موسى رحوم عباس لـ"العرب": الأدب الحقيقي يؤرخ لحياتنا دون تزييف

الروائي والقاص موسى رحوم عباس، أحد الأصوات الأدبية البارزة في المشهد السوري المعاصر، يمزج بين عمق التجربة الإنسانية وثراء التفاصيل السردية المستمدة من بيئته، وخاصة قريته "كسرة مريبط"، تلك القرية التي غرقت في مياه سد الفرات، لكنها بقيت حيّة في ذاكرته وإبداعه، لتصبح رمزا للمكان الضائع في رواياته وقصصه. حول الأمكنة والكتابة كان لـ"العرب" معه هذا الحوار.
يمثّل موسى رحوم عباس نموذجا للأديب الذي لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يغوص في مكامن النفس البشرية، متناولا أوجاع الإنسان وآماله من خلال عدسة أدبية تجمع بين الحنين للماضي والتأمل في الحاضر.
تميزت كتاباته بالقدرة على استدعاء المكان بوصفه شخصية فاعلة في أعماله، كما في روايته “بيلان”. كما تتميز تجربته الأدبية بتداخل الفنون الأدبية بين الشعر والقصة والرواية، مما يعكس تعددية فكرية وروحاً تجريبية تجعل من نصوصه مساحات للتأمل في قضايا الإنسان السوري ومعاناته. وبالرغم من الاغتراب القسري الذي عاشه في السويد، ظلّت سوريا بقراها ونهرها وأناسها ماثلة في نصوصه، فكانت الجغرافيا وطناً للروح في غربته.
علاقة ملتبسة
عن أثر البيئة في “كسرة مريبط” مسقط رأسه، ودورها في بناء عالمه الروائي، وعن علاقته بالمكان، باعتباره “حالة مرضية” كما وصف في إحدى رواياته، يقول الروائي والقاص الدكتور موسى رحوم عباس لـ”العرب”، “علاقة الإنسان بالمكان علاقة ملتبسة دوماً، ميلان كونديرا (1929 – 2023 ) الفرنسي من أصول تشيكية عاش معظم حياته في فرنسا، لكنه لم يخرج من براغ في معظم ما كتبه، وقد أحزنه مجرد التفكير بالعودة إلى بلاده، لأنه سيجد أجيالاً لا يعرفونه، فكتب رواية ‘الجهل’، وهو يعني التجاهل من قبل أجيال شابة، قد لا تعلم عن عذاباته وآلام مجايليه الذين غادروا البلاد بسبب عسف النظام الشمولي لتشيكوسلوفاكيا السابقة، والذي لا يختلف كثيرا عمّا عاناه أهلنا في سوريا”.
ويضيف “المكان شيء يختبئ في نقي عظامنا، يطل برأسه كلما وضعنا رؤوسنا على وسادة أحلامنا، أو كلما أشرقت شمس. أسخر من نفسي أحيانا عندما أشعر بشيء من العشق لكل نهر. عندما زرت بودابست منذ أشهر، وقفت على شاطئ الدانوب، ولما أطلت المكوث، استحثني ابني طالباً إكمال طريقنا إلى نبع المياه الحارة القريب، استمهلته قليلا، لأنني كنت أرى الفرات في صورة نهر آخر، أحببت مدينتي “إسكلِستونا” السويدية، لأن نهرها يمر في منتصفها، وكنت أسمِّيه الفرات، فأقول هذا المساء سأمشي بمحاذاة الفرات، وأعني نهر إسكلستونا”.
ويضيف “ثمة من يقول إن الرواية فن مديني، في الحقيقة لا أعول على هذه المقولة، فالقرية والحيوات التي تضمها، والبشر الذين يعمرونها، قد تكون مسرحا لروايات عظيمة، والطيب صالح (1929 – 2009) الروائي السوداني في “دومة ود حامد” لم تمنعه القرية على ضيق مسرحها من رواية ما زالت خالدة في أذهان القراء العرب”.
