الهمهمات أصوات بلا كلمات تلعب دورا رئيسيا في التواصل اللغوي بين البشر

باحثون يسلطون الضوء على أهمية "الهمهمة" التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي تقليدها.
الاثنين 2025/03/03
الهمهمات تحفاظ على استمرارية الحديث

مع انتشار وسائل تسجيل الصوت والصور والفيديوهات تغير الاهتمام باللغات البشرية، الذي كان مقتصرا على اللغات المكتوبة في ظل توفر محامل مكتوبة فقط. وأهمل هذا الاهتمام عناصر جوهرية في اللغة المنطوقة، ومن بين ما تم إهماله الهمهمات، تلك الأصوات التي لا تعتبر كلمات لكنها ضرورية في التواصل ومنطقة اشتراك بين كل اللغات.

سان فرانسيسكو (الولايات المتحدة)- إذا ما استمعت بإمعان إلى أي حوار دائر بين شخصين، سوف تلاحظ أنهما يستخدمان الكثير من أنصاف الكلمات أو الهمهمات مثل “إمممم” أو “همممم” وغيرهما، وهي في حد ذاتها أصوات لا تنقل أي معلومات عن فحوى الحديث. وظل علماء اللغويات لعقود طويلة يعتقدون أن مثل هذه الأصوات هي مجرد ضوضاء بلا جدوى، وأنها تأتي بشكل هامشي في سياق الحديث دون تأثير حقيقي على مغزى الحوارات التي تدور بين البشر.

أصوات ضرورية

لكن تلك الهمهمات في حقيقة الأمر ربما تكون لها فائدة كبيرة تفوق الظن السابق، ويعتقد بعض علماء اللغويات في الوقت الحالي أنها أكثر من مجرد نفايات لغوية، بل ربما تكون ضرورية لتوصيل الرسائل والمعاني في سياق الحوار، ومن الممكن أن تكون أداة مفيدة لضمان الفهم المتبادل أثناء الحديث، وهو ما يجعلها عنصرا محوريا في سياق اللغة، وقد تكون أصعب معضلة تواجهها تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى إتقان اللغة البشرية بكل أركانها.

مارك دينجمانس: إنها ظاهرة لغوية تلوح نصب أعيننا، ولكننا نادرا ما نلتفت إليها

ويقول الباحث مارك دينجمانس أستاذ اللغويات بجامعة رادبود الهولندية “إنها ظاهرة لغوية تلوح نصب أعيننا، ولكننا نادرا ما نلتفت إليها”، ويضيف في تصريحات للموقع الإلكتروني “Knowable Magazine” المعني بالأبحاث العلمية “لعل هذه الهمهمات هي ما تضفي على اللغة تعقيداتها في المقام الأول.” وفي الماضي، كان علماء اللغويات يركزون على اللغة المكتوبة، ويرجع السبب في ذلك بشكل رئيسي إلى أن السجلات التاريخية لم تكن تحوي سوى النصوص المكتوبة، ولكن مع دخول إمكانيات التسجيل الصوتي، بدأ الخبراء يحللون اللغة المنطوقة مثلما يفعلون مع النصوص المكتوبة. عندما شرعوا في تحليل النص المنطوق، وجدوا أنه يحتوي على همهمات مختصرة منتشرة في سياق اللغة اليومية.

ويقول دينجمانس في دراسة أوردتها الدورية العلمية “Annual Review of Linguistics” المعنية بأبحاث وعلوم اللغويات “لقد وجدنا أن تلك الهمهمات تمثل واحدة من كل سبعة ألفاظ ينطقها الإنسان في سياق حديثه، وأن البشر يتلفظون بهذه الأصوات مرة واحدة على الأقل كل 12 ثانية، وبالتالي، من الواضح أننا نحتاج إلى هذه الهمهمات في سياق التعبير اللغوي.”

ويرى دينجمانس أن الكثير من هذه الهمهمات تلعب دورا في الحفاظ على استمرارية الحديث، ويصفها بأنها “صندوق أدوات للتعبير عن الانفعالات والمعاني غير الظاهرة أثناء تبادل الحوار،” ويؤكد “إذا كنت تريد إجراء حوار متواصل، فإن الهمهمة هي الأدوات التي تحتاج إليها، فمن الممكن أن تستخدم لفظة ‘إمممم’ للتعبير عن الفهم، أو اللفظة ‘هه’ لطلب التكرار أو الاسترسال في الحديث على سبيل المثال، ومن جهة أخرى، فإن إغفال تلك الهمهمات قد يترتب عليه عدم توصيل المعاني بالشكل المقصود من المتكلم إلى المتلقي.”

