الرّقة.. حكايات الفرات المنسية المنتفضة من تحت الركام

العديد من المدن العربية كانت ملتقى هاما للثقافات والفنون التي تخلقها الحركية الاقتصادية والرخاء العمراني، ولكن بتأمل حاضرها نجده مختلفا عن ماضيها، وهو ما يضعها أمام تحديات كبرى لاستعادة بريقها وأثرها وتأثيرها، ولا يكون ذلك إلا بالتذكير بهذه المدن وإثبات مكانتها عبر استعادة تاريخها.
مع إشراقات الصباح الأولى، نسير مع الضوء نحو البعيد، حيث تقبع الرّقة، تلك المدينة التي لا تزال في الذاكرة نهرا من حنين، بطيبة أهلها وبساطتهم، وبفراتها العذب الذي يسكن في قلوبنا، ماضٍ يتراءى أمامنا كلما داعبت أنفاسُ الصباحِ وجوهَ الغائبين. إنها ليست مجرد مدينة، بل لوحة نقشها الزمن بريشة فنان أصيل، بريشة الشمس حين تشرق على مآذنها، وريشة الماء وهو يعانق ضفافها.
الرّقة ذاكرة محفورة في الصدور قبل أن تُنقش على الجدران، أيامها الخوالي كانت صفحات من الدفء والفرح، تتراقص في أعين أطفالها، وفي ضحكات أهلها، وفي تفاصيل مقاهيها وسوقها القديم. غير أن الزمن، بقسوته التي لا تعرف الرحمة، قلب صفحاتها البيضاء إلى سواد، وجعل من تاريخها كتابا ممزق الأوراق، فباتت الجدران التي كانت تحمل الحكايات شواهد على الألم، وتحولت الطرقات التي كانت تنبض بالناس إلى ممرات للموت والغياب.
تنتفض من الركام
لا يزال في القلب متسع من وجع، حين نتأمل كيف انقلبت ملامح الرقة، كيف تبددت الأحلام بين أنقاض البيوت المهدّمة، وبين صرخات النزوح التي جرّدت أهلها من هويتهم، فصاروا غرباء في أوطان أخرى، يحاولون أن يلملموا ما بقي من أرواحهم وسط عوالم لم تفتح لهم أبوابها إلّا بأثمان باهظة، أثمان دفعتهم إلى التيه في الغربة، بين حنينٍ ينهش القلب، ومستقبل مجهول لا يكاد يمنحهم سوى سراب الأمل.
ومع كل هذا الخراب، ثمة ضوء خافت يلوح في الأفق، شيء يشبه بقايا الحلم، يشبه مدينة تنتفض من تحت الركام، كطائرٍ جريح يحاول فرد جناحيه من جديد. لا تزال الرّقة رغم كل شيء، رغم كل الحروب والجراح، تنبض في ذاكرة محبيها، ترفض أن تكون مجرد ذكرى مطموسة، تأبى أن تظلَّ مجرد أطلال يزورها الحنين، أو خريطة باهتة فقدت معالمها.
تقع مدينة الرّقة السورية على ضفاف نهر الفرات، وتُعدُّ واحدة من أقدم وأعرق المدن في المنطقة، حيث شهدت تعاقب الحضارات المختلفة التي تركت بصمتها على شوارعها وأسواقها وأزقتها القديمة. كانت الرّقة عبر العصور ملتقى القوافل التجارية ومحطة إستراتيجية بين الشرق والغرب، مما منحها أهمية خاصة على الصعيدين الاقتصادي والثقافي.
يرجع تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ، حيث استوطنتها مجتمعات بشرية منذ العصر الحجري. ومن أبرز المواقع الأثرية المرتبطة بها “تل المريبط”، الذي يُعدُّ من أقدم القرى البشرية، حيث أسس الإنسان الأول مستوطنات زراعية بدائية قبل آلاف السنين. كما تحتوي المنطقة على “تل الأسود”، الذي شهد بدايات الزراعة والرعي.