ويرى عباس “أن أبناء القرى يتعلقون بقراهم، السياب بجيكور، والماغوط بسلمية… حتى يمكن لي بشيء من التجاوز أن أسميه تعلقا مرضيا، ‘كسرة مريبط’ تلتصق بذلك الجزء من القلب، تطل برأسها في معظم أعمالي السردية، أحياناً أجد تبريرا يبدو لي أنا على الأقل منطقيا، أن هذه القرية ‘الشهيدة’ وأصفها بذلك لأنها غرقت في قاع بحيرة سد الفرات إلى الأبد، وأجبرتنا حكومة متجبّرة على الرحيل، بل جعلت منا بيدقاً في لعبة السياسة القذرة، لذلك أعطيتها منزلة الشهداء، وتعلقت بها، كما تفعل الأمهات مع أبنائهن الشهداء، وقد رأيتهن يعلقن صورهم على جدران بيوتنا الطينية، ويمسحن زجاج الصور بالدموع والأدعية”.
وعن الاغتراب القسري، وكيف عكس تجربته بعلاقته مع الإنسان السوري، من حيث الهوية والأرض، يقول “أعتقد أنني أتحدث عن علاقة الإنسان عموماً بهويته وأرضه، وبخاصة أنني ألتقي يومياً بمهاجرين عربا وأفغانا وباكستانيين وأوكران… هذه العلاقة التي تجد متنفسا لها في ثقافة الطعام والشراب واللباس والزواج… أعود إلى علاقة الإنسان السوري بهويته وأرضه، السوري ومن كل مناطق سوريا منتم وبشدة إلى أرضه وهويته، أعتقد أن السوري مثقف عموماً، تشكل السياسة جزءا مهما من ذهنيته، وهذا يعطيه طاقة ووقودا لاستمرار تعلقه بتراثه وثقافته وعاداته، طاقة إيجابية، وأحيانا سلبية تعيق اندماجه، وتعرقل تقدم حياته، تفاصيل كثيرة ليس هذا مكان التوسع فيها”.
ويشرح “أظن أن تطور وسائل الاتصال وسبل التجارة بين دول العالم أسهم في تعزيز هذا الانتماء، في السنتين الأوليين لإقامتي السويدية كانت أعمالي السردية (قصة، رواية) مشبعة تماما ببيئتي الخاصة، عذابات أهلي، القمع والحكم الشمولي، غربة روحية وجسدية تمزق كياني، حنين لا ينتهي، انفصال شبه كامل، الجسد في إسكندنافية والروح ترفرف فوق الفرات، وقلعة حلب، وجامعتها، ودمشق الشام، ومسجدها الأموي”.
ويتابع “في السنة الثالثة بدأت ألتفت إلى الأمكنة القريبة في المجتمع السويدي، وربما تطالع في قصصي في هذه الفترة شخصيات سويدية، أو سورية – سويدية، من الجيل الثاني، من يدري هل يشكل ذلك نقطة تحول، وهل ستكون هذه النقطة هي البجعة السوداء في مسيرة السرد لدي، من يدري”.
صوت المكان حاضر بقوة في سرد المأساة السورية والتفاصيل النفسية والتواريخ والخفايا في تجربة عباس السردية
أما عن وصفه للكتابة على أنها “تنفّس في منطقة خانقة”، وكيف يوظف الأدب كوسيلة للتعبير عن الأزمات السورية، فيقول “لم أجد وصفا دقيقا لعملية الكتابة الإبداعية في بلاد محكومة بالحديد والنار، كما يقولون، أفضل من وصفها بـ’تنفّس في منطقة خانقة’ أنظر للكثير من الروايات، أو القصص، أو النصوص الشعرية التي أنتجها أدباء سوريون، إنهم يذكرونني بلاعب ‘الأكروبات’، أو السيرك، حين يقفز من حبل إلى آخر، يمشي على الحبال بقدم واحدة، يحاول التوازن، لأن السقوط نهايته الموت”.
تسأل “العرب” عباس كيف يمزج بين الشعر والقصة والرواية للتعبير عن قضايا الإنسان السوري، وأي الفنون يراها أكثر تأثيراً في إيصال رسالته؟ ليجيبنا “لا أدَّعي أنني الوحيد الذي يكتب في فنون متعددة. دائماً ما أشعر بأن ثمة أصواتا متعددة تتنازعني، فأستجيب لها بكل بساطة، وبكل صدق أقول إن ذلك بعيد عن القصدية، أو الرغبة في التبجح، فلكل فن شروطه، ومعاييره، ابتعدت عن الشعر، لكنه إدمان يصعب الفكاك منه، حتى وأنا أكتب رواية أو قصة، يظهر الشعر فجأة، وكأنه أثر من الآثار الانسحابية لمدمن”.
