ناقد مصري يبحر في أعمال عشرة مبدعين من تونس

فرج مجاهد عبدالوهاب يحلل روايات وقصصا تونسية معاصرة.
الثلاثاء 2025/03/25
الشخصية الروائية تواجه ملحمة السرد (لوحة للفنان عاطف معطالله)

لكل بيئة خصوصياتها وهو ما ينعكس بشكل واضح على الكتابات السردية، فرغم التشابه الأسلوبي وحتى في المواضيع المطروحة بين الأعمال الروائية والقصصية في هذا القطر أو ذاك من الأقطار العربية، فإن هناك خصوصية قد تكون جلية أو خفية لأدب كل منطقة، وفي هذا التوجه يدرس كتاب "قراءات ورؤى في السرد التونسي المعاصر" البعض من الأعمال الأدبية التونسية.

يحاول الناقد المصري فرج مجاهد عبدالوهاب متابعة الإنتاج الأدبي التونسي خلال السنوات الماضية، ويلاحظ أن السرد التونسي (رواية وقصة قصيرة) بلغ آفاقا عظيمة من الإبداع والإبهار، لذا رأى أن من واجبه الأدبي متابعة هذا الإنتاج وقراءته والتعريف به، من خلال سلسلة من المقالات والدراسات لأعمال عشرة مبدعين ومبدعات من تونس، قدموا اثني عشر عملا إبداعيا.

 وهو يأمل أن يصله إبداع كل من يمارس كتابة السرد القصصي والروائي في تونس “عسى أن نصل معا إلى حقيقة ترسيم خارطة المشهد السردي في جميع أركانه”.

روايات من تونس

رواية سردية تُشير بشكل واضح إلى تماس حداثات الرواية العربية المعاصرة بشكل فني وتقني
رواية سردية تُشير بشكل واضح إلى تماس حداثات الرواية العربية المعاصرة بشكل فني وتقني

يفتتح فرج مجاهد كتابه “قراءات ورؤى في السرد التونسي المعاصر”، الذي صدر حديثا عن سلسلة “كتابات نقدية” التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، بالحديث عن الكاتب إبراهيم درغوثي و”شبابيك منتصف الليل”، مؤكدا أنها رواية سردية تُشير بشكل واضح إلى تماس حداثات الرواية العربية المعاصرة بشكل فني وتقني على الرغم من جنوح عباراتها إلى أسلوب اللغة المكشوفة العارية.

ويُرجع الناقد الانكشاف إلى فرضيات النص الروائي الذي فرض الختان الخاطئ الذي أفقد الصبي – في الرواية – نصف عضوه. وإلى فرضيات سياقات الأحداث المتضادة والمتناقضة من قبل “الإخوة الثلاثة” مما أباح لهذه اللغة أن تعرِّي مستور الأجساد، وفرضية كتاب “الروض العاطر في نزهة الخاطر” وما ورد فيه من مكائد النساء، وعن المحمود من الرجال والنساء. مما أفرز في النهاية جنوحات النص الروائي في بعض مفاصله إلى اللغة المكشوفة.

ويرى عبدالوهاب أن رواية درغوثي واحدة من الروايات التي بشَّرت بحداثة روائية قادمة أطيافها من أحد مبدعي تونس الذين أثبتوا حضورهم وأشاروا إلى إبداعاتهم الروائية بكل قوة وثقة، فكانوا من العلامات البارزة في الحراك الروائي العربي دون شك أو ريبة أو ادعاء.

ثم يتوقف الناقد المصري عند الكاتب حسونة المصباحي و”هلوسات ترشيش” وحكايات الغربة والمنفى والاشتياق، وروايته التي اشتلمت على تسعة فصول سردية مليئة بالحياة والصور البكر، حيث قدَّم المبدع حكاية “ترشيش” الواقعة تحت حكم العجوز بقوة الهيمنة والحصار، مما دفع بطله الراوي إلى أن يغوص في واقع أصبح هو يجهل تفاصيله، فكانت “ترشيش” قاسية على أبنائها الذين لم يعودوا يرون غير الظلام يسد كل النوافذ.

ويعقب قائلا “نعم هكذا كانت ترشيش تونس الحبيب بورقيبة، وهو يقود أمة أعاقها بحكمه، كبَّلها بخنق الحريات وسحق المعارضين، وهذا ما أدى إلى ظهور الملتحين الغاضبين الناقمين الساعين إلى نشر مبادئهم البعيدة كل البعد عن الإسلام وقيمه الفاضلة”.