وفي العصور التاريخية، تطورت الرّقة لتصبح مركزا حضاريا مهما، إذ قامت فيها حضارات متعددة، من الحثيين والآشوريين إلى الإغريق والرومان. وكانت مدينة “توتول”، التي تعود إلى العصور البرونزية، شاهدة على ازدهارها الاقتصادي والعسكري، كما كانت جزءا من الممالك القديمة مثل إيبلا وماري وإيمار. وقد شهدت الرّقة خلال العصر الحثي والآشوري بناء حصون قوية لحمايتها من الغزوات.
ازدادت أهمية الرّقة في العصور الإسلامية، خاصة في عهد الأمويين والعباسيين، إذ جعلها الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور عاصمة له، وأسَّس فيها “الرافقة” التي أصبحت نموذجا عمرانيا متطورا في ذلك الحين. ثم ازدهرت الرّقة في عهد الخليفة هارون الرشيد، الذي اتخذها مقرا لإقامته.
كما ارتبطت الرّقة بمعركة صفّين الشهيرة بين الخليفة علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، حيث لا تزال آثار المعركة ماثلة في المنطقة حتى اليوم. وكانت الرّقة محطة رئيسية لجيوش الفتح الإسلامي نحو أرمينيا، وساهمت في انتشار الحضارة الإسلامية في المنطقة.
وشهدت المدينة نهضة علمية وثقافية، حيث كانت موطنا للعديد من العلماء والأدباء في العصر العباسي. كما أنشئت فيها العديد من المساجد والمدارس التي ساهمت في انتشار العلوم والفقه الإسلامي.
لطالما كانت الرّقة نقطة التقاء القوافل التجارية التي تجوب طريق الحرير، ومركزا للتبادل الثقافي والاقتصادي.
احتضنت المدينة العديد من المبدعين عبر العصور، ومن أبرزهم الأديب الكبير عبدالسلام العجيلي، والمؤرخ مصطفى الحسون، إلى جانب كوكبة من الأدباء والشعراء الذين أثروا الحياة الثقافية في سوريا والوطن العربي، واحتضانها للكثير من الندوات الدولية والمهرجانات، وأهمها: الندوة الدولية لتاريخ الرّقة التي احتضنتها في عام 1981، وكذلك مهرجان البادية الأول الذي تعثّر في يومه الأول بسبب أحوال الطقس السيئة، والأمطار والعواصف الغبارية التي رافقته قبل البدء به في أرض مدينة الرّصافة، ولم تسنح للحضور الجماهيري الغفير متابعته، ما دعا الأغلبية منهم إلى الفرار بسياراتهم هربا حفاظا على أرواحهم من الحال التي خلّفتها الرياح العاتية والأمطار الغزيرة التي صاحبته. ولا ننسى المهرجانات الأخرى ومنها مهرجان العجيلي للرواية، الذي ما زال يُحتفى به في الرّقة، وكذلك مهرجان الرّقة المسرحي وغير ذلك من المهرجانات والمشاركات.
◄ لطالما كانت مدينة الرّقة نقطة التقاء القوافل التجارية التي تجوب طريق الحرير، ومركزا للتبادل الثقافي والاقتصادي
والكثير من شباب الرقة المبدعين أثبتوا مكانتهم على مستوى الوطن الكبير، ومنهم من نال جوائز إبداعية قيمة، وحفروا أسماءهم بأحرف من نور، وكثيرة هي الوجوه التي تمكنت من الفوز بالمسابقات والجوائز الأدبية على مستوى الفنون مجتمعة، فنية أدبية وثقافية، نذكر منهم: د. حمدي موصللي، د. عبد الله أبو هيف، د. موسى رحوم عبّاس، إبراهيم الخليل، إبراهيم الجرادي، د. محمد الحاج صالح، إبراهيم العلوش، عمر الحمود، تركي رمضان، محمد جاسم الحميدي، عيسى الشيخ حسن، إبراهيم النمر، عصام حقي، د. شهلا العجيلي، فوزية المرعي، يوسف دعيس، فواز اليونس، فهد الحسن، أيمن ناصر، والقائمة تطول.
