شعرية القصيدة العربية الحديثة لها شروطها وأشكالها الخاصة

الرباط- يقدم الباحث المغربي المصطفى البوسعيدي، في كتابه “شعرية القصيدة العربية الحديثة.. من البنية إلى الدلالة”، جهدا متميزا في تجلية التراكم النقدي العربي والغربي عن مفهوم “الشعرية”، انطلاقا من قصائد لبدر شاكر السياب ومحمود درويش ثم محمد الفيتوري.
وجاء الكتاب، الصادر حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن، في مقدمة مدخلا يتناول مفهوم “الشعرية” انطلاقا من سياقها التأريخي وبعدها المقارباتي وأهميتها في النقد الحديث بناء على المدارس التي تبنتها، وأربعة فصول تتمحور حول بنيات القصيدة التي تمثل محورا مهما من محاور الشعرية الحديثة.
ويبحث البوسعيدي في قضية شائكة هي الشعرية، التي وإن كانت تعتبر عماد الشعر، فإنها تمثل منهجا نقديا معاصرا لم يكتمل بعد، حيث لا تزال الدراسات قائمة لتضع لها مبادئ وقوانين ثابتة في ظل هيمنة الموجة العلمية الحديثة المتسلطة، وتعد المجهودات التي يبذلها علماء الشعرية المعاصرة منطلقات أساسية نحو الكشف عن ماهية الشعرية التي تتفلت وتتمنع عن الأطر والقوانين العلمية الصارمة.
في تتبعه لملامح الشعرية العربية المعاصرة عالج البوسعيدي بداية في الفصل الأول من الكتاب بنية الإيقاع من الوجهتين النظرية والتطبيقية، فبعد أن دلل المؤلف على علاقة الإيقاع بالتركيب اللغوي، قام بمقاربة هذه البنية انطلاقا من ثلاثة مستويات، هي: مستوى التشكل، انطلاقا من الجمع بين التقطيعين: الصوتي والكمي، عبر خاصيتي النقص والزيادة وأثرهما في إغناء السياق الشعري، ومستوى التنوع الذي يتتبع اختلاف الإيقاع الكمي في النص، ثم مستوى التمفصل الذي يرصد علاقة الإيقاع بالتركيب عبر خاصيتي التضمين والتدوير.
وناقش ثانيا بنية التوازي، متناولا المستوى الصوتي الذي يعرفه السياق الشعري عبر جملة من الأطراف المفردة والمركبة المختزلة لوحدة القصيدة المتجلية في التماثل الصوتي القائم بينهما.
في حين تناول الفصل الثالث بنية الضمير في علائقه السياقية، وقد قسمه المؤلف إلى ثلاثة مستويات: ضمير المتكلم، وضمير الغائب، وضمير المخاطب، مبينا أن هذه الضمائر تكون متعددة الوضعيات في النص الشعري الحديث بحسب الوضعيات التعبيرية التي يريدها الشاعر.
وتحت عنوان “بنية الدلالة” جاء الفصل الرابع، وخلص المؤلف فيه إلى اختبار علاقة المشابهة المتحققة بالتشبيه والاستعارة، وعلاقة المجاورة المرتبطة بالكناية المشكلة للتعابير الملحمية المنتقاة من السياق الشعري، ثم علاقة المفارقة المبنية على التقابل الدلالي التركيبي أو السياقي.
ويرى البوسعيدي، في خاتمة الكتاب، أن الشعرية في النقد العربي الحديث “كانت من بين أهم المقاربات النقدية المواكبة لتطور الأساليب الأدبية وتنوعها، فشكلت بهذا الاهتمام ‘موضة’ بارزة لاستنباط الأسس المميزة للشعر الحديث، مقارنة بمراحله السابقة، ليخلص أنصار الشعرية إلى أن القصيدة الحديثة التي كسرت وحدة البنية الشعرية، وتجاوزت مفهوم البيت الشعري، تتميز ببناء عضوي جعل من النص الشعري وحدة سياقية متداخلة المستويات، ولا قيمة لخصائصها الأسلوبية إلا داخل فاعليتها السياقية.”
ويوضح المؤلف أن بنية الإيقاع ذات أهمية كبيرة في قصائد الشعر الحديث؛ حيث حاول السياب ودرويش والفيتوري، ومن سار على دربهم، تطوير وسائلهم الفنية بعد تجاوز الرواسب الإيقاعية، فأصبح الإيقاع الجديد عندهم فاعلية سياقية يتم تشغيلها على مستويات مختلفة، منها التشكل والتنوع والتمفصل.
ويؤكد المؤلف في خاتمة كتابه على أن بنية التوازي تتحقق بفعل الوحدة العضوية للنص الشعري، عبر التماثل القائم، إما عن طريق المشابهة أو التضاد. والتوازي في هذا السياق “قابل للتحقق عبر عدة مستويات، كالتوازي الصوتي الذي من أنماطه القافية والتجنيس، والترديد والترصيع والموازنة، وهو تواز ظاهر، على خلاف التوازي الإيقاعي الخفي،” في حين يتحقق التوازي الدلالي من خلال الترادف والتضاد والاقتراض والتناسب. أما التوازي التركيبي فتكمن أهميته في تحقيق الوحدة العضوية بواسطة جملة من المؤشرات النحوية، كالضمائر والروابط اللغوية.
ويلفت المؤلف إلى أن المشابهة تتحقق من خلال تراكم أساليب التشبيه والاستعارة، ما يؤكد “كثافة التعبير التي تعكس انفعالات الشاعر،” في حين تتحقق المجاورة عن طريق تراكم السمات الكنائية التي تعتمد بساطة التعبير، أو بواسطة السمات الاستعارية التي توجد تعابير مجازية، أما المفارقة فتنقسم إلى مفارقة تركيبية تتجسد إما بالتضاد في النص الشعري على مستوى التراكيب، أو مفارقة سياقية تتميز بكثرة الإيحاءات، وتعدد الأبعاد الدلالية، وتستدعي خلفية معرفية بالسياق الشعري أكثر عمومية.