تشوهات النظام الضريبي تختبر قدرة سوريا على الإصلاح

تواجه السلطات الجديدة في سوريا معركة مفصلية مهمة في مسار إيقاظ الاقتصاد المشلول، والتي سيكون إصلاح منظومة الضرائب إحدى ركائزها لكونه من الملفات المستعجلة الموضوعة على الطاولة لتعزيز الإيرادات وتحقيق العدالة الجبائية وجذب الاستثمار.
دمشق - تترقب سوريا ثورة ضريبية في ظل وعود حكومية بتحقيق العدالة والشفافية، ومخاوف من المواطنين والمستثمرين من تحول عملية الإصلاح المنشودة إلى عبء إضافي على الاقتصاد الهش، بعد عقود من الفساد المالي.
ويسود جدل بشأن ما إذا كانت لدى الحكومة القدرة على إقناع السوريين بأن الإصلاحات ليست مجرد حلقة جديدة من “الجباية”، رغم أنها خطوة حقيقية نحو بناء اقتصاد أكثر شفافية وعدالة.
وقال وزير المالية محمد أبازيد، في مؤتمر نظمه تجمع سوريا الوطني مؤخرا، إن الحكومة تسعى إلى تطبيق نظام ضريبي “شفاف وعادل”، بمشاركة فاعلة من التجار والمصنعين، ما يمنحهم دورا مباشرا في صياغة القوانين.
وأضاف “نريد بناء نظام ضريبي يحقق التوازن بين حقوق الدولة والمكلفين، ويعزز الثقة المتبادلة بين القطاعين العام والخاص.”
ويعود القانون الضريبي الحالي إلى عام 1949، واستمر لعقود رغم تغير الحكومات والأنظمة، ويعتمد على نموذج الضرائب النوعية، وهو نمط تخلّت عنه أغلب الدول لصالح الضرائب التصاعدية التي تفرض على إجمالي دخل الأفراد والشركات.
وكان الرئيس أحمد الشرع قد لفت في تصريحات الشهر الماضي إلى أن بلاده تعمل على إصلاح يتعلق بحقوق الملكية والسياسات الضريبية والخدمات والأمن بهدف “توفير بيئة استثمارية جاذبة،” معتبرا أن تسهيل الاستثمار سيوفر فرص عمل كثيرة.
وتتزامن الخطوة مع اقتصاد يعاني من انهيار حاد، إذ أشارت الأمم المتحدة في فبراير الماضي إلى أن 3 من كل 4 سوريين يعتمدون على المساعدات الإنسانية، بينما تضاعف معدل الفقر ثلاث مرات ليصل إلى 90 في المئة، وبلغت نسبة الفقر المدقع 66 في المئة.
وفي ظل الوضع الراهن يتعذر تقدير عدد الشركات والأفراد الخاضعين للتحصيل الضريبي، أو من حصلوا على إعفاءات.
وأبدى أعضاء غرف التجارة والصناعة ترحيبا حذرا بالإصلاحات الجديدة، لكنهم لم يخفوا مخاوفهم من أن تتحول إلى مشكلة.
وقال لؤي الأشقر، أمين سر غرفة تجارة دمشق، لبلومبيرغ الشرق إن “القطاع التجاري كان يواجه صعوبات كبيرة في ظل التعقيدات الضريبية السابقة.”
ولفت إلى أن المستثمرين طالبوا بأن يكون القانون الجديد أكثر مرونة ويحقق العدالة دون أن يكبل النشاط الاقتصادي، والعمل على أسس واضحة تضمن حق الخزينة دون إرهاق المكلفين بالضريبة.
وسبق أن أكد معاون وزير المالية صالح العبد أن القانون الجديد “سيحقق التوازن بين حقوق الدولة وحقوق المكلفين، مع الحرص على تبسيط الإجراءات وزيادة الشفافية.”
وكشف العبد عن نية الحكومة رفع الحد الأدنى المعفى من ضريبة الدخل على الرواتب من 300 ألف ليرة (118.5 دولار) إلى 5 ملايين ليرة (1975.4 دولار)، لتحقيق المزيد من العدالة والتخفيف عن المواطنين.
وأطلقت السلطات حملة لحصر موظفي القطاع العام بعدما وجدت أن من وردت أسماؤهم في كشوفات الرواتب بلغوا نحو 1.25 مليون شخص.
لكن مصدرا في وزارة المالية صرح سابقا بأن تدقيقا أظهر وجود نحو 700 ألف موظف حقيقي أكثرهم غير فعالين بشكل كامل، وقيمة راتب الغالبية منهم لا تتعدى 25 دولارا شهريا.
وتستعد السلطات لوضع خطة اقتصادية إستراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل الاقتصاد بعيدا عن الاشتراكية، وفق ما قاله الشرع في فبراير الماضي.
وكشف أثناء مقابلة مع تلفزيون سوريا عن تشكيل فريق اقتصادي لوضع خطة لعشر سنوات تتضمن مرحلة طارئة، ومرحلتين على المديين المتوسط والبعيد.