في إطار الدراسة التي شملت 31 لغة حول العالم، وجد دينجمانس وفريقه البحثي أن جميع تلك اللغات تستخدم مقاطع لفظية قصيرة ومحايدة تتشابه مع اللفظة “هه” للتعبير عن الاستدراك على اعتبار أنها سهلة في النطق، وتكفل سرعة توصيل الرسالة اللغوية بين أطراف الحديث. في إطار الدراسة، رصد الباحثون أيضا ما أطلقوا عليه اسم “إيماءات الاسترسال في الحديث” ويقصد بها لفظات أحادية المقطع مثل “إمممم” يستخدمها المستمع لتأكيد اهتمامه أو تركيزه على الحوار الدائر وتنطوي على دعوة ضمنية للمتكلم لمواصلة الحديث، ويؤكد دينجمانس أن الغرض من هذه الإيماءات ليس التأدب فحسب، مشيرا إلى تجربة أجريت قبل سنوات بمشاركة 34 طالبا.

 وفي سياق التجربة تم تقسيم المتطوعين إلى مجموعتين، بحيث يقوم أفراد المجموعة الأولى باستخدام إيماءات الاسترسال أثناء الاستماع إلى قصة يرويها شخص يتكلم، في حين طلب الباحثون من أفراد المجموعة الثانية إحصاء الكلمات التي تبدأ بالحرف التاء التي ينطقها المتكلم أثناء الحديث، وذلك بغرض تشتيت انتباههم حتى لا ينطقوا بنفس الإيماءات أثناء الاستماع للمتكلم. وتبين من التجربة أن عدم تلفظ أفراد المجموعة الثانية بتلك الإيماءات الصوتية ترتب عليه اختلال في صياغة القصة وتوصيل المعنى من المتكلم إلى المتلقي.

تحقيق الطلاقة

◄ الهمهمات أبعد ما تكون عن مجرد أصوات بلا معنى إنها تقوم بدور كبير لضمان الفهم المتبادل بين أطراف الحديث
الهمهمات أبعد ما تكون عن مجرد أصوات بلا معنى إنها تقوم بدور كبير لضمان الفهم المتبادل بين أطراف الحديث

وتقول الباحثة إليسون نجوين، المتخصصة في علم النفس اللغوي بجامعة إلينوي الأميركية، إن اللفظة “إمممم” تشير إلى دعوة المستخدم إلى الاسترسال في الكلام، في حين أن ألفاظ أخرى من مقطع صوتي واحد مثل “ياه” بالإنجليزية مثلا تعكس أن المستمع قد فهم الفحوى من الحوار والوقت قد حان للانتقال إلى معنى آخر.

 وتؤكد في تصريحات لموقع Knowable Magazine أن تلك الهمهمات هي أبعد ما تكون عن مجرد أصوات بدون معنى، بل إنها “تقوم بدور كبير لضمان الفهم المتبادل بين أطراف الحديث.”

◄ الهمهمات لها فائدة كبيرة ويعتقد بعض علماء اللغويات في الوقت الحالي أنها أكثر من مجرد نفايات لغوية

وترى الباحثة مارتينا ويلتشكو، خبيرة اللغويات بمعهد الأبحاث والعلوم المتقدمة في مدينة برشلونة الإسبانية، أن استخدام الهمهمات بالشكل الصحيح ربما يكون هو العنصر الرئيسي لتحقيق عنصر الطلاقة في الحديث بالنسبة إلى من يتعلمون لغة ثانية، رغم أن الكثير من مدرسي اللغات يغفلون عنها.

وتوضح مارتينا في تصريحات لموقع Knowable Magazine قائلة “في اختبارات المحادثة الخاصة بتعلم اللغات الأجنبية، تكون الهمهمة دليلا على الضعف اللغوي والافتقار إلى الطلاقة في الحديث، ولكن الشخص الذي يتحدث لغته الأم يركن إلى تلك الهمهمات في الحقيقة، ويستخدمها بالشكل الصحيح لأنها تساعده على توصيل المعاني التي يقصدها.”

ويختتم الباحث دينجمانس حديثه قائلا إن “استخدام الهمهمات يضفي المزيد من التعقيد والدقة على الحوار والفكر، وأعتقد أنه لولا تلك الألفاظ أو الهمهمة البسيطة، لما كنا سنحصل على نفس التركيبات اللغوية المعقدة التي نستخدمها لتوصيل المقاصد التي نعنيها.”

12