تتميز الرّقة بأراضيها الخصبة التي تُروى من نهر الفرات، ما جعلها من أهم المناطق الزراعية في سوريا. وقد اشتهرت بزراعة القطن، الذي يُعدّ أحد أهم المحاصيل، إلى جانب القمح والخضراوات بأنواعها.
وللرّقة شهرةٌ عظيمة بزراعة البطيخ الأحمر والأصفر، الذي كان يُصدَّر إلى عاصمة العباسيين، حتى إن العراقيين أطلقوا عليه اسم “الرّقة”. كما تُعرف المدينة بصناعة الجُبن البلدي والسمن العربي، واللبن “الخاثر”، الذي يُعدّ جزءا أساسيا من المائدة اليومية لسكانها.
أما الأسواق، فقد كانت ملتقى أهل المدينة والريف، حيث يأتي الفلاحون منذ الصباح الباكر حاملين منتجاتهم من الخضراوات والألبان واللحوم ليبيعوها لسكان المدينة، في مشهد يعكس طبيعة الحياة البسيطة التي اعتاد عليها أهل الرّقة.
في العهد العثماني، كانت الرّقة مركزا إداريا مهما، حيث شكلت إحدى المحطات الحيوية في طريق الحج والتجارة. وشهدت المدينة تطورا في بناها التحتية، مع بناء الجسور والخانات لخدمة القوافل التجارية.
العودة إلى الحياة
في العصر الحديث، أصبحت الرّقة مركزا تجاريا وزراعيا مهما، حيث شهدت توسعا عمرانيا ملحوظا، وزيادة في عدد السكان، بالإضافة إلى إنشاء المدارس والمستشفيات التي ساهمت في رفع المستوى المعيشي لسكانها.
شهدت الرّقة تطورا اقتصاديا واجتماعيا في القرن العشرين، حيث توسعت وزادت الاستثمارات فيها. لكنها تعرضت خلال السنوات الأخيرة لتحولات جذرية أثرت على معالمها وطابعها السكاني. فقد عانت المدينة من الدمار والنزوح نتيجة الصراعات التي شهدتها، ما أدى إلى تغير تركيبتها السكانية، حيث رحل الكثير من سكانها الأصليين، واستقرت فيها مجموعات أخرى. انعكس ذلك على هويتها الثقافية والاجتماعية، حتى إن لهجة أهلها باتت مهدّدة بالاندثار بفعل التغيرات الديموغرافية.
الرّقة، التي كانت ملتقى للعابرين، أصبحت تعاني من عزلة مفروضة عليها، حيث تعرضت بنيتها التحتية لدمار كبير، وفقدت العديد من معالمها التراثية نتيجة للحروب التي مرت بها.
ورغم هذه التحولات القاسية، لا تزال الرّقة تحتفظ بروحها المتأصلة في وجدان أبنائها، الذين يتطلعون إلى إعادة إعمار مدينتهم وإحياء أمجادها السابقة. فالمدينة، التي لطالما عُرفت بتسامح أهلها وكرمهم، تأبى أن تكون مجرد ذكرى، بل تحاول النهوض من تحت الركام، كما فعلت مرارا عبر تاريخها الطويل.
ابن الرّقة ظل دائما مسالما، محبّا للتسامح والبساطة، يحملُ في قلبه الشهامة والكرم، وهو الذي لم يكن يوما ميالا للحقد أو البغض، بل كان أكثر ما يميل إلى التعايش والانفتاح. وهذه الروح التي ميّزت أهل الرّقة ستبقى حيّة مهما اشتدت المحن.
الرّقة ليست مجرد مدينة على خارطة سوريا، بل هي رمز لصمود شعبها وإرثه العريق. ورغم ما تعرضت له من نكبات، لا يزال أبناؤها يحلمون بمستقبل مشرق، يعود فيه النهر ليحمل ضحكات الأطفال، والأسواق لتنبض بالحياة، والأزقة لتروي قصصها القديمة من جديد. الرّقة ليست أطلالا، بل مدينة تعرفُ كيف تعودُ إلى الحياة، شأنها شأن كل المدن العظيمة التي واجهت المحن وانتفضت لتكتب فصلا جديدا في تاريخها المجيد.