ليونارد سويدلر: بالحوار نهدم جدران الجهل والتعصب

ما يوحّد بين الأديان أكثر مما يفرّق بينها.
السبت 2025/03/22
كلما تعمقنا في فهم الدين تأكدت لنا وحدة العالم الإنساني

لا منأى عن الحوار لتحقيق السلام والتعايش وفهم الآخر وتقديم صورة عن أنفسنا، فدون حوار سيبقى العالم رازحا تحت وطأة الصراعات والنزاعات والعنف والعنصرية والكراهية، إذ أن كل ذلك ينبع أساسا من الجهل بالآخر. ومبكرا آمن البروفيسور ليونارد سويدلر بأهمية الحوار ليؤسس له أول معهد من نوعه في جامعات أميركا، مختصا بالحوار بين الأديان.

ولد ليونارد سويدلر لعائلة مهاجرين، من أم أوكرانية وأب روسي، عانت الأمرين من جراء العنصرية التي مورست ضدها، والأدهى والأمر، من جراء شظف العيش نتيجة “الكساد العظيم” الذي حل بأميركا بالتزامن مع ولادته، عام 1929، ما ترك في نفسه أثرا عميقا لم ينسه طيلة حياته.

يؤمن بالحوار ويعده أساسا لفهم الآخرين، وحلحلة المشاكل، وهدم جدران الجهل والتعصب، وإيجاد قواسم مشتركة تتيح للجميع العيش بسلام ووئام. متفائل بمستقبل كردستان، ومبهور بما حققه الإقليم من تقدم، يذكره بذلك الذي حققته الصين، برغم ما يعانيه من “ضيق وحصار وخنق بغداد” له.

الهندسة الكهنوت التعليم

الحوار بين الأديان ليس مناظرة لتبادل الشعارات والمقولات الجوفاء بل ينبغي أن يقوم على الرغبة في العلم والمعرفة
الحوار بين الأديان ليس مناظرة لتبادل الشعارات والمقولات الجوفاء بل ينبغي أن يقوم على الرغبة في العلم والمعرفة

توجه سويدلر لدراسة الهندسة، لكنه تركها بعد سنتين، نتيجة كرهه للرياضيات، ليتوجه بعدها لدراسة الفلسفة، ومن ثم قرر أن يصبح قسا كاثوليكيا. درس التاريخ ونال شهادة الماجستير فيه، ليقرر بعدها التخصص بدراسة الفكر الكاثوليكي وينال أول شهادة دكتوراه (من أصل ثلاث حصل عليها في حياته في تخصصات الفلسفة، التاريخ والديانة المسيحية)، من إحدى الجامعات الألمانية عام 1951.

عام 1966 أصبح أستاذا لمادة الفكر الكاثوليكي والحوار بين الأديان في جامعة تمبل (Temple University‏) البحثية العامة في فيلادلفيا، بنسلفانيا، وليستحدث قسما جديدا يعنى بالحوار بين الأديان، حيث قام القسم بتدريس الكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام بالاستعانة بمتخصصين، منهم المفكر الفلسطيني الراحل إسماعيل راجي الفاروقي (1921 – 1986) المتخصص في الأديان المقارنة، بدعم من حكومة الولاية، لأول مرة في الجامعات الأميركية.

الفيلسوف والبروفيسور ليونارد سويدلر (Leonard Swidler)، أستاذ الفكر الكاثوليكي والحوار بين الأديان، كرس حياته للبحث في سبل توحيد الصفوف ورأب الصدع بين الكاثوليك والبروتستانت، قبل أن يوسع اهتمامه لاحقا، محاولا التقريب بين الأديان وإشاعة المعرفة وثقافة الحوار والتسامح بين البشر. من هنا قام عام 1978 بتأسيس معهد الحوار (DIALOGUE INSTITUTE) بجامعة تمبل.