ويؤكد “الفن الذي أراه أكثر تأثيرا. سأجيبك وأنا أعلم الهجوم الذي ينتظرني من أحب الناس إليَّ، أعني الشعراء، إنني أعتقد بتراجع فن الشعر، لكنه سيبقى، ولا أخشى عليه من الاضمحلال، وأنه لا يشكل حالياً ديوان العرب، بل الديوان الحقيقي هو فن الرواية، وأضيف إليه فن القصة القصيرة لمدينتي الرّقة السورية، فأهلي هناك مولعون بهذا الفن، ومعظم الأدباء في منطقتنا كانت لهم تجارب مميزة فيه، وسأضيف فنا آخر يلامس قلبك صديقي عبدالكريم هو ‘كرة اليد’، وليست كرة القدم خلافا لمعظم شعوب العالم. وهذه علامة فارقة أخرى للرّقة، تلك المدينة الجميلة”.
وعن رؤيته لدور الأدب في تأريخ المعاناة الإنسانية؟ وكيف يمكن التمييز بين التأريخ الفني والتأريخ الرسمي، يشير “الأدب الحقيقي في كل أنحاء العالم كان سجلا لمعاناة الناس، آمالهم، آلامهم، حتى إلياذة هوميروس احتوت في جانب منها على معاناة الناس، فخرهم، حروبهم… وفي العصر الحديث نجد الأدب اللاتيني ومن خلال رموزه الكبيرة (ماركيز، إيزابيل الليندي، نيرودا …). رصد وبدقة عالية هموم الشعوب المقهورة في أميركا اللاتينية، ويبدو لي أن معاناتهم ليست بعيدة عن معاناة شعوبنا في المنطقة التي صارت تعرف بالشرق الأوسط، وإذا استثنينا أدباء الأنظمة والذين أسميهم بأدباء “التعبئة” نجد أدباء كانوا صوت شعوبهم، وصوت من لا صوت له”.
تحديات الهوية
نسأل الروائي السوري عن دراسته لعلم النفس السريري، وهل ساعدته في رسم شخصياته الأدبية؟ وهل يعتبره أداة رئيسية لفهم شخصيات الرواية والقصة. يقول “الروائي أو القاص هو أديب يمارس ‘الخلق’ الفني لحيوات شخوص يؤدون أدوارهم على مسرح الحياة، والخلق هنا بمعنى الابتداع، والابتكار، والذي أفهمه أن العمل الأدبي الناجح هو العمل الذي تنبض فيه الحياة، وليس من الضروري أن يكون واقعيا، ولكنه ممكن الحدوث، فشخوصه هم أنا وأنت وهم، علم النفس بكل أقسامه الاجتماعي، التطوري، الجنائي، السريري، هو العلم الذي نتعلم منه بناء الشخصية، ردود أفعالها، استجابتها للضغوط الخارجية والداخلية، الاضطرابات النفسية، أنماط الشخصية، فإذا كنت أخطط لكتابة رواية أو قصة مثلا، أفترض أنني يجب أن أبحث عن أنماط شخوصها، وكيفية بناء كل منها، ومن خلال تتابع السرد الروائي تتطور كل شخصية فيها، تطورا مبررا من خلال الأحداث والوقائع”
أما عن كيفية تعامله مع موضوعات مثل الاضطرابات النفسية، ومكامن الخوف، والأمل لدى الإنسان السوري في ظل الأزمات. فيقول “يبدو لي أن هذا السؤال استكمال للسؤال الذي سبقه، لست أذيع سرا حينما أقول إن في الروايتين اللتين أصدرتهما، إضافة إلى ما يقارب المئتي قصة (أربع مجموعات قصصية منشورة) تناولت شخصيات مأزومة، تصارع من أجل الحياة، هشة من الداخل، منكسرة، مقاومة، كما تناولت فئات أظن أن قلة من الأدباء التفتوا إليها، أعني ذوي الاحتياجات الخاصة، فكانوا أبطال بعض قصصي القصيرة، أو شخوص روايتي بيلان، بعضهم يعاني من اضطراب الوسواس القهري، وآخر يعاني من الرهاب الاجتماعي، أما روايتي ‘الصاعدون إلى النعيم’ ففيها شخصيات عصابية، غير منسجمة مع المجتمع، رافضة للتصالح معه، وأخرى سوية… أعتقد أن المعرفة الدقيقة بأنواع الاضطرابات النفسية وتأثير الأزمات التي نواجهها توجه الروائي أو القاص إلى إنتاج فن حقيقي، يلامس مشاعر الناس، ويعبر عنهم بعيدا عن الافتعال والمباشرة والتزييف”.
