"غرناطة" جسر حضاري ربط بين الشرق والغرب بأوتار العود والغيتار

نصير شمة وكارلوس بينيانا يتحاوران موسيقيا ويستعيدان قصة الأندلس.
الأحد 2025/03/09
تبادل الأدوار بين العود والغيتار تكامل عضوي

ليست مقطوعة "غرناطة" التي قدمها الفنان العراقي نصير شمة والفنان الإسباني كارلوس بينيانا، مجرد لقاء بين آلتي العود العربية والغيتار الإسبانية، بل هي أبعد من ذلك في رؤاها وتقنياتها وسرديتها التي تقدمها. في هذا البحث نورد تحليلا مفصلا للإيقاعات، النغمات، أساليب العزف، وديناميكية التفاعل بين الآلتين، مع تسليط الضوء على الرمزية الثقافية والفنية للمقطوعة.

مقطوعة "غرناطة" للموسيقار نصير شمة والعازف الإسباني كارلوس بينيانا تُعد تجسيداً حياً للتلاقح الثقافي العربي والإسباني. تحمل هذه المقطوعة رمزية فلسفية تعكس الحوار الحضاري عبر الموسيقى، مستعيدةً عبق الأندلس وسحر غرناطة بوصفها مركزاً للاتقاء الثقافي في العصور الوسطى. يستند هذا البحث إلى دراسة تحليلية وأكاديمية معمقة لاستكشاف المقطوعة وأسلوب العزف الثنائي لكل من نصير شمة وكارلوس بينيانا.

قصة الأندلس

أولاً نتناول الإطار الفلسفي للمقطوعة بداية بالأندلس كإطار رمزي، إذ تجسّد المقطوعة حنيناً إلى الأندلس، بوصفها رمزاً للإبداع والازدهار في التاريخ العربي الإسلامي. وتعكس الألحان فلسفة الانصهار الثقافي بين الشرق والغرب، حيث يُعيد نصير شمة صياغة ذكريات تلك الحقبة باستخدام الموسيقى بصفتها لغة عالمية.

ثم نجد الرومانسية الموسيقية، فأسلوب نصير شمة يحمل طابعاً رومانسياً يعبر عن مشاعر الحب والأمل، الحنين، الشوق. بينما يُبرز كارلوس بينيانا الحسية والدفء المشاعر في التقاليد الإسبانية الفلامنكو. هذه المزاوجة تُبرز التوازن بين العقل والعاطفة، وهي فلسفة جوهرية في الموسيقى الأندلسية.

ثانياً نشرع في التحليل الموسيقي من الإيقاعات والمقامات المستخدمة، تبدأ المقطوعة بمقام النهوند، الذي يرمز إلى الشجن والعمق العاطفي، ثم تنتقل إلى الحجاز، الحامل للمسة الإسبانية ذات الطابع الشرقي. تُظهر التبدلات المقامية ببراعة في التنقل بين الكلاسيكية العربية، والتقاليد الإسبانية. ينتهي العمل بمقام العجم الذي يعكس أصالة التراث الإسلامي، وكأن المقطوعة تروي قصة تبدأ من مدينة الأحلام، غرناطة، حيث تتناغم الأوتار مع أنفاس التاريخ، ويغني اللحن أصداء الماضي المجيد. كل نغمة فيها تفتح باباً على ماضٍ مزدهر، وتدعونا للسير عبر طرقاتها المليئة بالذكريات، حيث كانت الأندلس معقلاً للإبداع والفكر.

