ترامب ينزع سلاحه الإعلامي في الشرق الأوسط بإغلاق "الحرة" ومنصاتها

قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب إغلاق عدد من المؤسسات الإعلامية الممولة من الحكومة الأميركية، والموجهة إلى الخارج، وتتضمن قناة "الحرة" الموجهة إلى الشرق الأوسط و"أصوات مغاربية" التي كانت تمثل أداة مهمة لتعزيز الصورة الأميركية في الخارج، بينما ينشط خصوم الولايات المتحدة في التركيز على الدعاية الإعلامية.
واشنطن - أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرارًا يقضي بإيقاف تمويل الخدمات الإعلامية الأميركية الموجهة إلى الخارج ومنها شبكة الشرق الأوسط للبث التي تتبع لها قناة “الحرة” ومنصاتها الرقمية، التي تأسست بعد غزو العراق في مواجهة قناة الجزيرة في قطر.
ويبدو أن قرار إغلاق المؤسسات الإعلامية يستهدف في المقام الأول إذاعة “صوت أميركا” وقناة “الحرة”، بما في ذلك برامجها الموجهة إلى الجمهور الناطق بالعربية والفرنسية والإنجليزية. ويشمل القرار أيضًا إغلاق “أصوات مغاربية”، التي يعمل بها عدد كبير من الصحافيين المغاربة والتونسيين والجزائريين.
وتثير هذه الخطوة تساؤلات عدة حول من يمثل صوت الولايات المتحدة في الدول العربية، حيث تُستخدم تلك القنوات للتأثير على الرأي العام في المنطقة. كما قد يفتح القرار المجال لوسائل إعلام منافسة، مثل القنوات المدعومة من روسيا والصين، لملء الفراغ الإعلامي.
وكثيرًا ما يعطي محللو السياسات الأميركية والساسة الأميركان الانطباع بأن ما يصفونه بعدم اكتراث أحيانًا بمسمى “الشارع العربي” يجب ألا تُعلق عليه السياسة الخارجية الأميركية الكثير من الأهمية؛ لأن أغلب القادة العرب سلطويون -كما تقول الحجّة المستخدمة في مثل هذه المواقف- فهم لا يعبأون كثيرًا بالرأي العام، ومن ثم على صناع السياسات الأميركية أن يعلوا أولوية عقد الصفقات مع أصحاب السلطة، بغض النظر عن كسب عقول وقلوب المواطنين العرب. لكن بشكل عام، فإن فكرة عدم تقيّد القادة العرب بالرأي العام فكرة وهمية.
تحركات ترامب تأتي في وقت تستثمر فيه روسيا والصين بشكل كبير في الإعلام الرسمي لمنافسة الروايات الغربية
وبعد غزو الولايات المتحدة للعراق في 2003، توصلت استطلاعات الرأي آنذاك إلى أن قلّة قليلة من المواطنين العرب يحملون آراء إيجابية تجاه الولايات المتحدة. لكن عام 2022 تحسنت مواقفهم إلى حد ما، وأصبح ثلث الذين استُطلعت آراؤهم على الأقل في جميع الدول التي استطلع الباروميتر العربي آراء الناس فيها تقريبًا يؤكدون أنهم يحملون آراء “إيجابية للغاية” أو “إيجابية إلى حد ما” تجاه الولايات المتحدة. لكن الاستطلاعات التي أجراها الباروميتر العربي في خمس دول عربية أواخر 2023 ومطلع 2024 تُظهر أن مكانة الولايات المتحدة في أعين المواطنين العرب قد تراجعت إلى حد كبير.
ولا يرغب القادة العرب في أن يُنظر إليهم بصفتهم يتعاونون بشكل واضح وصريح مع واشنطن، نظرًا للتصاعد الحاد في الرفض الشعبي لسياسات الولايات المتحدة في دولهم. وتبدو الصين رغم تقديمها قدرا محدودا من الدعم المادي والخطابي الموجه إلى المنطقة العربية، المستفيدة الأساسية من تراجع شعبية الولايات المتحدة عند الجماهير العربية.
ويقول محللون إن واشنطن قادرة على تغيير نظرة العالم العربي إليها من خلال القوة الناعمة التي يمثل الإعلام الموجه إلى المنطقة العربية جزءا منها. ولكن إدارة ترامب ترى أن هذه المؤسسات الإعلامية تُبدد المال العام ولم تعد ضرورية في ظل التغيرات الجيوسياسية وضرورة تقليص النفقات. بينما يختلف الكثيرون مع هذا الرأي، معتبرين أن هذه الوسائل الإعلامية كانت تمثل أداة مهمة لتعزيز الصورة الأميركية في الخارج، فضلاً عن دورها في تقديم وجهة نظر متنوعة بعيدًا عن التوجهات المحلية التي قد تكون موجهة أو محدودة.