وجاء تأسيس معهد الحوار لتعزيزالتفاهم بين الأديان والثقافات، كونه يؤمن بأن الحوار “هو السبيل الأمثل لفهم الناس لبعضهم البعض”، وأنه “الوسيلة المثلى لتفكيك الصراعات وحلحلة المشاكل حول العالم”، حيث حمل رسالته إلى دول كثيرة في قارات آسيا وأوروبا وأميركا، منها على سبيل المثال لا الحصر، مصر، المغرب، تونس، السودان، لبنان، الأردن، الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ومؤخرا في إقليم كردستان ومدينة السليمانية تحديدا، حيث تمت دعوته لإلقاء محاضرات في كلية العلوم الإسلامية بجامعة السليمانية خلال العام الدراسي 2023 – 2024 الماضي.

الحوار يهدم الخلافات

البروفيسور كرس حياته للبحث في سبل توحيد الصفوف ورأب الصدع بين الكاثوليك والبروتستانت وكافة الأديان الأخرى
البروفيسور كرس حياته للبحث في سبل توحيد الصفوف ورأب الصدع بين الكاثوليك والبروتستانت وكافة الأديان الأخرى

يقول سويدلر، بصوت أقرب للهمس، إن الحوار كلمة يونانية الأصل “تعني التفكير والتحدث معا”، ويضيف هكذا “وجدت أنني أريد التحدث مع الآخرين الذين لديهم معتقدات تختلف عن تلك التي أومن بها لأتمكن من فهم أفكارهم وتصوراتهم وتكوين صورة معرفية أفضل وأوسع ليس عنهم فحسب بل وعن العالم الذي نعيش فيه وحتى الكون.”

ويوضح أن الحوار “يسهم في فك الأحاجي والطلاسم والحد من خوفنا من المجهول والتواصل مع الآخرين لإيجاد قواسم مشتركة تتيح الفرصة للجميع ليعيشوا بسلام ووئام”، ويؤكد أنه “لا أحد يعرف كل شيء عن أي شيء وبالتالي تكون الحاجة ماسة إلى الحوار لتوسيع معرفتنا وفهمنا للحياة والآخرين.”

وبشأن الصراع بين الأديان لاسيما الإسلام والمسيحية، يرى البروفيسور سويدلر أن “تاريخ أكثر من ألف سنة من الحروب بين الإمبراطوريات المسيحية والدول الإسلامية ولدت عداءً مستحكما بين الطرفين”، عادا أن ذلك “أمر طبيعي يميل للظهور في النزاعات كلها كما هو الحال في نظرة الكاثوليكية إلى الإصلاح البروتستانتي الذي قاده مارتن لوثر (1483 – 1546) أو حتى بين الطوائف والفرق المسيحية أو الإسلامية وبعضها البعض، وأن النظرة الأكثر توازنا بشأن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم تظهر إلا في منتصف القرن العشرين عندما بدأ صعود نشاط حركة الحوار وبالتالي هناك الآن العديد من وجهات النظر المسيحية المتوازنة تجاه الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم”.

ويبين أن هناك مسلمين “يتعمدون استخدام الإسلام كأداة للقتل والدمار بالرغم من أن الغالبية العظمى من المسلمين تقول إن ذلك يتنافى مع الإسلام وأن غير المسلمين الذين لا يعرفون شيئا عن الإسلام يدركون أن الإسلام مثله مثل كل الأديان ملتزم بالسلام”، ويتابع أن هذا “يتطلب القيام بجهد أكبر للتعريف بالإسلام ونحن كذلك بحاجة إلى أن نتعلم بطريقة منفتحة بشأن الإسلام لتوضيحه وشرح مضامينه على نطاق واسع من خلال وسائل جديدة وخلاقة للاتصال والحوار كالمدونات وشبكات التواصل الاجتماعي، مثلما ينبغي على المسيحيين وغير المسلمين الاضطلاع بمسؤوليات مماثلة للتعريف بأفكارهم ومعتقداتهم وذلك لن يتم إلا بالحوار المتعمق والمنفتح”.

