"بين الجريمة والسراب" حكاية ألبانيا بلسان شاعر

عمان - يعد كتاب “بين الجريمة والسراب.. عن (الربيع الألباني) وسقوط الدكتاتورية” كتابا متفردا، لأنه بقلم شاعر يمزج بين الرؤية الفلسفية والأحداث السياسية بلغة إبداعية، حتى يحسبه القارئ للوهلة الأولى رواية تاريخية أكثر منه كتابا في التاريخ.
الكتاب، الصادر حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن، من تأليف الكاتب الألباني بسنيك مصطفاي وترجمة د.محمد م. الأرناؤوط، يقع في 212 صفحة، ويضم ستة فصول وتمهيدا بقلم المترجم ومقدمة وخاتمة للمؤلف.
يقول الأرناؤوط عن المؤلف الذي روى أحداثا عاشها وعاصرها وأثر في مجرياتها “كنت قد عرفت بسنيك شاعرا كما كان عشية المواجهة مع الدكتاتورية، ونشرت له عدة قصائد في 1990، ثم تعرفت عليه روائيا وشخصيا ما بين كوسوفو وألبانيا خلال (2018 – 2020)”.
ويضيف الأرناؤوط في المقدمة أنه نشر أولا عرضا عن رواية بسنيك المسماة “ملحمة صغيرة عن السجن”، فاتحا الباب لترجمتها كأول رواية لبسنيك في العربية (2022)، ثم نشر عرضا لكتابه “بين الجريمة والسراب” مع ترجمة لمقدمته، وبقي يعود إليه من حين إلى آخر ليترجم فصلا ويتوقف، ثم قرر إكماله وإعداده للنشر لكونه “يقدم تجربة غنية في الكفاح ضد الدكتاتورية ورؤية لما بعد الدكتاتورية”، موضحا “مع تجربة أوروبا الشرقية أصبح يقال إن الانتقال من الحكم الديمقراطي إلى الحكم الدكتاتوري أسهل من الانتقال من الحكم الدكتاتوري إلى الحكم الديمقراطي، ومن هنا كان العنوان الدال لهذا الكتاب: بين الجريمة والسراب”.
ويتابع المترجم “لدى بسنيك أكثر من سراب في كتابه هذا الذي أغناه بالخاتمة المطولة ‘الحلم بالجنة’ التي نشرت لأول مرة في 2019، والتي وضع فيها بجرأة النقاط على الحروف في ما يتعلق بـ’الربيع الألباني وسقوط الدكتاتورية’، موضحا المسافة الصعبة بين ‘الحلم بالجنة’ وبين ‘الجنة التي تتحقق على أرض الواقع'”.
يتطرق بسنيك مصطفاي في الفصل الأول من الكتاب إلى موقف أنور خوجا من الستالينية والشيوعية يقول “في خريف 1960 لم يوافق أنور خوجا على قيام خروتشوف بإلغاء تقديس ستالين، وقام بقطع كل العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، وهكذا فقد أغلقت كل نافذة أمام النفَس الليبرالي الذي بدأت نسماته في بلاد السوفييت، وفي كل المعسكر الشيوعي، ولم يبقَ لألبانيا المتخلفة من حليف سوى الصين التي كانت تعد العدة للثورة الثقافية المخيفة”.
ويتابع واصفا الحال التي وصلت إليها ألبانيا حينئذ “وهكذا دخلت ألبانيا التي لم تكن قد تخلصت بعد من الأمية في الفيضان الجارف للثورة الثقافية، فقد سحبت من منصات المسارح الألبانية والمكتبات المدرسية أعمال بيتهوفين وموزارت وشكسبير وتشيخوف طيلة عشرين سنة، في المدارس على كل مستوياتها كان يفرض على الطلاب أن يدرسوا فقط فلسفة نصوص ماركس وإنغلز ولينين وستالين وماو، وأنور خوجا بالطبع، وما عدا ذلك اعتبرت كل المؤلفات الكلاسيكية والحديثة رجعية، وكانت كل صلة بها ولو بشكل ذاتي تعتبر نشاطا عدائيا ضد السلطة الشعبية، ينال من يتورط بها حكما بالسجن لمدة عشر سنوات، وفي غضون ذلك توقف إرسال الطلاب للدراسة في الجامعات الأجنبية: كان لا بد من خلق إنتلجنسيا فاسدة في مثل هذا الجو الخانق”.
