التطبيع على رمال متحركة

مهما كان مصير التطبيع على المدى القريب فإن أميركا وإسرائيل قد تكونان أصبحتا مقتنعين بأن الوقت قد حان لإعادة تشكيل التحالفات على أساس أن الحروب تلين العزائم وتغير حدود الممكن.
الخميس 2025/03/13
إعادة تشكيل التوازنات والتحالفات

بارتقاء دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة أطلق المحللون العنان لتخميناتهم حول خطواته المقبلة في الشرق الأوسط.

في هذا المجال يبدو الرئيس الأميركي مصمما على المضي قدما نحو إبرام سلسلة جديدة من صفقات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، حتى وإن كانت التطورات في المنطقة تعطي انطباعا بأن الأوضاع غير ملائمة لذلك.

يبدو ترامب متعلقا باستكمال مسلسل اتفاقيات أبراهام باعتباره إرثا شخصيا يفخر به. وهو واثق من أن الوقت سانح لتوسيع رقعة المنضوين تحت لواء هذه الاتفاقيات.

من الأكيد أنه سوف يعوّل على قدرته على استنباط المسوّغات التي يمكن أن تغري أطرافا عربية جديدة بالتطبيع.

من المحتمل أن يستمد ورقات التفاوض من الجوانب المعلنة أو الخفية لعلاقات بلاده مع البلدان العربية في سعيه لدفع البعض من هذه البلدان نحو مربع التطبيع.

◄ نتنياهو يعرف تمام المعرفة أن صفقات التطبيع سوف تحتاج في نهاية المطاف إلى الدور الحاسم الذي سوف يلعبه العراب الأميركي وما يمكن أن يعرضه من مزايا مغرية على الدول المرشحة للتطبيع

سوف يعمل بكل تأكيد من أجل‎ إقناع الأنظمة المترددة على أن لها مصلحة في التطبيع من منطلقات حسابات الربح والخسارة، وهو المختص في لعبة الصفقات وتبادل الخدمات والمنافع.

دبلوماسيو إدارته، الجدد والمخضرمون، واعون بأن الأوضاع في المنطقة اليوم أكثر تعقيدا من تلك التي كانت سائدة عند إنجاز واشنطن للفصل الأول من اتفاقيات أبراهام سنة 2022.

أول العوامل هي الآثار السياسية والنفسية العميقة التي خلفتها الحروب الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر 2023، وهي آثار سوف تنعكس بلا شك على مواقف دول المنطقة، حكومات وشعوبا.

يقول مايكل روبنز مدير مؤسسة الباروميتر العربي إن عمليات استطلاع الرأي التي أجرتها منظمته أظهرت تناميا للمشاعر المناهضة للتطبيع في المنطقة بعد الحرب في غزة.

وهو يضيف أن “الحرب في غزة غيّرت آراء الناس تماما حول التطبيع. الصور المروعة التي تخرج من غزة شاهدها الناس.. فحوّلت من كانوا أنصارا لاتفاقيات السلام مع إسرائيل إلى خصوم لها.”

كما يقول روبنز إن “السلام الدافئ لن تكون له فرصة إلا بعد تأسيس دولة فلسطينية مستقلة. وإلى أن يحدث هذا، فحتى لو تمددت اتفاقيات أبراهام لدول أخرى، فالنتيجة المرجحة هي سلام بارد مماثل لذلك القائم بين إسرائيل وكل من الأردن ومصر.”

لن يزعج ترامب ولا إسرائيل أن يكون السلام فاترا أو حتى باردا كالثلج، فأي اتفاقيات تطبيع مهما كانت درجة حرارتها سوف يعتبرها الطرفان انتصارا.

ولن تشعر الإدارة الأميركية بالحرج حتى إذا ما اصطدم مشروع التطبيع بمعارضة قطاعات من الرأي العام العربي.

واشنطن سوف تقابل تلك المعارضة بغض الطرف وسترحب بأي مبادرات عربية للتقارب مع إسرائيل دون الأخذ بعين الاعتبار البون الذي سيبقى يفصل بين العديد من الحكومات ورأيها العام في هذا المجال.

وحتى إن لم تحدد عمليات سبر الآراء الأجندات السياسية الفعلية في المنطقة فإن المسألة الفلسطينية تبقى اعتبارا لا يمكن لأي طرف التغافل عنه، وسوف يكون لذلك تأثيره المباشر على تيسير أو عرقلة أي اتفاقيات سلام.