مقطوعة "غرناطة" ليست مجرد قطعة موسيقية بل هي عمل فلسفي يروي قصة الأندلس بأسلوب فني حديث متقن

المقطوعة تحمل في طياتها روحاً مفعمة بالحنين إلى ذلك الزمن الذي شهد ازدهاراً ثقافياً وفنياً لم يسبق له مثيل. لحنها يعكس التلاقي بين الشرق والغرب، بين العراقة والتجديد، ليجسد صورة حية لتاريخٍ أثّر في الحضارات الإنسانية على مر العصور. في تلك الحقبة، كانت الأندلس محط أنظار العلماء والحكماء والفلاسفة والفنانين والشعراء من جميع أنحاء العالم، حيث ارتفعت فيها قيمة العلم والمعرفة، وأصبحت مهداً للفلسفة، والفلك، والطب، والرياضيات. كما أضاءت سماء الأندلس شمس الأدب والشعر، حيث ازدهر الشعر الأندلسي بنغماته الرقيقة وصوره الجمالية، وظل تأثيره باقياً حتى اليوم. في قلب غرناطة، حيث قصر الحمراء الذي يعد رمزاً للعمارة الإسلامية الفاخرة، ينعكس في كل تفاصيله تأثير الثقافة الممزوجة بعراقة الحضارة العربية الإسلامية وثرائها.

من حيث الإيقاعات فالإيقاع الأساسي يتمحور حول ميزان ثنائي (6/ 8) مشابه لإيقاع الرومبا الإسبانية، مما يُبرز التفاعل بين الجمل الموسيقية المرسلة والموقّعة. واستخدام نصير شمة للضربات المقامية يدعم الهيكل العربي، بينما تُضيف لمسات بينيانا قوة وحيوية الفلامنكو.

وعن أسلوب العزف الثنائي، يُظهر العازفان تفاهماً استثنائياً، حيث يعمل نصير شمة على تقديم الجملة الموسيقية الرئيسة بلغة عاطفية رومانسية هادئة، بينما يتبع بينيانا بأسلوب يُثري الحوار الموسيقي.

تبادل الأدوار بين العود والغيتار يعكس تكاملاً عضوياً موسيقيًا وفنيًا، حيث يندمج الصوتان ليشكلا لغة موسيقية واحدة تتناغم فيها الثقافات الشرقية والغربية. شمة يميل إلى استخدام العزف الحر والتقاسيم الارتجالية. أما بينيانا فيعزز البناء بإيقاعات ديناميكية مستوحاة من الفلامنكو.

المقطوعة تجسد حنينا للأندلس بوصفها رمزاً للإبداع والازدهار وتعكس الألحان فلسفة الانصهار الثقافي بين الشرق والغرب

كما تتداخل الألوان الصوتية، فتقنية تريمولو التي يستخدمها نصير شمة تضيف بُعداً شعرياً يُبرز تأثيراً رومانسيا، بينما يبرز كارلوس بينيانا نغمات حادة وقوية تُظهر عمق الغيتار الإسباني، مع تأثيرات مثل الرأسغوادو والبيكادو لتجسيد الروح الفلامنكية.

وفي تحليل أسلوب نصير شمة الرومانسي، نبدأ من البُعد العاطفي إذ أسلوب شمة يعتمد على استدعاء المشاعر من خلال نغمات طويلة ومرسلة، مما يتيح للمستمع الغوص في أعماق الألحان. يُبرز هذا الأسلوب تأثره بمدارس الموسيقى الكلاسيكية والرومانسية. وتقنيا يعتمد نصير شمة على استخدام الأصابع بإتقان لإخراج نغمات دقيقة ومعبّرة. واستخدام السكتات الموسيقية بين الجمل يمنح المستمع لحظات تأملية تزيد من العمق العاطفي. أما رؤية الفنان الفلسفية، فهو يرى أن العزف ليست مجرد تقنية بل وسيلة لتوصيل رسائل إنسانية، حيث تُصبح الموسيقى في أنامله لغة عالمية لنشر لغة الحب والتفاهم والسلام.

يظهر التفاعل بين العازفين بين نصير شمة وكارلوس بينيانا كحوار موسيقي متكامل، حيث لا يسعى أي منهما للهيمنة بل لتحقيق التفاهم الموسيقي التناغم بالعزف الثنائي. فشمة يقدم البعد السردي للألحان، بينما بينيانا يضيف إيقاعات نابضة وحيوية تُعزز البناء الموسيقي. ونجد بينهما ذلك الانسجام الثقافي حيث يوحدان ثقافتين موسيقيتين مختلفتين في عمل واحد، يُجسد العازفان مبدأ “الوحدة في التنوع” مما يُبرز القيم المشتركة.

