"سلالم للطيران".. لوحات تخادع الزمن بأجواء خيالية تشبه الحلم

صابرة بن فرج ترسم بعيني طفلة تتذكر الماضي وتعيد بناءه.
الأحد 2025/03/09
رحلة تشكيلية تجسد فيها الفنانة ارتباطها الوثيق بماضيها المليء بالبراءة

الطريق الأكثر تداولا في اتجاه الفن والإنسان هو طريق التذكر والطفولة، لكن تذكر الفنان أو المبدع ليس مجرد استعادة للماضي بل هو استنطاق له وإعادة بنائه عن طريق الخيال، إنه ترسيخ سرديات خيالية وفانتازية ما يجعل كل ذلك حماية للإنسان من كل واقع يلغي إنسانيته، وإيمانا بهذه الفكرة تعود الفنانة التونسية صابرة بن فرج إلى عوالم الطفولة في أعمالها.

"بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان" (محمود درويش)

 منذ وقت غير بعيد قدمت لنا الرسامة التونسية صابرة بن فرج معرضها الشخصي الأول “سلالم للطيران” بقاعة “أرشيفارت” بأسلوبها الخاص، المشبع بواقعتيه السحرية المتشابكة، حيث يتجاور الواقعي مع نقيضه (الخيالي) في صورة بصرية تشكيلية واحدة متجانسة ومتكاملة، وثّقت من خلالها حنينها الجارف إلى استعادة تفاصيل طفولتها وسردها بطريقة مشرقة، بسيطة وعميقة في آن واحد، فن لافت للنظر يدفعك بطريقة ما إلى تذوقه دفعة واحدة، تشعر معه برغبتك في الوصول إليه ولمسه.

إنها رحلة تشكيلية جسدت من خلالها بن فرج ارتباطها الوثيق بماضيها، المليء بالدفء والبراءة والمرح، أسلوب انطباعي جريء أتاحت لنا بواسطته اكتشاف علاقتها مع العالم، ذلك العالم الحر المطمئن حيث الخيال الجامح الخالي من قوانيننا الجاهزة.

عالم اللعب الحر

صابرة بن فرج تعود بالزمن إلى الوراء هاربة من حاضرها لتأخذ استراحة تسمح لطفلها الداخلي بالتألق والظهور
صابرة بن فرج تعود بالزمن إلى الوراء هاربة من حاضرها لتأخذ استراحة تسمح لطفلها الداخلي بالتألق والظهور

سلالم للطيران، وقبل البدء في تتبع مواطن الجمال وسبرها في منجزات الفنانة صابرة بن فرج، وجب الوقوف على دلالات عنوان المعرض وما يحمله من شاعرية دافئة، جمالية اسمية اختزلت رغبة صاحبته في خلق اتصال عاطفي مع المتلقي منذ الوهلة الأولى واعدة إياه برحلة “طيران” داخل الزمن، وكأننا بحال لسانها يقول لنا “تعالوا معي نكتشف العالم من جديد ونتذكر أوقاتنا السعيدة” التي كان بإمكاننا فيها اللعب بكل سعادة طوال اليوم، فلا قيود تمنعنا من تحويل اللاممكن إلى ممكن، ومن إلباس اللامعقول لونا وشكلا وحضورا، لتضعنا أمام حيرة الفصل بين الحقيقي والمجازي.

تاركة الحلم يعيش متكئة على خبراتها التقنية البصرية والمعرفية، شيدت الرسامة صابرة بن فرج عوالمها الفنية الحالمة بدقة متناهية بفضل ذاكرتها البصرية وقدرتها العجيبة على إدماج عنصر الفانتازيا في تركيبة منجزاتها، لتثير فينا الدهشة والشغف لتتبعِ رحلتها التشكيلية داخل الزمن وخارجه، محررة الصورة من معالمها الثابتة، فنغوص معها في أعماق الذاكرة مع تفاصيل طفولتها اليومية، لغة بصرية تعبيرية مراوغة تنقلنا من مكان إلى آخر ومن زمن إلى زمن فلا شيء ثابتا، كل يسبح في مجرة متحركة.

للفنانة توق وقاد للإحاطة بعالمها، وكأنها تنظر إليه من خلال عدسة مكبرة لترى جزيئات ذاكرتها فترسمها بِوَلهِ عاشق، فهذه بنت تجر عربتها الصغيرة، تتوقف للنَظرِ إلى زوج حمام يقفان على حافة شباك بيتها، في مشهديه يمكن وصفها بالشاعرية اللطيفة التي تمنحنا ابتسامة خفيفة عند رؤيتها. على الجدار نفسه خطت صابرة بن فرج “خربشات” لأسهم باتجاهات مختلفة تشعرنا بالحركة والدوران فتتبعها العين وتتجول معها إلى نقطة النهاية، مما يخلق حيوية وديناميكية داخل تركيبة المنجز، خربشات على الجدران تشكل عليها الفنانة أحلامها التي لا تنتهي، فتضج اللوحة باللون والعلامات والرموز لتذكرنا بشغفنا باللعب والاكتشاف والتجريب.