عن أبرز تحديات السوريين في محاولاتهم للاندماج في المجتمعات الجديدة؟ وكيف عكست هذه التحديات في أعماله الأدبية؟ يقول رحوم “كثيرا ما يقصد بـ’الاندماج’ الإلغاء، أي أن ينهزم طرف، مقابل هيمنة طرف، ومعروف تماما من المهزوم ومن المنتصر في معادلة غير متكافئة، فالدول المضيفة عموما – مع الفوارق في التفاصيل – تفترض أنه على القادم للّجوء أن يتقمص دورا لا يستطيعه، وهو التنازل عن كل ثقافته المحلية، مما يخلق انفصاما بين ما هو عليه، وما يجب أن يكون وفقا للقوانين واللوائح، وهو تحدٍّ خلق أزمات اجتماعية ونفسية لكثيرين، موضوعات تربية الأطفال، تحديد الهوية الجنسية، المراهقة وحقوق المراهقين، … لا أدعي أنني استطعت تغطية كل ذلك في أدبي، لكنني حاولت تناول جوانب منه، ورأيي أن الاحتواء وليس الإلغاء هو ما يجب أخذه بعين الاعتبار”.
“الربيع العربي” انتهى إلى كارثة، نسأله كيف أثرت هذه الرؤية في أعماله ليجيبنا “ربما لي وجهة نظر تختلف قليلا عن هذه الخلاصة التي تطرحها في سؤالك. نعم هي ‘كارثة’ بالنظر إلى مستوى العنف الذي ووجهت به، وكمية الدماء التي سالت، ونجاح الثورة المضادة في بعض بلدان ما صار يسمى ‘بلدان الربيع العربي’ لكنني لست متشائما، وأعد هذا العنف متوقعا من طغاة حكموا البلاد لأكثر من خمسين عاما؛ حكما فرديا مطلقا، وهم لن يستسلموا بسهولة لأي متغير يؤدي إلى نزع قبضتهم عنها، وثقافة التغيير والحرية صارت مبادئ راسخة وبخاصة في تفكير الأجيال الشابة التي تتواصل مع نظرائها في دول العالم بوسائل التواصل الاجتماعي، وعبر اتقانها للغات شعوبه، والتخاطب معها بلغتها، هذا سيغير الموازين عاجلا أم آجلا”.
ويضيف “في منتجي السردي خصوصا كمية كبيرة من دماء شعبي، ودموعهم أيضا، حاولت أن تكون قصصي ورواياتي ضاجة بالحياة الحقيقية للناس، خوفهم، معتقلاتهم، تغييبهم القسري، حنين الهاربين بحيواتهم وأبنائهم، البحر الذي ابتلعهم، عنف الدولة الأمنية، التي عمَّرت سجونا أكثر من البيوت والعمائر السكنية، كل ذلك مبثوث في ثنايا ما كتبت، لكنه أيضا ودائما ثمَّة ما يشير إلى ضوء لا تخطئه عين في آخر النفق، فهذه الدماء منائر حرية الآتين من أبنائنا”.
عن العلاقة بين الغربة الجسدية والغربة النفسية في حياة السوريين، كما تناولها في أعماله؟ يقول “الغربة الجسدية قد لا تعني شيئا في عملية إنتاج العمل الفني، دعني أتحدث عن الغربة النفسية، فهذه قد تكون وأنت تسكن في شقة على شارع الأماسي أو الثكنة في الرّقة، أو في حي سيف الدولة في حلب، أو ركن الدين بالعاصمة، فإحساسك بأنك خارج قرار الدولة التي تحمل اسمها، وأنك مجرد رقم لا يعني شيئا لأهل السلطة، هو الاغتراب الحقيقي، هو ما يجعلك خارج نفسك، فتستوي الحياة والموت، مجتمع روايتي ‘بيلان’ نموذجا، كان كذلك مجرد كرة تتقاذفها أقدام اللاعبين من أهل الحكم، اقتلعوا من بيوتهم، ونبشوا قبور موتاهم، وقُذِفَ بهم إلى مناطق لا يعرفونها ضمن لعبة سياسية قذرة، وصار اسمهم ‘المغمورين’ فهل هنالك اغتراب أشد هولا من هذا، نعم، احتوت عشرات القصص عندي تنويعات على هذا الاغتراب، وآثاره الساحقة للروح قبل الجسد”.