مقطوعة “غرناطة” ليست مجرد قطعة موسيقية بل هي عمل فلسفي يروي قصة الأندلس بأسلوب فني حديث متقن. عبر هذا التعاون، يُبرز نصير شمة وكارلوس بينيانا القدرة الفريدة للموسيقى على تجاوز الحدود الثقافية والجغرافية. إن أسلوب شمة الرومانسي وإبداع بينيانا الإيقاعي يقدمان تجربة موسيقية لا تُنسى، تُظهر كيف يمكن للموسيقى أن تكون وسيلة للتواصل الإنساني العابر للزمان والمكان.

حوار بين آلتين

Thumbnail

"غرناطة" ليست مجرد مقطوعة موسيقية، بل هي سرد موسيقي متكامل يروي فصولاً من التاريخ المشترك بين الشرق والغرب. تتجلى فيها عبقرية نصير شمة، أحد أبرز عازفي العود في العالم العربي، وابتكار كارلوس بينيانا، أحد أعمدة الفلامنكو الإسباني. نواصل تحليل مفصل للإيقاعات، النغمات، أساليب العزف، وديناميكية التفاعل بين الآلتين (العود والغيتار)، مع تسليط الضوء على الرمزية الثقافية والفنية للمقطوعة.

بالنسبة إلى الإيقاعات في المقطوعة، فهناك الإيقاعات الأساسية، المقطوعة تُبنى على قاعدة إيقاعية مستوحاة من إيقاعات الرومبا والفلامنكو الإسبانية الممزوجة بالإيقاعات الشرقية. كما أن الإيقاع الأساسي ميزان (6/ 8) الذي يُعرف بإيقاعه الديناميكي وانسيابيته، وهو شائع في تقاليد الموسيقى الإسبانية مثل الرومبا. هناك تناغم بين إيقاعات السماعي العرب، (8/ 10) وإيقاعات البوليرياس الإسبانية (12/ 8) مما يخلق تنوعاً إيقاعياً يُثري العمل ويعزز التنقل العاطفي.

وللإيقاع دور في الحوار الموسيقي، فالعود يبدأ بإيقاع حر (تقاسيم) يُبرز الجانب التأملي، ثم يتدخل الغيتار ليضفي حساً ديناميكياً. الحوار الإيقاعي يُبرز التباين بين مرونة العود وإيقاعية الغيتار، حيث يعتمد العود على تغييرات دقيقة في السرعة والتأثيرات الصوتية، بينما يضيف الغيتار بنية رصينة وداعمة أثناء العزف الثنائي.

أما النغمات والمقامات في المقطوعة، فنبدأ من المقامات الشرقية المستخدمة، مثل مقام النهوند: إذ يُهيمن على البداية ليُبرز طابعاً عاطفياً شجياً، وهو قريب في طبيعته من السلم المينور الغربي، مما يُسهل الحوار الموسيقي بين العود والغيتار. ونجد مقام الحجاز: يُستخدم في الجزء الأوسط ليعكس الطابع الأندلسي التقليدي، حيث يُبرز التداخل بين الشرق والغرب. وهناك مقام السيكاه: يُظهر قدرة نصير شمة على استخدام لمسات محلية تعزز الهوية العربية للمقطوعة. ومقام العجم: يختتم العمل، وهو مقام يحمل طابعاً تفاؤلياً ويُبرز الوحدة بين الثقافتين.

ومن حيث النغمات والكواليس الصوتية فالعود يُبرز النغمات المرسلة باستخدام تقنية التريمولو، حيث تعكس هذه التقنية إحساساً بالرومانسية والتأمل، والغيتار يُركز على التنويع الصوتي باستخدام تقنيات مثل البيكادو: لإنتاج نغمات واضحة وقوية. رأسغوادو: لتعزيز الإيقاع. الأرباجيو: لإضفاء حس جمالي يعكس الطابع العاطفي.