لغة بصرية تعبيرية مراوغة تنقلنا من مكان إلى آخر
لغة بصرية تعبيرية مراوغة تنقلنا من مكان إلى آخر

عالم بسيط وحرّ تُضمّن فيه الرسامة أنشطتها اليومية فنستمتع بالنظر إلى تلك الفتاة الصغيرة وهي على أرجوحتها المطاطية غير آبهة بشيء، إنها حمامة تحلق في سماء رحبة، تريد إخبارنا أنها مازلت تحتفظ بطفولتها وتبقيها على قيد الحياة بداخلها، فكأننا بها تخادع الزمن لتعود به إلى الوراء هاربة من حاضرها والضغط اليومي لتأخذ استراحة مؤقتة فتسمح لطفلها الداخلي بالتألق والظهور.

إنها تتبنى فكرة “أن الفن العظيم يولد من مخاوف عظيمة ومن وحدة عظيمة، من كبت وعدم استقرار”، إلا أن بن فرج في معرضها هذا لا تكتفي بنقل ذكريات طفولتها فحسب بل إنها تختبر خيالها عن طريق خلق مزاوجة ذكية وطريفة بين الواقع والفانتازيا لسرد كل هذه التفاصيل الشاعرية، فيتحوّل معها الخيال إلى واقع ملموس بصريا يصعب الفصل بينه وبين الواقعي، وهو ما كشف عن قدرتها الهائلة على التقاط جمال تفاصيل الماضي، إنها أكثر من مجرد متعة بصرية بل هي رحلة تحمل في طياتها موضوعات عميقة مثل تقدير كل لحظات الحياة العابرة، التي تذكرنا بالسحر الموجود في كل لحظة صغيرة وجميلة تم التغافل أو التغاضي عنها رغم ما تحمله من جمال وأهمية.

جاءت صورها مليئة بأجواء خيالية تشبه الحلم وكأنها أرادت أن تقدم لنا رؤيتها للعالم من خلال عيون طفلة صغيرة فتداخلت العلامات، الصور والرموز على مساحات لوحاتها مُشكلة عوالم غرائبية وسحرية، أسماك، طائرات ملونة وسماوات ناعمة تتوزع هنا وهناك بصفة تلقائية، عناصر تسافر بنا عبر الزمن إلى ماض بعيد، إنها مرايا تتراءى فيها أشياؤنا الحميمية فتلامس برهافة أغوار الروح وانفعالاتها لتخلق عالما من البهجة والسكينة والفرح تساعدنا في نهاية الأمر على فهم ذواتنا والإحساس بها، فأنت أمام منجزات تحسّ بأنها جزء منك. كائنات صابرة تلهو وتمرح بلا ضوابط، تخلق لنفسها إيقاعا حركيا خاصا تذوب فيه الفواصل بين الواقع والخيال بين الحاضر والماضي فتسبح الأشكال برشاقة وسلاسة في فضاءاتها راسمة حركات متنوعة ومتعددة بأسلوب فانتازي ساحر.

إلى أقصى المعنى

بأسلوب انطباعي جريء تخوض الفنانة رحلة تشكيلية تجسد فيها ارتباطها الوثيق بماضيها المليء بالدفء والبراءة والمرح

 اللون مليء بالأسرار، وليست الحركة وحدها من تصنع هذا البعد الخيالي الغرائبي فحسب، بل يتكاثف معها اللون لمزيد تعميق هذا الإحساس حيث سيطرت الألوان الشفافة الناصعة المليئة بالطاقة والحيوية، ألوان زاهية تتقلب بين الأصفر الشفاف والأزرق الحالم بمختلف تدرجاتهما وقد ساهما بدورهما في ظهور مفهوم جديد “الخفة”، الذي أضفى على الشكل ميزة التحرك والتحرر وكسر رتابة الأشكال الجامدة، مسارات لونية تطل على عوالم الأحلام والحلم لتأخذنا إلى أقصى المعنى.

يعد اللون أحد الرهانات الفنية البصرية في فن صابرة بن فرج” فهو وسيطها التقني في التعبير عن أفكارها والعنصر الأهم الذي استطاعت من خلاله تحويل فضاء اللوحة إلى تجربة حسية متكاملة تجمع بين الواقعية الحميمية والفانتازيا مما أسهم في إنشاء علاقة تفاعلية بين المتلقي وماضيه.

هذا التشابك الثنائي (الواقع، الفانتازيا) بين مفردات من حياتها اليومية والأشكال الخيالية المبتكرة ساهم في إعطاء المنجزات احتمالات بصرية عديدة مغايرة لما تعودت العين على رؤيته إذ تعكس تفتحا معرفيا ووعيا جماليا بصريا بمكونات تركيبة لوحاتها فهذه المنجزات ليست مجرد خزان للماضي السعيد فقط بقدر ما هي صور حية مليئة بالأسرار.

 

10