لماذا سكت أبو التاريخ عن ذكر أبوالهول ومن هي أبوالهول الأنثى

كتاب "أبوالهول، تاريخه في ضوء الكشوف الحديثة" يكشف أسرار أشهر أثر مصري.
الأحد 2025/03/02
تمثال يختزن حكايات وأساطير

يعتبر أبوالهول أشهر الآثار المصرية بعد الأهرامات، هذا الأثر الذي مازال منتصبا وحاضرا في مختلف الأعمال الفنية والمخيلات والقصص وهو الذي يزوره السياح من مختلف أنحاء الأرض، قد ارتبطت به العديد من الحكايات والخرافات، بعضها من نسج الخيال وبعضها له جذور تاريخية، بينما ما زلنا لا نعرف عنه الكثير وخاصة عن تأثيره الكبير في الأساطير الغربية.

أبوالهول ذلك التمثال العملاق (الارتفاع: 66 قدما، الطول: 240 قدما، الأذن: 4 أقدام و6 بوصات، الأنف: 5 أقدام و7 بوصات، الفم: 7 أقدام و7 بوصات، العرض الكلي للوجه: 13 قدما و8 بوصات) والذي يربض في مكانه منذ الآلاف من السنين حارسا للصحراء وقاهرا للأعداء ومانحا القوة للحكام والأمراء.. من هو؟ ومن أوجده في هذا المكان من صحراء الجيزة بجوار الأهرامات الثلاثة؟ هل الطبيعة أم أحد الملوك المصريين القدماء؟ وهل له صلة بأم الهول التي اعترضت أوديب ـ في الأساطير الغربية ـ بلُغز أجاب عنه فقتلها؟

كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير يجيب عنها عالم الآثار الدكتور سليم حسن (1886 – 1961) في كتابه الشيق “أبوالهول، تاريخه في ضوء الكشوف الحديثة” ترجمة جمال الدين سالم، ومراجعة د. أحمد محمد بدوي والذي صدر مؤخرا في طبعة جديدة.

أسرار أبوالهول

بداية يوضح المؤلف أن العالم ماسبيرو كان أول من داعبته فكرة العثور على حجرات تحت الأرض وكنز دفين مكان أبوالهول، وكان ذلك عام 1885، كما اعتقد العرب كذلك أن أبوالهول يغطي حجرة تحت الأرض، يتوقعون أنها زاخرة بالكنوز، وقد ذاعت شهرة أبوالهول خلال العهود الفرعونية كمكان للحج، واستمر كذلك حتى نهاية عهد الوثنية (أي إلى القرن الرابع الميلادي) حيث طمرت الرمال أبوالهول حتى عنقه، وبقى كذلك حتى العصور الحديثة.

ويعجب المؤلف من أبي التاريخ هيرودوت الذي زار مصر أيام الاحتلال الفارسي (525 ق.م) ولم يتحدث إطلاقا عن أبوالهول على الرغم من أنه أفاض في حديثه عن الأهرام، وعلى الرغم من وجود أبوالهول في مكانه الحالي إلى جوار تلك الأهرامات منذ منتصف الأسرة الرابعة (حوالي 2900 عام ق.م) مما يؤكد أنه بني في عصر الملك خفرع، بل كان إضافة لاحقة على هرم “خفرع” وملحقاته، وإن لم يكن من الضروري انتماؤه إليها، وأنه بنت إلى جواره دار مقدسة خصصت لعبادة أبوالهول، وأن أبوالهول نفسه غدا رمزا لمصر في عصور تالية، ثم اتخذ درعا واقيا وحارسا ساهرا قويا يلجأ إليه الملوك والأمراء، حيث تظهر فيه رشاقة الأسد وقوته المخيفة بالإضافة إلى القوة العقلية الخلاقة التي خص بها الإنسان.

والمتأمل في أبوالهول الحالي يجد له قاعدة، هي تلك الصخرة الطبيعية التي يربض فوقها، وقد قطعت من الأمام إلى عمق مترين ونصف متر تحت مستوى المخلبين، ويؤكد المؤلف أنه عندما بنى معبد أبوالهول استعملت هذه القاعدة الأمامية أساسا للجدار الغربي في الردهة الكبرى ووسط هذا الجدار الغربي كسوة كبيرة تشغله.

ن

وإذا كان أبوالهول يمثل الذكورة والقوة والحكمة، فإن المؤلف يؤكد أنه وجدت أنثى أبوالهول في مصر منذ زمن بعيد، وقبل أن تطرح أختها الهلينية لغزها المشؤوم (على أوديب) وقد ظهرت عدة أشكال لأنثى أبوالهول على مدى التاريخ منها الطراز المصري الصريح، ويختلف عن ذكر أبوالهول فقط في الرأس الأمرد المؤنث، وربما يمثل إحدى الأمهات من عظام ملكات الأسرة الرابعة.