أسلوب نصير شمة في "غرناطة" ليس مجرد أداء موسيقي، بل هو فلسفة عميقة تستحضر الماضي وتعبر عن مشاعر إنسانية صادقة تتعلق بالحاضر والمستقبل

ونعود إلى أساليب العزف على العود والغيتار، فأسلوب نصير شمة يقوم على تقنية الأصابع، إذ يعتمد على توظيف أصابع يده اليمنى بمهارة عالية، حيث ينساب العزف بين الأوتار بسلاسة، مع تنقلات دقيقة وسريعة على سلم الأوتار. يتميز بأسلوبه الفريد في العزف، حيث تتناغم أصابع يده اليمنى في حركة سلسة بين الصعود والنزول، مما يمنحه القدرة على التحكم الدقيق في الديناميكيات والنغمات المختلفة. أما يده اليسرى، فهي تُستخدم بشكل بارع للتنقل بين الأوتار والنغمات المتنوعة، بدءاً من العزف البطيء وصولاً إلى السريع. تعكس أصابعه اليسرى قدرة فائقة على التحكم في الانتقالات السريعة والدقيقة بين النغمات، مما يزيد من مرونة أدائه.

كذلك، يستخدم نصير شمة تقنيات متقدمة مثل التريمولو (التكرار السريع لوتريين أو أكثر) والسكتات (الوقف المؤقت للنغمة) بإتقان، مما يضيف بعداً موسيقياً غنياً يعزز التعبير الفني في كل مقطوعة.

أما تقنية التريمولو فهي تُستخدم لإضفاء طابع عازف حالم وهادئ، حيث تخلق حركة متواصلة بين الأوتار تُثير في المستمع شعورًا بالصفاء والسكينة، مما يعزز الجانب العاطفي في العزف. بينما تمنح السكتات الصوتية الموسيقى أبعادًا درامية، حيث تُبرز مشاعر متنوعة مثل الحب، الرومانسية، والشجن، وتُعبّر عن مشاعر الإنسان العميقة من حنين، شوق، وأمل. كما تتيح السكتات مساحة للموسيقى للتنفس، مما يُساهم في نقل روح الحضارة الإسلامية وأصالتها، ويُعزز الارتباط بالمشاعر الإنسانية الأصيلة، كالتفاؤل والفوز والانتصار، ويعكس التجدد المستمر للحياة.

عزف نصير شمة لا يقتصر على تقديم نغمات فحسب، بل يُجسد قصة موسيقية تتناغم مع مشاعر الحنين والشوق، وتُعبّر عن الاحتفاء بالهوية الثقافية. من خلال موسيقاه، ينقل رسائل عميقة تعكس ارتباطه العاطفي بالتراث والحضارة، مُستفيدًا من مهاراته التقنية العالية لإيصال رسائل إنسانية وروحية تتخطى الحدود الزمانية والمكانية.

أسلوب كارلوس بينيانا على الغيتار يقوم على الإيقاع والديناميكية، إذ يُركّز بينيانا على استخدام تقنية رأسغوادو (Rasgueado)، وهي تقنية إيقاعية تُضيف قوة وحيوية للأداء، مما يُعطي إيقاعات المقطوعة طابعاً ديناميكيًا نشطاً. كما يُعزز ديناميكية العمل من خلال استخدام إيقاعات بوليرياس الرشيقة، التي تُضفي تنوعاً وتوازناً على الأداء الموسيقي، مما يُساهم في إبراز الطاقة العاطفية والإيقاعية للقطعة بشكل رائع.

"غرناطة" ليست مجرد مقطوعة بل هي رمز للتفاهم بين الشرق والغرب، حيث تستعيد عبق الأندلس كمركز للتلاقح الثقافي

يُبرز التنقل بين تقنيات البيكادو والأرباجيو (Arpeggio) الحساسية والجمال في عزف كارلوس بينيانا، حيث يُظهر تنوعًا صوتيًا يُثري الأداء الموسيقي. كما يُضيف إدخال زخارف موسيقية مستوحاة من الفلامنكو عمقًا إضافيًا للتكوين الموسيقي، مما يثري النغمة العامة للمقطوعة ويُعزز من جاذبيتها السمعية.