ويأتي هذا القرار في وقت حساس، حيث صرحت كاري ليك، المذيعة السابقة المؤيدة لترامب والتي عُينت مستشارة للوكالة الأميركية للإعلام العالمي، بأن هذه الإجراءات تهدف إلى ضمان “عدم اضطرار دافعي الضرائب إلى دفع أموال من أجل الدعاية المتطرفة.”
ووفقًا للبيت الأبيض، فإن هذه الخطوة تتماشى مع أولويات الإدارة الحالية، التي ترى أن المؤسسات الإعلامية التي كانت تمولها الحكومة لم تعد تواكب الأهداف التي وضعتها الوكالة.
وعلى الرغم من الدعم الذي أبداه بعض أعضاء الإدارة شديدي الولاء لترامب لهذا القرار، تتزايد التكهنات بشأن تأثيره على العلاقات الإعلامية والدبلوماسية بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فما بين الحفاظ على الأموال العامة والتأثير على صورة الولايات المتحدة في الخارج، يظل هذا القرار يثير الكثير من الجدل والتساؤلات بشأن مستقبل الإعلام الممول من الحكومة الأميركية.
الصين تشهد نشاطًا واسعًا في جميع أنحاء المنطقة، وزادت إيران مؤخرًا ميزانيتها المخصصة للأخبار والمعلومات بنسبة 50 في المئة
وخاطب جيف غيدمان، الرئيس التنفيذي والمدير العام لشبكة الشرق الأوسط للبث، جميع الموظفين في المؤسسات التابعة للشبكة ومن بينها “الحرة” ومنصاتها الرقمية، وعبر عن خيبة أمل من الرسالة التي تلقاها من كاري ليك، بأن الشبكة لم تعد تستحق التمويل.
وذكرت مصادر مطلعة أن العديد من المؤسسات التابعة للوكالة الأميركية للإعلام العالمي بصدد اتخاذ خطوات عملية للاعتراض على قرارات ترامب.
وبحسب المعترضين على سياسات ترامب، فإن المؤسسات الإعلامية الأميركية تقدم خدمات تبرر الأموال التي تحصل عليها من دافعي الضرائب الأميركيين.
وترى شبكة الشرق الأوسط للبث أنه تتم رواية “القصة الأميركية من خلال التلفزيون والمنصات الرقمية، وتصل إلى عشرات الملايين من الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وهذا ليس الوقت المناسب لأميركا لنزع سلاحها.”
وكشف مدير شبكة الشرق الأوسط للبث أن الوكالة الأميركية للإعلام تؤدي دورها بشكل جيد، وتواجه “الروايات المُعادية لأميركا وشبكة ‘أم.بي.إن’ شوكة في خاصرة خصوم أميركا.”
وتقدم الشبكة التي تضم قناة “الحرة” تغطية مكثفة للقضايا الراهنة وأكثرها حساسية لدى الجمهور العربي مع اهتمام بشرح السياسات الأميركية تجاه المنطقة وتبريرها وتسليط الضوء على الجوانب المتعددة لجهود البيت الأبيض في حل أزمات الشرق الأوسط.
وتشمل المنصات الأخرى الممولة أميركيا التي يتم تفكيكها “راديو فردا”، وهي إذاعة بالفارسية تحجبها الحكومة الإيرانية.
إذاعة "صوت أميركا" تعد أكبر إذاعة دولية أميركية، ولها حضور دولي واسع بتردداتها التي تصدح بأربعين لغة
وتأتي تحركات ترامب في وقت تستثمر فيه روسيا والصين بشكل كبير في الإعلام الرسمي لمنافسة الروايات الغربية، إذ توفر الصين عادة محتوى مجانيا للمنصات في البلدان النامية.
وذكرت المصادر أن الصين تشهد نشاطًا واسعًا في جميع أنحاء المنطقة، وزادت إيران مؤخرًا ميزانيتها المخصصة للأخبار والمعلومات بنسبة 50 في المئة.
ولم تمض سوى أشهر قليلة على اكتمال إعادة هيكلة شبكة الشرق الأوسط للإرسال “أم.بي.إن” الأميركية في إطار عملية إصلاح شاملة، ضمن خطتها الموجهة إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تركز على تغطية إخبارية تتناسب مع التوجه الأميركي ورؤيته في المنطقة، وتضمنت الخطة تسريح 160 من العاملين لديها وإغلاق قناة “الحرة – عراق”.
وقالت الشبكة إنها قامت بتطوير منصاتها التلفزيونية والرقمية، وتعزيز محتواها، وتحديث أساليب عملها بهدف الاستجابة لتطلعات جمهورها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومواكبة التغيرات المستمرة في عالم الإعلام الحديث.