إلى حد الآن كبحت المسألة الفلسطينية نسق التطبيع، خاصة في ظل حكم بنيامين نتنياهو وتحالفه اليميني المتشدد وعدم اقتناع ترامب بفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة.

وقد زاد الأمور تعقيدا اقتراح ترامب تهجير الفلسطينيين من غزة واحتمال اعترافه بضم إسرائيل للضفة الغربية، هذا بالإضافة إلى دعوة نتنياهو الاستفزازية السعودية كي تؤوي على أرضها الفلسطينيين.

◄ من المحتمل أن يستمد ترامب ورقات التفاوض من الجوانب المعلنة أو الخفية لعلاقات بلاده مع البلدان العربية في سعيه لدفع البعض من هذه البلدان نحو مربع التطبيع

وعدم تأييد واشنطن وتل أبيب في الوقت الحالي لحل الدولتين كأساس للتسوية يضع المملكة أمام امتحان صعب اعتبارا لحرصها على الحفاظ على مكانتها وتأثيرها المتميزين في العالم الإسلامي.

يبقى السؤال المطروح اليوم: هل يستطيع ترامب أن يقنع الأمير محمد بن سلمان بأن إيقاف الحرب في غزة وتحسين ظروف عيش الفلسطينيين يمثلان “تنازلا” كافيا من قبل إسرائيل؟

رهان صعب لكن الرئيس الأميركي الذي حاول إقناع العرب بأنه من الممكن تحويل قطاع غزة بجرة قلم إلى ساحل لازوردي لن يتردد في المحاولة.

ومن المحتمل أن يحاول ترامب في كل الأحوال إقناع ولي العهد السعودي بأن التطبيع سوف يفتح الطريق أمام المملكة لوضع العلاقات مع الولايات المتحدة على سكة تحالف إستراتيجي غير مسبوق وأن يرفع بشكل نوعي من مستوى الدور السعودي إقليميا وعالميا. واحتضان المملكة للاجتماعات الأميركية – الأوكرانية والأميركية – الروسية جزء من هذا التصور.

وفي إطار طموحه للتوصل إلى اتفاق نهائي مع الأمير محمد بن سلمان على تخصيص السعودية لاستثمارات في الولايات المتحدة بقيمة تريليون دولار لن يجد ترامب مانعا في منح الرياض الضمانات الأمنية الأميركية التي تطلبها، وربما أكثر مما كان اقترحته إدارة جو بايدن.

خارج هذه الاعتبارات يبدو الانضمام الخليجي عامة والسعودي بالخصوص إلى ركب التطبيع مسألة توقيت مناسب لم يحن بعد، إذ لا اعتراض على التطبيع من حيث المبدأ من قبل البلدان الخليجية التي بقيت إلى حد الآن خارج الاتفاقيات الإبراهيمية. وليس للسعودية أيّ شك بخصوص إمكانية قبول رأيها العام الداخلي لما تقرره قيادتها.

فالعلاقة بين الحكام والمحكومين في السعودية ومنطقة الخليج عامة يحكمها عقد اجتماعي غير معلن تضمن بمقتضاه الأنظمة رغد العيش للمواطن مقابل احتفاظها هي بحرية التحرك على صعيد رسم السياسات الخارجية وتحديد أولويات الأمن القومي.

ورغم كل المعوّقات يبدو أن إسرائيل والولايات المتحدة مازالتا تعوّلان على دور الرياض في فتح طريق التطبيع أمام دول عربية وإسلامية أخرى. وهما تأملان أن يدفع مجرد مناقشة الموضوع مع السعودية دولا أخرى إلى الالتحاق بركب اتفاقيات أبراهام وفي مقدمتها قطر، حسب رأي المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف.

لكن الأمر يختلف نوعا ما مع قطر التي ليس لها نفس الوزن الاقتصادي والإستراتيجي للسعودية. كما أن اتصالاتها وعلاقاتها قديمة العهد مع إسرائيل تجعل من تطبيعها المحتمل استكمالا لمسار بدأ منذ عقود.