أن تكون روائيا أو قاصا أو شاعرا يعني، حسب عباس، أن تكون مجنونا يمثل على مسرح الحياة أنه بمنتهى العقل
وبسؤاله عن نظرته إلى مستقبل الأدب السوري في ظل التحديات الراهنة؟ وهل يرى أن الجيل القادم من الأدباء قادر على استعادة بريق الأدب السوري؟ يقول “إذا كنتُ في لحظات اليأس لم أفقد الأمل، فالآن بعد زوال الطاغية وطغمته، زادت جرعة الأمل، مع إدراكي أن الطريق طويلة، وغير سالكة، وقوى الردة لن تستسلم بسهولة، الأدباء السوريون صنعوا روايتهم الخاصة لما حصل، ويحصل، بينوا بالفن تهافت رواية كتاب ‘التعبئة’ وهذا للتاريخ، إنه تاريخ الناس الحقيقي، وليس تاريخ الحاكم وأدواته المزيف، قائمة هؤلاء طويلة ذكرت بعضهم في ثنايا إجاباتي السابقة، وسهوت عن الكثيرين دون قصد، ودون أن أبخسهم حقهم، نعم وبكل ثقة الأدباء الشباب وأجيالهم القادمة قادرون على صنع الفارق، وبخاصة أنني بدأت أرصد من خلال الأعمال الأدبية التي أنتجت في عشرية سوريا المقتلة والتي بلغت أكثر من أربعمئة عمل كما رصدها الناقد والروائي نبيل سليمان، وقد تجاوزنا الآن هذا الرقم كثيراً، ولا أدعي أنها كلها في المستوى العالي، لكن، لابأس، ذائقة المتلقين وثقافتهم ستقوم بالفرز، وسيبقى في الميدان من يستحق، أما التعبير فهو حق مكفول للجميع”.
ويكشف لنا عباس عن التحديات التي يواجهها عند الانتقال من فن إلى آخر، أي كيفية الانتقال بين الشعر، الرواية، والقصة القصيرة؟ يقول “يبدو لي أنك أحسنت اختتام هذه المقابلة التي تضمنت مراوحة واسعة من أسئلة دقيقة مبنية على المعرفة، ويظهر فيها جهدك المشكور بسؤالك المنطقي هذا، ويذكرني بقول جداتنا ‘رُمَّانتين ما ينشالنْ بيد وحدة’ وترجمته أنك لن تستطيع حمل رُمَّانتين بيد واحدة. فكيف إذا كان الرُّمان كثيرا؟ آثرتُ ألا أستجيب لرأي جداتنا مع حبي لهن، سيزداد عجبك إذا شرحت لك الأمر كما يحصل، أكتب هذه الفنون معا، أي أنخرط في كتابة قصة، ثم فجأة أتركها لأستكمل نصا شعريا، فأغير كلمة، أو أشطب جملة، أو أمزق النص كله، أعني التمزيق الافتراضي، فأنا منذ أكثر من عشر سنوات لم أعد أستعمل الورق والأقلام، بل أكتب مباشرة على شاشة المحمول الخاص بي، وأتحمل متاعب حمله وتفتيشه في المطارات، وإلى جانب القصة… تبقى الرواية تشبه الجرح المفتوح، يحتاج إلى التعقيم والمداواة”.
ويؤكد “إنها تحتاج إلى وقت قد يزيد على السنة أو السنتين…أعود إلى ما بدأت كتابته، فأفتح الملف الخاص بالأعمال موسوما بعبارة ‘تحت الإنشاء’ وهكذا أتجول مثل المجنون من ملف إلى آخر، وأنا أردد ‘اللهم يا مثبت العقول’. أنا أمام تحدٍّ يومي، وهو كيف سأحافظ على ما بقي لدي من عقل، دون أن يرصد أعضاء عائلتي الذين يزورونني يوميا بأنني أقترب من الهَبَل. أن تكون روائيا أو قاصا أو شاعرا… يعني أن تكون مجنونا يمثِّل على مسرح الحياة أنه بمنتهى العقل”.