أما الكاتبة حياة الرايس، فيختار عبدالوهاب روايتها “بغداد وقد انتصف الليل فيها”، ويرى أنها فضاءات لسيرة روائية كانت الذات فيها نواة لكيمياء زمكانية مرجعية. فمن هذا الفضاء القائم على فعل كتابة رواية سيرية تبدع الروائية التونسية وتقدم لقراء العربية ونقادها أنمودجا فنيا يشكِّل ملمحا سرديا جديدا في السرد التونسي والعربي على حد سواء. وقد صدرت الرواية في القاهرة 2021.

أما رواية “في قلبي أنثى عبرية” للكاتبة خولة حمدي، فيرى الناقد أنها نص روائي على إيقاع المشاهد السينمائية، ينتمي إلى الواقع، راصدا الكثير من قضايا المجتمع اليهودي المُغلق. فعلى مدى 386 صفحة من السرد الحكائي الطويل موزعة على ما يربو على خمسين مشهدًا على غرار المشاهد السينمائية بدءًا من تونس التي تعد من الدول العربية التي تعيش بين جوانبها جالية كبيرة من اليهود منذ فترة سحيقة من القدم، وكان من الطبيعي – من خلال الجوار والسكن والأسواق والمناسبات الاجتماعية المتعددة – أن تنشأ علاقات تبادلية بين اليهود والمسلمين والمسيحيين يتوَّج بعضها بالزواج وبناء أسر خليطة من الأديان الثلاثة. ومن تونس إلى بيروت وقانا والجنوب اللبناني تروي خولة حمدي حكاية واقعية من الممكن أن تجري بين الديانات الثلاث، فتبرز ندى اليهودية التي ساعدت في إسعاف أحمد المسلم بعد عميلة فدائية لتنشأ بينهما قصة حب أسلمتْ ندى من أجلها، إضافة إلى ريما المسلمة التي عاشت في كنف أسرة يهودية.

أما الكاتبة خيرة خلف الله ففي روايتها “عواطف مفخخة”، التي صدرت في القاهرة 2015، ووقعت في خمسة وعشرين فصلا من السرد الجذَّاب والمراوغ برموزه وإسقاطاته وشغله على قصة فتاة عاشت مأساة شعبها والإحباطات بكل الأفكار التي بادت وتآكلت وأمست عالة على إدراكها، فلم تجد غير الإبحار في عالم الافتراض على صفحة حاسوبها مدفوعة برغبة البحث عن شيء دفين داخلي يهبها عصا السحر حتى تكون الثقة على قائمة طلب الصداقة لتنهض بينها وبين الكمبيوتر تلك الصداقة التي شاركت في ثورة البلد والانتصار على الطاغية الحاكم والطغمة الفاسدة، في أسلوب سردي جذّاب مشبع باللغة الشعرية الراعشة المفجرة لذلك البوح الوجداني والسياسي، لتضيف إلى الروايات الراصدة لما يسمى بالربيع العربي رواية من نوع خاص في أسلوبها وتناولها وما طرحته من موضوعات تعددت واختلفت إلا لتلتقي في وحدة الهدف المصاحب لثورة الشعب التونسي والمتماهي مع نجاحات السرد المعروفة والمتألقة منذ زمن في الحراك السردي التونسي المعاصر.

حح

ينقلنا الناقد إلى رواية “الطلياني” لشكري المبخوت، حيث الشخصية الروائية في مواجهة ملحمة السرد المغامر، من خلال اثني عشر فصلا حمل كل فصل عنوانه الكاشف عن مضمونه، والكاشف عن مسرى الأحداث المتتالية على الساحة التونسية خلال ثمانينات القرن الماضي التي وصل فيها “بورقيبة” إلى حالة من العجز والمرض رغم فرض سيطرته على البلاد بقوة جهازه الأمني وعنفه.

ويوضح الناقد أن شخصية عبدالناصر تشكل عمود الحكاية الفقري في رواية “الطلياني” فهي نظام سردي أنشأه النص تدريجيا، لتتحول إلى شخصية “بؤرية” تنقل الأحداث من خلال وجهة نظرها. ومن ثم فهي رواية تنتمي إلى جنس الرواية الشخصية بامتياز لقيامها على ميثاق صريح كان أو ضمنيّا من جهة، ولاختلاف قصة شخصيتها الرئيسة عن سيرة مؤلفها من جهة ثانية، ليكون ضمير الغائب هو السائد والمتبني دور الراوي.