ويدلل المؤلف على ذلك بقوله “فإذا كان الملك في هذا العهد يمثل بصورة ذكر أبوالهول، فإن ظهور الملكة في هيئة أنثى أبوالهول لأمر جد منطقي.”

ومن الطرز الأخرى لأنثى أبوالهول طراز خاص تبدو فيه مؤثرات سورية أو كنعانية، وله جسم اللبؤة، ولعل هذا الطراز يمثل الآلهة الآسيوية “عشتارت” التي أدخلت عبادتها في مصر على عهد الأسرة الثامنة عشرة، حين كانت مصر على علاقة وثيقة بجاراتها الآسيوية.

أما أبوالهول في العصر الإغريقي الروماني، فقد ظهر في مصر على ثلاثة طرز متميزة منها الطراز المصري الخالص الذي لم يتغير عن شكله الأصلي منذ عهد الدولة القديمة، ثم الطراز الإغريقي الخالص، وهو طراز مؤنث ومجنح في العادة، وبين هذين الطرازين يأتي ثالث “خلاسي” فيه خصائص من الفنين المصري والإغريقي.

أما عن ظهور أبوالهول في آسيا، فيرجعه المؤلف إلى أن الآسيويين نقلوه وأدخلوا عليه بعض التعديلات في شكله أو طبيعته كي ينسجم مع الصورة من عقليتهم وذوقهم الفني. ومن آسيا الصغرى وميسينا انتقل أبوالهول إلى بلاد اليونان حيث تطور إلى طراز خاص دون أن يفقد خواصه التي تنم عن أصله المصري.

ويفسر المؤلف تحول أبوالهول إلى أنثى عند الإغريق بميلهم العنيف إلى الجمال الجسدي، حيث انجذبت فكرة “أبوالهول” إلى طبائعهم العاطفية المحلقة في الخيال، كما راق الجمع بين جمال المرأة وفتوة الأسد لذوقهم الفني، ولعل أبرز أمثلة “أبوالهول” الإغريقي تصويرا هو المارد الذي لعب ذلك الدور المشهور في أسطورة أوديب.

ويذهب المؤلف إلى وجود تأثير مصري في أسطورة أوديب، أو وجود طائفة من عناصر واضح أنها مصرية الأصل، منها فكرة السؤال أو اللغز الذي طرحته أنثى أبوالهول على أوديب وهو “ما هذا الذي يسير على أربع أرجل في الصباح وعلى رجلين في الظهيرة، وعلى ثلاث أرجل عند الغروب، ويبلغ أقصى الضعف عندما تبلغ أقصاها؟”.

ويوضح حسن أن هناك تشعبا كبيرا في التقاليد المصرية، فأبوالهول الإغريقي قد لقي الهزيمة والمهانة على يد أوديب، في حين أن أبوالهول المصري لم يستأنس ولم يهزم قط، ثم يتساءل المؤلف قائلا: فهل يرجع هذا إلى رغبة الأجانب الباطنة في إذلال كبرياء أبوالهول الفاتح أو إلى أن المارد الأنثى، وهي تشترك مع المرأة في صفاتها الجوهرية ينبغي بحكم قانون الطبيعة أن تخضع للرجل؟

المغزى الديني

نظرة عن قرب إلى أشهر آثار مصر
نظرة عن قرب إلى أشهر آثار مصر

أما المغزى الديني للتمثال، فيرجعه المؤلف إلى أن أبوالهول اعتبر إلها للموتى وحارسا لهم، وتلك صفة يجعلها موضعه عند مدخل الجبّانة أمرا مناسبا جدا. وقد ترجع هذه الصفة إلى أن أبوالهول منذ عهد الدولة القديمة قد سوّى بأتوم إله الشمس الغاربة كما ورد في متون الأهرام.

ويعدد حسن أسماء أبوالهول وألقابه، وزيارات الملوك والأمراء له. إذ تعددت أسماؤه وألقابه على مدى التاريخ ومن هذه الأسماء والألقاب التي يذكرها: حورم أخت، وأبوالفزع وهو اسم عربي. كما تعددت زيارات الملوك والأمراء من عصر الأسرة الثامنة عشرة حتى العصر الإغريقي الروماني، إما لغرض الحج الديني أو الرياضة، ومن هؤلاء الملوك والأمراء: الأمير أمنمس ابن الملك تحتمس الأول (حوالي عام 1557 ق.م) ويعتبر أول زائر ملكي لأبوالهول، ثم زاره بعد ذلك أمنحتب الثاني ابن تحتمس الثالث وخليفته، وفي حين يشك المؤلف في زيارة أخناتون لمنطقة أبوالهول، يؤكد زيارة الملك توت عنخ أمون له لغرض الحج والصيد معا.