يتفاعل كارلوس بينيانا في حواره مع آلة العود بأسلوب تكاملي، حيث لا يسعى للتنافس معها، بل يُكمل عزفها. هذا التفاعل يُظهر وحدة وتجانسًا بين أسلوب العزف على العود والغيتار، مما يخلق تناغمًا موسيقيًا يجسد التعاون الفني بين العازفين على الآلتين.

ونلاحظ في المقطوعة التكامل بين الآلتين. يُمثل العود الجانب التأملي والحر في المقطوعة، حيث يقدم الأساس الميلودي الذي يحدد الإطار العاطفي للموسيقى. بينما يُكمل الغيتار هذا الأساس بإضافة بُعد إيقاعي وصوتي قوي، مما يُبرز الطبيعة التعاونية للمقطوعة ويُعزز من تأثيرها العام.

ومن ناحية التبادل الجمالي، يركز العود على تقديم الجملة الموسيقية بأسلوب غنائي وجمالي، معبرا عن عمق العاطفة والحنين. بينما يضيف الغيتار زخارف موسيقية وإيقاعات تُضفي طابعا احتفالياً وحيويًا. المزج بين تقاسيم العود وجمل الغيتار الإيقاعية يعكس حواراً ثقافياً غنيا، عابراً لحدود الزمان والمكان، مما يعزز من وحدة العمل الموسيقي وتكامله.

أما الرمزية الثقافية والفنية فالمقطوعة كجسر حضاري: “غرناطة” ليست مجرد مقطوعة بل هي رمز للتفاهم بين الشرق والغرب، حيث تستعيد عبق الأندلس كمركز للتلاقح الثقافي.

ونذكر البُعد الإنساني للعمل الذي يُبرز قدرة الموسيقى على تجاوز الحواجز الثقافية واللغات، مع التركيز على القيم الإنسانية المشتركة. “غرناطة” هي شهادة حية على براعة نصير شمة وكارلوس بينيانا في تقديم تجربة موسيقية تجمع بين التقاليد الشرقية والغربية. من خلال الإيقاعات الممزوجة، النغمات العاطفية، وأساليب العزف المتكاملة، تُبرز المقطوعة تلاحماً حضارياً نادراً يُعيد إحياء روح الأندلس، ويُجسد الفن بوصفه وسيلة لتوحيد الإنسانية.

الأسلوب الرومانسي

Thumbnail

فيما يلي تحليل فلسفي وبحث موسيقي معمق حول هذا الأسلوب الفريد. أولا العاطفة الرومانسية العميقة والتعبير الحسي بالنغمات الموسيقية، إذ يتميز أسلوب نصير شمة في “غرناطة” بالتعبير العميق عن المشاعر الإنسانية، مما يعكس سمات الرومانسية في الموسيقى. تظهر العاطفة في تنقله بين النغمات بأسلوب سلس، معززاً الإحساس بالحنين والانتماء الثقافي للحضارة الشرقية.

ثانيا استخدام الديناميكيات الصوتية، إذ يستخدم شمة التباين بين الأصوات العالية والمنخفضة بأسلوب يعكس درامية المشهد الموسيقي. يتنقل بين هدوء ناعم وتصاعد سلس بنغمات موسيقية تحمل انفعالات متباينة، ما يعكس الطابع الرومانسي.

ثالثا الإبداع الحر، فرغم أن المقطوعة مبنية على قواعد موسيقية كلاسيكية، إلا أن شمة يُظهر مرونة في تفسير ألوان الألحان والعزف الارتجالي، وهو ما يُعد جزءاً أساسياً من الروح الرومانسية.

أما من باب التحليل الفلسفي، فنتطرق أولا إلى الارتباط بالمكان والذاكرة الثقافية. “غرناطة” ليست مجرد اسم لمقطوعة موسيقية، بل هي رمز للحضارة الإسلامية من شرق إلى غرب، ومن بغداد مهد الحضارات، ملهمة الفنون، مركز العلوم وملتقى الثقافات. تلتقي الأزمان في غرناطة حيث تتناثر عبق الذكريات بين جدران قصر الحمراء، وتهمس الرياح بأنغام من تراث الماضي العريق، تروي قصصاً من عزٍ وثراء، وتخفي بين طياتها أرواحاً صوفية كانت تزهر في كل ركن من أركانها. عزف شمة يعيد بناء الذاكرة الجماعية للمدينة المفقودة، مما يجعل المقطوعة تأملاً فلسفياً في فكرة الزمن والانتماء.

