تصاعد مخاطر الفساد يدفع واشنطن لوقف مساعداتها الإنسانية لليبيا

واشنطن – أعلنت الولايات المتحدة تعليق مساعداتها الإنسانية المخصصة لليبيا، في خطوة ربطها تقرير صادر عن المركز الاستخباراتي الفرنسي "أفريكا إنتلجنس" بتصاعد مخاطر الفساد واختلاس الأموال، إلى جانب استخدام جزء من التمويل في دعم جماعات مسلحة.
وكشف التقرير عن تحوُّل مسار ملايين الدولارات من المساعدات الأميركية إلى "جيوب مسؤولين ليبيين وعناصر ميليشياوية"، بدلا من توجيهها إلى النازحين والمشردين الذين يُشكِّلون الغالبية العظمى من المستحقين.
وأشار التقرير إلى أدلة على تورط جهات ليبية في استخدام المساعدات لتمويل جماعات مسلحة، بعضها مصنف "إرهابيا"، ما يُناقض شروط واشنطن التي تُحرّم تمويل أي كيانات تُهدد الأمن الإقليمي.
وأكد التقرير أن الانقسام السياسي بين شرق ليبيا وغربها، وعدم وجود سلطة مركزية معترف بها دوليّا، جعلا واشنطن عاجزة عن ضمان توزيع المساعدات وفق معايير واضحة.
ولفت التقرير إلى تصاعد الهجمات على المنشآت الدبلوماسية الأجنبية في ليبيا، خاصة بعد تعرُّض بعثة أمير كية لتهديدات مباشرة من جماعات متطرفة في الجنوب.
وحذّرت منظمات إنسانية، بينها "المفوضية السامية لشؤون اللاجئين"، من أن قرار واشنطن قد يُفاقم معاناة نحو 1.2 مليون ليبي يعتمدون على المساعدات الدولية في الغذاء والدواء، لكن التقرير الاستخباراتي نوّه بأن استمرار التمويل دون ضوابط "يُغذي الصراع ويعقد الأزمة".
ومن جهة أخرى، يرى مراقبون أن القرار الأميركي يأتي في إطار سياسة الضغط على الأطراف الليبية لدفعها نحو تسوية سياسية، خاصة بعد فشل الجهود الأممية في توحيد المؤسسات تحت حكومة واحدة.
وتعاني ليبيا منذ سقوط نظام الزعيم الراحل معمر القذافي في فبراير 2011، من حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، كما تنتشر جماعات مسلحة تسيطر على مناطق واسعة من البلاد.
ويتنازع على السلطة في ليبيا حكومتان: الأولى حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها في طرابلس يترأسها عبدالحميد الدبيبة ويرفض تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة معتبرا أنّ الأولوية هي إقرار قواعد دستورية عادلة وواضحة لإجراء الانتخابات.
أما الثانية هي حكومة "الاستقرار" في بنغازي برئاسة أسامة حماد مكلفة من مجلس النواب وتتمتع بدعم قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر.
وأدى هذا الانقسام السياسي إلى تعقيد الوضع الأمني والاقتصادي والإنساني في البلاد، كما أسهم في تزايد ممارسات الفساد المالي والإداري، ما جعلها تحتل المرتبة الـ173 من أصل 180 دولة في الترتيب العالمي لمؤشر الفساد عام 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.
ويقول متابعون إن الفساد ضرب كل مؤسسات الدولة في ليبيا وأصبح ظاهرة واسعة النطاق، وتحول إلى عنصر أساسي في الحراك السياسي والاجتماعي وفي بنية الدولة، وهو اليوم المتحكم الفعلي في مراكز القرار بينما يصنف 40 في المئة من الشعب تحت خط الفقر.
ويضيفون أن الحديث عن مقاومة الفساد أصبح يتردد في حالات كثيرة على ألسنة متورطين رئيسيين في الفساد وفي نهب المال العام وإهداره والعبث بمقدرات الدولة عبر العقود والصفقات المشبوهة وظهور الحيتان الكبيرة بشكل متواتر في محيط السلطات السياسية ودوائر الأسر الممسكة بمقاليد السلطة في طرابلس وبنغازي.
وفي وقت سابق من ديسمبر الماضي قال رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي إن "المجلس ينظر بقلق إلى ما ألحقه الفساد من أضرار في البلاد، وأن مكافحته ليست مجرد ضرورة أخلاقية فحسب بل هي شرط أساسي لتحقيق التنمية الشاملة، وحماية مقدرات الشعوب."
وأكّد في تصريح صحفي أن "الفساد بصوره المعقدة وتأثيراته العميقة يهدر الموارد المالية والبشرية ويعوق التقدم في المجالات كافة."
ومن المتوقع أن يثير القرار الأميركي ردود فعل متباينة في ليبيا، حيث قد يرحب البعض بالقرار باعتباره خطوة ضرورية لمكافحة الفساد، بينما قد ينتقده آخرون باعتباره يضر بالوضع الإنساني في البلاد.
ومن الممكن أن يدفع هذا القرار منظمات أخرى إلى مراجعة طريقة تقديم المساعدات إلى ليبيا.
لكن في كل الأحوال يعتبر القرار جزءا من مراجعة شاملة تُجريها الإدارة الأميركية لسياساتها في المنطقة، مع تركيز أكبر على تحويل المساعدات إلى دول أخرى، في ظل تنامي التنافس مع روسيا والصين.
ويأتي التعليق بالتزامن مع تصاعد انتقادات الكونغرس الأميركي لـ"عدم فعالية" المساعدات في ليبيا، حيث طالب نواب بمراجعة جميع برامج التمويل في مناطق النزاع.
وكانت واشنطن قد خفضت مساعداتها لليبيا بنسبة 40 بالمئة في عام 2023، فيما يُعتبر التعليق الكامل خطوة غير مسبوقة منذ بداية الأزمة الليبية.