رباب نمر رسامة البحر والصيادين والأحلام

الفنانة الراحلة صنعت عالمها بتأثير المحيط الاجتماعي الذي حاولت أن تصل إلى خلاصاته البصرية، واللون جزء من ذلك العالم.
الأحد 2025/03/09
ابنة الإسكندرية التي رحلت

عن عمر 87 عاما رحلت عن عالمنا الرسامة المصرية رباب نمر، ابنة الإسكندرية التي كانت حياة البحر من أهم مصادر إلهامها الجمالي. فمَن هي رباب نمر وما هي تفاصيل عالمها الفني؟

مزاج بحلاوة البلاد

يحب الرسامون الكائنات والأشياء التي يرسمونها إلى درجة أنهم يشعرون معها بأن تلك الكائنات والأشياء ترافقهم وتترفق بهم أينما حلوا. فهم ينظرون من خلالها إلى العالم الخارجي كما لو أنها تحل محل عيونهم.

وقد يحدث العكس فتكون تلك الكائنات والأشياء وسيلتهم للتعرف على أنفسهم والتعريف بها كما لو أنها مرآة وجودهم.

◄ أشكالها تتآلف في إيقاع تعبيري
أشكالها تتآلف في إيقاع تعبيري

المصرية رباب نمر تنتمي إلى النوع الثاني الذي يوجه نظره إلى الداخل.

شغفها برسم العيون يقود إلى ولعها بإشراك المتلقي في عملية التسلل إلى أعماقها. تلك الأعماق التي تمتلئ بالحب وتبشر به. حب الناس الذين مروا بحياتها وحب المدن التي عاشت فيها وحب المناظر الطبيعية التي أثرت فيها ورسمتها.

اختزلت نمر في أشكالها وتتقشف في ألوانها غير أن كل شيء يكتسب طاقته التعبيرية من إلهام داخلي يصدر عن علاقة حب ليس من الصعب تخطيها.

ذلك أسلوب يخلقه الحب ويهبه الكثير من خفته وعمقه.

لقد سبقها الأخوان وانلي سيف وأدهم في التأثر بمزاج الإسكندرية، المدينة التي تحضر بين حين وآخر في رسومها. وهكذا لعب المزاج السكندري دورا عظيما في تربيتها العاطفية.

تعود رباب إلى طفولتها حين يتعلق الأمر بالإسكندرية، ذلك الشيء العذب الذي يمر كالأغنية التي تتشبه بالمياه.

رسمت سفينة تتقاذفها الأمواج بأقل ما يمكن من الألوان في “الصبر جميل”، وهو عنوان أحد معارضها. في ذلك المعرض استعادت مفردات كثيرة صارت مع الوقت جزءا من أحلامها وكوابيسها. غير أن كل شيء يظل رهين حبها العميق لمدينة طفولتها.

تحتفي بالأبيض والأسود كما لو أنها تستدرج المتلقي إلى عالم تعد بأنه سيكون ملونا. تلك حيلة لن يكون المتلقي ضحيتها بقدر ما يتورط في صناعتها. فهو من خلالها يتعرف على جمال مختلف.

علاقة الناس بالبحر هي في الحقيقة تجسيد لعلاقة الفنانة بالبحر. لا بد أن نبحث عن وجهها بين الوجوه التي ترسمها. لا يخطئ الرسام طريقه إلى نفسه. عبارة “حلوة يا بلدي” وهي عنوان أحد معارضها تعني للمصريين الصمت الذي يختزل كثيرا من الكلام. “حلوة” لذلك سيكون جمالها مفارقا لكل معنى متاح. وسيكون رسمها مناسبة للعب بالمفردات الجمالية.

رحلة بين زمنين

◄ المزاج السكندري لعب دورا عظيما في تجربتها
المزاج السكندري لعب دورا عظيما في تجربتها

ولدت رباب أحمد نمر في الإسكندرية عام 1938. أنهت دراسة الرسم في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1963. حصلت على درجة الأستاذية في الفنون الجميلة من أكاديمية سان فرناندو بمدريد عام 1977. عاشت سنوات في إيطاليا. عام 1994 نالت نمر جائزة تقديرية في بينالي الشارقة. كما حصلت على جائزة لجنة التحكيم في بينالي القاهرة الدولي عام 1998 وفي عام 2007 نالت جائزة بينالي الإسكندرية.

أقامت الفنانة أكثر من أربعين معرضا شخصيا بدءا من عام 1983.

تقول الفنانة “إن العنصر الإنساني هو أساس عملي والحياة عندي رحلة.” تلك جملة تلخص فلسفة العمل والتفكير لدى رباب نمر التي مزجت بين رحلة حياتها الشخصية وطريقتها في النظر إلى العالم حولها، هناك حيث يتمحور كل شيء حول الإنسان الذي هو ضالة الرسم بالنسبة إلى الفنانة التي تفسر تلك العلاقة بقولها “أشكالي تتألف في إيقاع تعبيري يتسق مع التراكيب اللونية والمناخ العام للصورة الذي ينبع من اقتناعي بأن القيمة الفنية إنما تكمن في العلاقة الحوارية بين الذات والعمل الفني. تلك العلاقة التي تزيد من الشحنة التعبيرية للعناصر والأشكال.”