ومن آخر حلقات هذا المسار إدلاء وزير الخارجية القطري بحديث للقناة 12 للتلفزيون الإسرائيلي خلال شهر يناير قال فيه إجابة على سؤال فيما إذا كان سيزور إسرائيل قريبا “يعتمد الأمر على الطريقة التي ستسير بها الأمور في المستقبل، لا توجد شروط، نحن نتحدث عن حلول سلمية وسنفعل أي شيء لإحلال السلام في المنطقة.”

يبدو تفكير ترامب بالأساس متناغما مع أجواء ما بعد 7 أكتوبر 2023 في إسرائيل. هذه الأجواء مناهضة لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة أكثر من أي وقت مضى. وأقصى ما يمكن أن تقبل به أغلبية الإسرائيليين، حسب عمليات استطلاع الرأي، هو “الانفصال” عن الفلسطينيين. لا أحد استطاع تقديم تفسير مقنع لمعنى “الانفصال” غير الرغبة الإسرائيلية في مزيد بناء الجدران وحفر الخنادق من أجل الابتعاد عن فكرة فلسطين المستقلة مهما كانت اعتبارات الجوار المباشر للفلسطينيين وضغوطات المجموعة الدولية.

يدخل اهتمام الإدارة الأميركية وإسرائيل بالتطبيع ضمن سعيهما اليوم إلى إعادة ترتيب الأوضاع الجديدة في المنطقة، بعد الحرب في غزة والهجمات التي أنهكت إيران والجماعات الموالية لها بالإضافة إلى سقوط نظام الأسد.

وهذه التطورات من وجهة النظر الأميركية – الإسرائيلية تخلق مناخا ملائما لموجة التطبيع الجديد بما لا يستدعي بالضرورة معالجة فعلية للمسألة الفلسطينية في مراهنة من واشنطن وتل أبيب على مناخ الإحباط الإقليمي من أجل جعل كل الخطط، بما فيها سيناريوهات الخيال العلمي والأدب العجائبي، أفكارا قابلة للنقاش.

◄ يبدو الرئيس الأميركي مصمما على المضي قدما نحو إبرام سلسلة جديدة من صفقات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، حتى وإن كانت التطورات في المنطقة تعطي انطباعا بأن الأوضاع غير ملائمة لذلك

ويقول المحللون الإسرائيليون إن حكومة نتنياهو ترى هذه المرة مسوغات “أمنية” إضافية للتطبيع وهي لذلك تسوّق لفكرة أن إسرائيل برهنت بحروبها المدمرة في المنطقة على قدرات عسكرية واستخباراتية يمكن أن تضعها في خدمة الدول التي تطبّع معها.

وقد مهّد رئيس الحكومة الإسرائيلي لاستئناف مسار التطبيع منذ شهر ديسمبر الماضي بالقول إن إقامة بلاده لعلاقات رسمية مع دول عربية على رأسها السعودية لا تتناقض وسياسات إسرائيل وحملاتها العسكرية في المنطقة، بل بالعكس من ذلك قد يصبح التطبيع نتيجة طبيعية لتعويل إسرائيل على القوة العسكرية لفرض تغيير جذري في موازين القوى في المنطقة.

في هذا الإطار يروّج نتنياهو والعديد من المنظّرين الصقور في إسرائيل لنظرية تقول بأن اعتماد إسرائيل على القوة العسكرية المفرطة من خلال عملياتها العسكرية قد نجح في ترميم “عقيدة الردع” لديها كما منحها صدقية إضافية من أجل عرض مظلتها الأمنية كميزة جاذبة نحو التطبيع.

لكن رئيس الحكومة الإسرائيلي يعرف تمام المعرفة أن صفقات التطبيع سوف تحتاج في نهاية المطاف إلى الدور الحاسم الذي سوف يلعبه العراب الأميركي وما يمكن أن يعرضه من مزايا مغرية على الدول المرشحة للتطبيع.

وفي هذا الإطار أضحى ستيف ويتكوف يتحدث خلال الأسابيع الأخيرة عن تزايد فرص إقامة علاقات بين إسرائيل وكل من لبنان وسوريا.

ومهما كان مصير التطبيع في المنطقة على المدى القريب فإن أميركا وإسرائيل قد تكونان أصبحتا مقتنعين بأن الوقت قد حان لإعادة تشكيل التوازنات والتحالفات، وذلك على أساس أن الحروب تليّن العزائم وتغيّر حدود الممكن، حتى إن بقيت مفاهيم التعايش والسلام الدائمين‎ بعيدة عن الأذهان في الوقت الحاضر.

8