ويدعو الباحث المتخصص بالحوار بين الأديان، المسلمين إلى “التنديد بصوت عال وباستمرار بالقتل والعنف الذي يمارس من قبل البعض باسم الإسلام واعتباره خيانة للإسلام”، ويواصل أن على المسلمين “تحديث تدريس الإسلام لجماهيرهم والتركيز على إنسانيتهم المشتركة مع غير المسلمين، لاسيما أن أتباع الديانات المسيحية واليهودية يؤمنون بالله الواحد فضلا عن الانفتاح على أتباع الديانات الأخرى بل وحتى من لا دين لهم من خلال الحوار معهم لتعزيز التواصل والتفاهم من خلال تأكيد أهمية الاحترام المتبادل والتعاون بين الأفراد والمجتمعات من خلفيات دينية متنوعة”.

مجموعة قيمة

ويشدد البروفيسور ليونارد سويدلر، الذي يبدو أن ثقل السنين لم يوهن عزيمته أو يضعف ذاكرته، على “حقيقة أن الأمور التي توحد بين الأديان أكثر من تلك التي تفرق بينها، وأن مما يسهم في تعزيز ذلك الوحدة الأساسية للأسرة الإنسانية والمساواة وقدسية الإنسان وقيمة المجتمع الإنساني والمحبة ونكران الذات والتعاطف وقوة الروح والخير ومناصرة الفقراء والمظلومين”، ويخلص إلى أن الحوار “يسهم بدور إيجابي في هدم جدران التعصب والجهل بين المسلمين وغير المسلمين”.

وينوه بأن الحوار بين الأديان “ليس مناظرة يتم خلالها تبادل الشعارات والمقولات الجوفاء بل ينبغي أن يقوم على الرغبة في العلم والمعرفة فإذا لم يتعرف المرء على أديان الآخرين لا يمكنه أن يحاورهم بنحو يؤدي إلى التفاهم المتبادل وبالتالي حدوث التغيير”، ويشير إلى أنه “كما ازداد المرء تعمقا في فهم الدين تأكدت له وحدة العالم الإنساني وهذا ما نادى به مفكرون وفلاسفة كثيرون منهم المتصوف الحلاج (858 – 922)عندما تحدث عن جدلية الجذر والفروع وكذلك المتصوف الكبير ابن العربي (1164 – 1240) الذي اختصر الأديان كلّها في دين الحب وهو ما اعتبره العالم الهنغاري إرفينلازلو (1932) صاحب نظرية الوعي الكوكبي بأنه المحبّة الكلية الشاملة غير المشروطة للإنسانية بأسرها”.

يعرب سويدلر عن تفاؤله بمستقبل كردستان ودهشته للتقدم المطرد الذي يحققه الإقليم في مختلف المجلات بنحو “يذكرني بذلك الذي حققته الصين”، ويستدرك كان “بإمكان إقليم كردستان تحقيق ما هو أكثر لولا كونه محاصرا ومخنوقا من قبل بغداد.”

وعن جديده، يقول البروفيسور سويدلر إنه “كتاب صناع السلام الذي يتناول زيارة البابا فرنسيس إلى العراق في الخامس من مارس 2021″، ويكشف عن تلقيه “دعوة لافتتاح فرع لمعهد الحوار في جامعة السليمانية تتم فيه استضافة كبار المفكرين العالميين المعنيين بالحوار بين الأديان حيث تتم دراسة المقترح من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الكردستانية.”

يذكر أن البروفيسور ليونارد سويدلر ألف أكثر من مئة كتاب ونشر أكثر من 200 بحث، وأنه أسهم في استضافة خمسة من ضحايا القصف الكيميائي لمدينة حلبجة في البيت الأبيض والكونغرس الأميركي، عام 2013، بمناسبة مرور 25 سنة على تلك الفاجعة.

12