كارلوس بينيانا يتفاعل في حواره مع آلة العود بأسلوب تكاملي، حيث لا يسعى للتنافس معها، بل يُكمل عزفها

ثانيا الثنائية بين الماضي والحاضر، فمن الناحية الرومانسية، تعكس “غرناطة” مشاعر الحنين للماضي العريق، لكن أسلوب شمة يعبر أيضاً عن أمل مستقبلي في استعادة الروح الثقافية لهذه الحقبة.

ثالثا التفاعل بين الفرد والجماعة. إذ يعبر عزف نصير شمة عن تجربة شخصية تتفاعل مع الروح الجماعية، حيث يتجاوز أسلوبه في العزف حدود الذاتية الفردية ليخلق حالة تأملية عامة، تلامس الهوية الثقافية والانتماء الإنساني. فهو يعزز فكرة توحيد البشر بروح إنسانية واحدة تتجاوز الفروق، وتجمعهم في أفق مشترك من الهوية الإنسانية، قائمة على التآخي، والتعاون المشترك، والتبادل الثقافي. كما يسهم في نشر السلام بين المجتمعات البشرية، وترسيخ قيم التعايش والتناغم السلمييْن، حيث تسود المحبة والاحترام والتفاهم بين شعوب العالم، ويعم الاستقرار والعدالة.

أما العناصر الموسيقية الداعمة للأسلوب الرومانسي، فنجد في طليعتها المقامات الموسيقية. استخدام مقامات مثل النهوند والحجاز يضيف بعدا عاطفياً قوياً للمقطوعة. النهوند يعكس الشجن والشوق والحنين، بينما الحجاز يضفي طابعاً روحانياً. ثم الإيقاعات المستخدمة ليست متسارعة فقط، بل تحمل هدوءا وتأملا، مما يعزز الطابع الرومانسي ويخلق جواً من الانسجام العاطفي الذي يعبر عن عمق الأحاسيس الإنسانية وتجدد الروح في رحلة بين لحظات السكينة والشغف.

ثالثا التنقل بين الجمل الموسيقية، فالانتقالات السلسة والمتدرجة بين الجمل الموسيقية تعكس التأمل الفلسفي في دورة الحياة واستمرارها وتجددها، مما يعبر عن روح التعاون والتواصل الثقافي المشترك بين الشعوب. هذه التدرجات تبرز التوازن بين الأمل والتحديات، وتسلط الضوء على الوحدة الإنسانية التي تنبثق من تنوع الثقافات، حيث يسهم كل لحن وكل إيقاع في بناء جسور من الحوار الثقافي المتبادل بلغة السلام بين الأمم والشعوب.

النتيجة أن أسلوب نصير شمة في “غرناطة” ليس مجرد أداء موسيقي، بل هو فلسفة عميقة تستحضر الماضي وتعبر عن مشاعر إنسانية صادقة تتعلق بالحاضر والمستقبل. يدمج شمة ببراعة الرومانسية بالفكر الفلسفي، حيث يعكس في عزفه ثنائية الزمان والمكان، والحب والأمل، والفرد والجماعة. وهذا التناغم بين الأبعاد المختلفة يجعل المقطوعة أكثر من مجرد تجربة فنية؛ إنها رحلة عاطفية وفكرية تتجاوز الحدود الصوتية. وفي سياق شعري يأسر الأرواح ويحفز الأحلام، تمضي الكلمات في حب الأوطان، متماهيةً مع الألحان التي تشرق كأشعة شمس جديدة على لحن “غرناطة”، لتعبّر عن رسالة موسيقية إنسانية تحمل بين نغماتها دعوة للسلام والوحدة الإنسانية.

11