في إطار تلك الفكرة تمزج الفنانة بين ما تراه وما تتذكره. بالنسبة إليها فإنها تنتزع صورة من صورتين تقعان في زمنين مختلفين؛ زمن تستعيده الرسامة باعتباره نوعا من الحلم وزمن تعيشه بتلذذ الحاضر. وما بينهما تخترق بإنسانها محنة الانتماء إلى زمنين. ترسم لكي ترى كائناتها وهي تنظر إلى كائناتها لكي ترسم. تلك معادلة هي خلاصة تجربتها في الرسم والحياة معا. فهذه الفنانة عرفت كيف تستدرج حياتها إلى الفن وفي المقابل وضعت فنها في خدمة حياتها.

لذلك لم يكن في إمكانها أن تكون موضوعية في طريقة تعاملها مع العالم الخارجي. كان ذلك العالم الذي يشكل محيطها هو السبب الذي دفع بها إلى أن ترسم. ستكون لها دائما حصة من عذاب ورفاهية الكائنات التي ترسمها محاطة بطقوسها. إنه الإقبال المصري على الحياة بغض النظر عما يحمله ذلك الإقبال من مفاجآت قد لا تكون في بعض الأحيان.

الاحتفال الذي تقيمه رباب نمر بالحياة المصرية هو نوع من الاستعارة التي لا تتطابق مع الأصل. في النهاية يحق للفنانة أن تقول “إنني أرسم ولست ملزمة بالواقع.”

ليس من الصعب أن يهتدي المرء إلى المؤثرات البصرية والثقافية التي شكلت أساسا لتجربة نمر الفنية. البحر يقف في مقدمة تلك المؤثرات لأنها ابنة الإسكندرية المغرمة بتفاصيل الحياة التي أنتجتها تلك المدينة، التي شهدت عصورا إنسانية عظيمة، تركت أثرا على حياة سكانها وشكلها المعماري. غير أن البحر بقي شاهدا على تلك التحولات الصاخبة.

في حب الإسكندرية

◄ الإنسان ضالة الرسم بالنسبة إلى الفنانة
الإنسان ضالة الرسم بالنسبة إلى الفنانة

تقول الفنانة “أنا حين أسير في الشارع أنظر إلى الناس كيف يتحركون وكيف تسير حتى الحيوانات، القطط مثلا وكيف يجلس الكلب في الشارع، والغريب أنه من كثرة عشقي للأنفوشي بدأت تظهر أشياء غريبة في لوحاتي هي انعكاس لألوان المراكب التي أجد أن الصيادين قد سبقوني إليها من غير أي اتفاق مسبق، كما صارت موتيفات مصرية قديمة وإسلامية وأيقونات تظهر في لوحاتي من غير أن يعني ذلك أنني كنت أنقلها من الواقع. كل تلك الأشياء كانت تنبعث من وجداني وبأسلوبي الخاص.”

تشبعت رباب نمر بالمشاهد البصرية الساحرة لمدينتها فكانت رسومها بمثابة ثناء بصري على جماليات المدينة لكن من خلال اهتمامها برصد تفاصيل العيش. تلك التفاصيل التي تكشف بشكل دقيق عن علاقة الإنسان بالمدينة. وهي علاقة تتميز بقدر عال من الحب. وهو ما دفع الفنانة إلى أن تقيم عددا من معارضها تحت عنوان “في حب الإسكندرية”. بالنسبة إليها صار المكان الملهم هو أشبه بالجنة التي تقترحها الأحلام.

يتعرف المرء حين ينظر إلى لوحات نمر على الإسكندرية لا باعتبارها مدينة عيش فحسب بل وأيضا باعتبارها المكان الذي يلتقي فيه الحلم بالواقع. إنها تظل المكان الذي يأسر الحالمين بواقعه المفتوح على معان مختلفة.

خلاصات بصرية فاتنة

“بالأبيض والأسود” رسمت رباب نمر في بداية مسيرتها الفنية حتى أنها أطلقت ذلك التعبير عنوانا على أحد معارضها. ثم زحفت الألوان تلقائيا. لم يكن ذلك حدثا تقنيا عفويا. حدث ذلك التحول بتأثير التماس المباشر مع الموضوعات التي فرضت ألوانها على الفنانة لكي تكون أكثر تعبيرا عن صدقها الفني.

وبالرغم من أن الفنانة قد استجابت لذلك الشرط فإنها ظلت مخلصة إلى زهدها اللوني فلم تكن ملونة بل كانت لوحاتها هي الأقل لونا إذا قورنت بلوحات زميلاتها وزملائها من الرسامات والرسامين المصريين.

لقد استبدلت رباب نمر اللون بفكرته؛ إذ كانت تتعامل مع الألوان رمزيا بالإيحاء بحيث يلقي الشكل الملون بظلاله على ما يجاوره من أشكال. تلك محاولة جريئة نجحت بها الفنانة في أن تفرض طريقة جديدة في التعامل مع تقنيات اللون.

صنعت رباب نمر عالمها بتأثير المحيط الاجتماعي الذي حاولت أن تصل إلى خلاصاته البصرية. كان اللون جزءا من ذلك العالم ولم يكن سيده.

 

8