المؤلف تحدث حول مدى الانغلاق الذي وصلت إليه ألبانيا، حيث كانت أبوابها مغلقة أمام الصحافة الأجنبية، كما كانت هناك حواجز كثيرة تحجب رؤية محطات التلفزيون في الدول المجاورة
وفي الفصل الثاني يتحدث المؤلف حول مدى الانغلاق الذي وصلت إليه ألبانيا، فيقول “يمكن أن أقول بشكل عام إن المثقفين الألبانيين كانوا يعتقدون أن المرحلة الانتقالية إلى ما بعد الدكتاتورية سهلة جدا، ولم يكن هناك في الإمكان غير ذلك، فبالنسبة إلى عقولنا المملوءة بالأسئلة عن الوضع الراهن، الذي لم يكن يدعو إلى التفاؤل كثيرا، كان فوق طاقتنا أن نتخيل ما هو قادم. كان يشبه أن تطلب من الإنسان الجائع أن يفكر بالحلوى، ولكن كان هناك سبب آخر أيضا؛ كانت أبواب ألبانيا مغلقة أمام الصحافة الأجنبية، كما كانت هناك حواجز كثيرة تحجب رؤية محطات التلفزيون في الدول المجاورة”.
ويجعل المؤلف الفصل السادس والأخير بمثابة موسوعة ألبانية صغيرة، على حد تعبيره، جامعا مصطلحات وشخصيات ألبانية كما كانت تعرف في الكتابات الرسمية، فينقل مصطفاي مثلا عن “المعجم الموسوعي الألباني” ما يرد عن أنور خوجا: “من الشخصيات النادرة التي اجتمع فيها المفكر الماركسي والزعيم الثوري والقائد العسكري ورجل الدولة والدبلوماسي والناشر والمثقف المعرفي ومربي الجماهير والخطيب الناري وصديق الناس البسطاء. كافح وعمل وأبدع طيلة حياته على رأس حزب الشعب الألباني لأجل خير وثروة الوطن والقضية الكبرى للاشتراكية. إن أعماله وتراثه اللذين لا يقدران بثمن سيبقيان حيين عبر القرون”.
وفي الخاتمة التي عنونها المؤلف “ألبانيا: ماذا كانت في الماضي، وما هي عليه الآن، وماذا ستكون في المستقبل؟ (عوضا عن فصل ختامي لكتاب مفتوح)” يقول مصطفاي “كان اقتصاد البلاد قد انهار بشكل كارثي، وانهارت معنويات الشعب بشكل مأساوي، ولذلك يبدو مفهوما التروما المرعبة والعقَد التي ستصاحب هذا الشعب خلال الانتقال من الدكتاتورية إلى المجتمع الديمقراطي، فالشعب الذي لديه كابوس الجوع ويصلي كل يوم لكي لا يصاب بالمرض، وحيث ينقص الكحول في المستشفيات، ولا يرغب أن يرسل أطفاله إلى المدارس في الشتاء لأن المدارس لا تنقصها التدفئة فقط وإنما زجاج النوافذ لترد الريح والمطر، لا يمكن له بسهولة أن يخلق نفسية جديدة، نفسية الحياة في الديمقراطية. ومع ذلك فإن هذا الشعب يحب الديمقراطية قبل كل شيء، ولذلك لا يزال يغفو في عقله المتعب منذ مئة سنة حلم سامي فراشري برؤية ألبانيا جزءا من أوروبا، كسويسرا، ولمَ لا؟”.