وعبر الأشقر عن تفاؤله بالمستقبل، مشيرا إلى أن الحكومة تطلب مشاركتها في وضع الحلول للمشاكل التي “نعاني منها ومستعدة للتجاوب معنا، كما نرى عقولا جاءت لبناء الدولة وليس لتحصيل الضرائب والبقاء في الحكم وامتلاك الدولة ومن ثم تهريب الأموال.”
وتتجه الأنظار نحو تشكيل حكومة جديدة هذا الشهر تخلف الحكومة المؤقتة التي أدارت البلاد بعد انهيار نظام آل الأسد، وسط تطلعات إلى تنفيذ حزمة الوعود التي قطعتها سابقتها، ولم يسعفها الوقت لتحقيقها، لاسيما ما يتعلق منها بتحسين الأوضاع المعيشية للناس.
واعتبر الأشقر أن إعداد قانون ضريبي جديد قد يحتاج وقتا يصل حتى بداية يونيو المقبل، والتعديل الحكومي المرتقب لن يؤثر على هذا المسار باعتبار أن القائمين على إعداد القانون الجديد سيواصلون عملهم وفق مبدأ المؤسسات، على عكس المرحلة السابقة.
وطالب بإلغاء القوانين القديمة وتوحيدها في قانون واحد يحقق العدالة الضريبية ويعزز الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
كما دعا إلى تصفير الضرائب على المشاريع الإنتاجية والاستثمارية عبر إعفاء الصناعات لخمس سنوات على الأقل، وإعفاء مدخلات الإنتاج وقطاعات إعادة الإعمار لدورها في تحقيق نهضة اقتصادية شاملة.
ولطالما عانى الاقتصاد السوري من نظام ضريبي مليء بالثغرات، ما دفع العديد من التجار والمستثمرين إلى اللجوء إلى “الدفترين”، حيث تُسجَّل حسابات مزدوجة للتحايل على الضرائب.
وقال الأشقر “إذا كان النظام الجديد عادلا ويُطبق على الجميع دون استثناء، فعلى التجار التخلي عن هذه الأساليب، ومن يستمر بها فإنه يضرّ ببلده ويجب أن يُحاسب.”
وبحسب مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، تعتبر سوريا رابع أسوأ دولة من حيث انتشار الفساد.
ويعتقد إبراهيم العدي، أستاذ القانون الضريبي بجامعة دمشق، أن “النظام الضريبي الحالي يقوم على مبدأ تفتيت الدخل للفرد الواحد، ما يؤدي إلى تفتيت الضريبة نفسها.”
واعتبر أن القانون المعمول به حاليا هو نظام متهالك ومتآكل وأشبه بغابة من التشريعات، مشيرا إلى أن قوانين الاستثمار منذ 1991 منحت مزايا خاصة لبعض الأفراد، وأكد على ضرورة جعل الضرائب صفرية للأنشطة الداعمة للاقتصاد.
لكن العدي حذّر من أن ملف الضرائب “حساس جدا”، مبديا خشيته من أن تكون قناعة المواطن أنه لن يدفع الضريبة المستحقة عليه لأن المردود الخدمي الذي تقدمه الدولة لا يعود عليه بالنفع.
وقال إن “هذه النظرة السلبية جداً عن الضريبة يجب معالجتها ويجب تحسين العلاقة ونشر الوعي الضريبي لكافة الجهات باعتبار أن الرأي العام سلبي بالمطلق.”
ويواجه الاقتصاد تداعيات الحرب التي اندلعت في 2011، حيث قدّر تقرير للأمم المتحدة إجمالي الخسائر في الناتج المحلي الإجمالي خلال 14 عاما بنحو 800 مليار دولار.
وتكشف تقارير البنك الدولي والأمم المتحدة عن تكاليف قد تصل إلى 300 مليار دولار لإعادة الإعمار، وهو ما يفوق الناتج المحلي للبلاد حتى قبل اندلاع الحرب.
ويشرح محمد، وهو تاجر أدوات منزلية في دمشق، تحول الضرائب إلى أداة للفساد قائلا “الجمارك كانت تقتحم المستودعات وتحرر مخالفات بحجج واهية، وأحيانا تدّعي أن البضائع مخزنة منذ سنوات، ما يجعل بياناتها الجمركية غير صالحة.”
وأوضح أن القرارات كانت تُصاغ بثغرات مقصودة لاستغلالها لاحقا ضد التجار، وأن الفساد كان المحرك الأساسي، لكنه شدد على أن التجار أيضا لجأوا إلى التحايل وتهريب منتجات محظورة، مثل البلاستيك الصيني، لجودته وكلفته الأقل مقارنة بالمحلي.
وتأتي هذه الإجراءات المرتقبة بالتزامن مع بدء تواصل صندوق النقد الدولي مع دمشق بهدف تأمين دعم يمكنها من بناء قدرات المؤسسات، بعد انقطاع دام 16 عاما، ما أحدث فجوة في البيانات والمعلومات لدى المؤسسة المانحة عن واقع الاقتصاد السوري.
ويرفض العدي الادعاء بأن تخفيض الضرائب والرسوم الجمركية يضر بخزينة الدولة، معتبرا أنه “كلما انخفضت معدلات الضرائب زاد التحصيل والإيرادات.”
لكنه حذر من التهرب الضريبي، داعيا الدولة إلى فرض عقوبات صارمة على المخالفين وتغيير هذه العادات.