكرة بفكرة، بل قوة تتعاطى بالنميمة والتقول، وشد الخيوط خلف الستائر، والضرب تحت الحزام، وإشعال الحرائق أمام كل صوت أصيل أقسموا أن يظل في الهامش.
لسنوات، سادت الرداءة والارتجال والتسطيح، إلا في ما ندر، ولم يعد أي أحد يحتمل هؤلاء المتخفين وراء أقنعة زائفة، ومقولة “نحن نعرف كل شيء، وكل كاتب، وكل فنان، ومثقف، وشاعر، وصحافي، وممثل، ومخرج عالمي، ومنتج و…” هلم جرا، من سلسلة الأكاذيب التي لا يتوانون في تسويقها للرأي العام ولصنّاع القرار الثقافي والفني.
وقد وقفنا أكثر من مرة على تهافت أحدهم وهو يلوح في صفحته بصور لممثلين عالميين يلتقطها في مهرجانات كبرى كأي معجب أو صحافي، ثم يدعي أنهم أصدقاؤه الروح بالروح. وهو ما سهّل له التموقع في قلب المشهد، بل على ضوئها كلفته الوزيرة السابقة مولوجي بمهمات إقناع مخرجين كبار، الذين كما يروج يعرفهم، للإشراف على فيلم الأمير عبدالقادر. وسافر عشرات المرات إلى الولايات المتحدة بأموال “البايلك” ليعود خالي الوفاض. مع ذلك، ما زال يصول ويجول، والأدهى أنه يضغط ليبقى على رأس مهرجان سالت على جوانبه دم الفضائح والمهازل.
◄ لا يبدو على الوزير الاستعجال في حسم الكثير من الأمور العالقة التي يتخبط فيها القطاع، خاصة معركة السينما، حصان طروادة الرئيس تبون، الذي حثّ وألحّ وأصرّ على بعث مجدها، ولو كلف ذلك "أموال قارون"
3 أو 4 وزراء استهلكتهم الجزائر الجديدة. نجح بعضهم في مواقع، وآخرون فشلوا، بل لم يعد أي أحد يذكر أنهم مروا على قصر الثقافة. انمحوا تماما، وكأنهم لم يكونوا، رغم اللغط الذي كان يحيط بهم من الموالين والغاضبين.
في اعتقادي، لا يكمن الخلل في الإمكانيات المرصودة من الدولة للقطاع، وخير مثال على ذلك الأموال التي صُرفت على المهرجانين سالفي الذكر، دون أن ننسى مساهمات الخواص، بل يكمن الخلل في نوعية الرجال المختارين للمهمة، إذ ثبت من خلال الكثير من القراءات الدقيقة والمتابعة الرصينة أن جلهم لا يملكون سياسة واضحة لما يريدونه من الثقافة والفن؛ لا رؤية حقيقية تلمع بالأهداف البعيدة والقريبة، ولا حسا عاليا بحجم التحديات التي تمر بها الجزائر خارجيا وداخليا.
لم يضعوا الجزائر في قلب هذه التحولات بأفكار فارقة، لافتة، مبتكرة، لامعة ومبهرة. وهو ما يجب أن ينتبه إليه الوزير بللو لو أراد أن يترك بصمة عالية في مسار توليه الوزارة. عليه أن يصغي السمع جيدا للكثير من الأصوات العميقة التي تخفق بالتنوع والاختلاف، لا للأصوات القريبة منه الناشزة التي مللنا من نبرتها.
والأهم أننا نعرف قدراتها وحالها. عليه أن ينظف، ويقتحم، ولا ينتظر التعليمات الفوقية. فإذا كان على حق وفي أفق رأسه المصلحة العليا للبلاد، فلا أحد يمكن إيقافه مهما بلغ من الجبروت والسيطرة.
الثقافة والفن والسينما وغيرها من اللواحق تحتاج إلى همة وخيال متقد وانتباهات، لا إلى جبر خواطر فلان وعلان، ومراقبة ما يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى ضوئه تتحرك البوصلة، مثلما كانت تفعل الوزيرات اللواتي مررن على القصر.
على الوزير أن “يزدم” كما نقول بالعامية (يقتحم)، وإلا ابتلعه هؤلاء.