وعلى ذلك يرى الناقد أن هذا العمل الإبداعي وضعنا أمام تجربة روائية تونسية جعلتنا ندرك من خلالها المدى المتألق الذي وصلت إليه الرواية في تونس الخضراء، ولا عجب إن كانت الرواية بعد ذلك هي الفائزة بجائزة البوكر العربية لعام 2015.

معادلة الحب والثورة

الكتاب يكشف عن تجارب روائية وقصصية تونسية ندرك من خلالها المدى المتألق الذي وصل إليه السرد التونسي
الكتاب يكشف عن تجارب روائية وقصصية تونسية ندرك من خلالها المدى المتألق الذي وصل إليه السرد التونسي

ثم ينتقل الناقد المصري إلى المجموعة القصصية “لا شيء يحدث الآن” لصلاح الدين بوجاه والتي ضمت ثلاث عشرة قصة قائمة على الحكي الطويل لمجموعة من الأحداث التي دفع المؤلف فيها إلى الراوي لأن يحكي ويروي ويتداخل بشكل فني واضح مع بنية قص حمل الكثير من الفنيات القصصية التي تشير إلى قاص واع ومتمكن من فنه وقدراته على الحكي دون خلل أو ملل.

ثم يتطرق إلى عالم المبدع فيصل محمد الزوايدي الذي يدخلنا عوالم ثلاثين قصة راوحت بين القص القصير المختزل لغةً وإفاضةً وسردًا والذي نقل بعض فضاءاته إلى أسلوب الخاطرة الوجدانية الدافئة، التي لا تخلو من نسيج قصصي، قائم على الحدث والشخصية، وبين القص القصير جدًّا الضامن لأبعاد هذا القص وعناصره بشكل واضح من حيث المفارقة وإثارة الدهشة والإحالة إلى نهاية غير متوقعة.

لقد ضمت مجموعة القاص “قصة جديدة” (2016) سبع قصص تنتمي إلى هذا الفن الإبداعي الذي أثبت حضوره، وأشار إلى وجوده كفن قصصي جديد بصياغته واختزال لغته واستشرافات مضمونه.

ومرة أخرى يتوقف الناقد المصري عند قصص فيصل الزوايدي من خلال مجموعته “قلعة الأرض” التي ضمت أربع عشرة قصة قصيرة، إضافة إلى أربع قصص تنتمي إلى فضاء القص القصير جدا. وهي قصص إنسانية واقعية معنية بقوة العرض وفنية النهايات القصصية غير المتوقعة والقائمة على المفارقة الفنية، إضافة إلى القصص القصيرة جدا والشعرية العذبة في بعض تلك القصص والتي تضعنا أمام قاص فنان مبدع، يكتب قصصه بومض الروح وعذابات الإنسان الضعيف الفقير فأتى بقصص متنوعة وجيدة.

ننتقل إلى “نادي العباقرة الأخيار” لكمال العيادي حيث الكتابة تمرس في اللغة، وحرث في الحياة، ورواية قائمة على فعل كتابة الأنا (صدرت في القاهرة 2015) وفيها يستحضر العيادي روح الشاعر أحمد شوقي ويتبادلان الأنخاب، وتنمو بينهما صحبة جعلتهما يتداخلان في أمور متعددة منها ما هو سياسي وتاريخي وحياتي وفلسفي.

ثم نلتقي بالعيادي مرة أخرى من خلال “رحلة إلى الجحيم” وتسع قصص تفيض قوة ومتعة، تتنامى على مساحات حكي معاناة مع مفرزات الثقافتين الروسية والألمانية. وهي قصص مشغولة بعناية فنية قائمة على التخييل، والتخييل هنا حالة طبيعية تصيب المغترب في بلاد لا يعرف فيها غير العمل، فتأخذ الغربتان النفسية والجسدية صاحبهما إلى محطات برع القاص في إبداع فضاءاتها من خلال اللعب على التخييل ورسم الأحداث والشخصيات بشكل يجعل قارئها يعتقد أنها حقيقة واقعة.

أخيرا نلتقي محمد العروسي المطوي من خلال “التوت المر” ومعادلات السرد الفني في مواجهة الحب والثورة والانتصار على تشويه الجسد. ويرى الناقد فرج مجاهد عبدالوهاب أن “التوت المر” هي معادلة الحب والثورة، إرادة الفرد وقوة الجماعة، والتغاضي عن تشوه الجسد، وعناق الفطرة الإنسانية، معادلة تزن أطراف الصالح العام، داخل بنية مجتمع مقلوب على أمره، لكنه في النهاية يستنير وينتصر لقضاياه المصيرية، ويحقق العيش بحرية وكرامة.

12