ويؤكد المعترضون على قرارات ترامب أن “الحرة ومنصاتها الرقمية، هي شبكة الأخبار العربية الوحيدة الممولة من الولايات المتحدة.”
وبدأت إدارة ترامب الأحد عمليات تسريح واسعة النطاق في إذاعة “صوت أميركا” (فويس أوف أميركا) ووسائل إعلام أخرى ممولة من الولايات المتحدة، مؤكدة بذلك نيتها القضاء على منصات لطالما اعتُبرت ضرورية بالنسبة إلى نفوذ واشنطن.
وبعد مرور يوم فقط على منح جميع الموظفين إجازة، تلقى الموظفون العاملون بموجب عقود محددة رسالة عبر البريد الإلكتروني تبلغهم بإنهاء خدماتهم بحلول نهاية مارس. وأبلغ المتعاقدون، في الرسالة التي أكدها عدد من الموظفين لفرانس برس، بأن “عليكم التوقف عن كل العمل فورا ولا يسمح لكم بدخول أي أبنية أو أنظمة تابعة للوكالة.”
واشنطن قادرة على تغيير نظرة العالم العربي إليها من خلال القوة الناعمة التي يمثل الإعلام الموجه إلى المنطقة العربية جزءا منها
وتعد إذاعة “صوت أميركا” أكبر إذاعة دولية أميركية، ولها حضور دولي واسع بتردداتها التي تصدح بأربعين لغة. وانطلق بثها قبل 73 عاماً.
وتلقى عدد من موظفيها إجازة مدفوعة الأجر بعد مرور يوم واحد على توقيع الرئيس ترامب أمرا تنفيذيا يستهدف تقليص حجم الوكالة الأم للمؤسسة الإعلامية الممولة من الحكومة الفدرالية.
وتأثر جميع الموظفين -الذين يعملون بدوام كامل في إذاعة “صوت أميركا” ومكتب البث الكوبي الذي يدير إذاعة وتلفزيون مارتي، والذين يتجاوز عددهم الألف موظف- بمرسوم دونالد ترامب، ويقضي بإلزام الوكالة الأم، والمعروفة باسم الوكالة الأميركية للإعلام العالمي، بإلغاء جميع الأنشطة غير المطلوبة قانونًا.
وألغت الوكالة جميع عقود محطات البث الدولية الخاصة التي تمولها، بما في ذلك إذاعة “أوروبا الحرة/راديو ليبرتي”، و”راديو آسيا الحرة”، وشبكات البث في الشرق الأوسط.
وحضر الصحافيون إلى إذاعة “صوت أميركا” لبث برامجهم، ليُبلّغوا بإغلاق الأبواب، فقد شرع المسؤولون الفيدراليون في عمليات تعليق جماعية لأجل غير مسمى.
وأعلنت منظمة “مراسلون بلا حدود” أن الإخطارات بإنهاء التمويل شملت جميع العاملين في “صوت أميركا”، مشيرة إلى أن هذا القرار يمثل تراجعا عن الدور التاريخي للولايات المتحدة كمدافع عن حرية المعلومات.
ويعتبر قرار ترامب ضمن رؤيته التي يشاركه فيها رجل الأعمال إيلون ماسك، وما يصفونه بـ”القضاء على عناصر البيروقراطية الفيدرالية.”
وكانت منصة “بروبابليكا” الأميركية، وهي غرفة أخبار مستقلة وغير ربحية متخصصة في الصحافة الاستقصائية، نشرت على موقعها أرقام الميزانيات السنوية ورواتب كبار الموظفين في الشبكة عن الأعوام من 2011 حتى 2022. وبحسب تلك الأرقام فإن ميزانية “الشرق الأوسط للإرسال” بلغت في 2022 نحو 131 مليون دولار، ارتفاعاً من نحو 112 مليون دولار في 2021.
ويتم إنفاق هذه الميزانية الضخمة بشكل رئيسي لتشغيل “قناة الحرة” العامة وقناة “الحرة – عراق” التي تم إغلاقها في سبتمبر الماضي، ومقرهما في مدينة سبرينغفيلد بولاية فيرجينيا، إلى جانب إذاعة “راديو سوا” التي أوقفت الشبكة بثها على ترددات موجة “إف إم” في 2022. وإضافة إلى ذلك تشمل الميزانية الإنفاق على عدد من المنصات والتطبيقات الرقمية، ومجموعة من البودكاست التي تُبث تحت علامة “سوا بودكاست”. وقد شهدت الشبكة عمليات إعادة هيكلة عدة، على مدى سنواتها العشرين.