كما زار رمسيس الثاني بن سيتي الأول أبوالهول وترك أربعة ألواح تذكارية تذكارا لحضوره هناك، وزاره أيضا كل من مرنبتاح الثالث عشر ورمسيس الثالث ورمسيس الرابع ورمسيس السادس، وغيرهم من الملوك والأمراء الفراعنة. وقد تمتع أبوالهول بعد ذلك بشهرة واسعة فزاره بعض أباطرة الرومان الذين توجهوا بزيارتهم من ناحية عن حب استطلاع، ومن ناحية أخرى عن رغبة في الظهور أمام المصريين بمظهر المحافظ على التقاليد الفرعونية وذلك لأغراض سياسية بطبيعة الحال.

وكما عجب المؤلف من أمر هيرودوت في بداية الكتاب حيث سكت عن الحديث عن أبوالهول على الرغم من حديثه عن الأهرام، ويأخذه العجب أيضا في نهاية الكتاب فيقول “لقد سكت ذلك الثرثار العجوز هيرودوت عن ذلك الموضوع، ولم يكن محتملا يومئذ أن يكون مطمورا بالرمال تماما في أيامه، إذ كان لا يزال محتفظا بكهنته، ولكن الظاهر أنه لم يعد في نظر التراجمة الذين صحبوا هيرودوت ذات أهمية كبيرة، إذ واضح أنه لم ير هذا الأثر”.

ويكرر المؤلف أسفه قائلا “مما يؤسف له أن أبا التاريخ قد سكت عن هذا الموضوع فلقد كان شيقا أن نعرف رأيه في ذلك الأثر الفريد، وما كان عساه أن يروي من قصة أو ملحة أو غير ذلك عنه.”

أبوالهول في الأدب

Thumbnail

لقد كُتب شعر كثير في أبوالهول، كما ورد ذكره في الكثير من قصائد الشعراء المصريين والعرب، وحري بأحد الدارسين أو الباحثين أن يلجأ إلى عمل دراسة أدبية عن ذكر أبوالهول في الشعر العربي.

غير أننا نتذكر في هذا الصدد قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي في أبوالهول التي يقول فيها:

أَبا الهَولِ طالَ عَلَيكَ العُصُر ** وَبُلِّغتَ في الأَرضِ أَقصى العُمُر

فَيالِدَةَ الدَهرِ لا الدَهرُ شَبَّ ** وَلا أَنتَ جاوَزتَ حَدَّ الصِغَر

إِلامَ رُكوبُكَ مَتنَ الرِمالِ ** لِطَيِّ الأَصيلِ وَجَوبِ السَحَر

تُسافِرُ مُنتَقِلاً في القُرونِ ** فَأَيّانَ تُلقي غُبارَ السَفَر

أبوالهول نفسه غدا رمزا لمصر في عصور تالية، ثم اتخذ درعا واقيا وحارسا ساهرا قويا يلجأ إليه الملوك

أَبَينَكَ عَهدٌ وَبَينَ الجِبالِ ** تَزولانِ في المَوعِدِ المُنتَظَر

أَبا الهَولِ ماذا وَراءَ البَقاءِ ** إِذا ما تَطاوَلَ غَيرُ الضَجَر

ثم يقول:

أَبا الهَولِ ما أَنتَ في المُعضِلاتِ ** لَقَد ضَلَّتِ السُبلَ فيكَ الفِكَر

تَحَيَّرَتِ البَدوُ ماذا تَكونُ ** وَضَلَّت بِوادي الظُنونِ الحَضَر

فَكُنتَ لَهُم صورَةَ العُنفُوانِ ** وَكُنتَ مِثالَ الحِجى وَالبَصَر

وَسِرُّكَ في حُجبِهِ كُلَّما ** أَطَلَّت عَلَيهِ الظُنونُ اِستَتَر

ونختتم عرضنا هذا لكتاب “أبوالهول: تاريخه في ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة” الذي وقع في 208 صفحات بجزء من قصيدة وجدت على منقوشة على قطعة من الحجر الجيري بالقرب من أبوالهول، وهي قصيدة تصور رؤى من الأعياد والمآدب المرحة التي كانت تقام عند أبوالهول، والتي كانت تستمر أحيانا طوال الليل، وما أشبه هذا بيومنا إذ تغري ليلة قمراء فريقا من المتنزهين بمنطقة أبوالهول، وإذا بسكون الصحراء يتمزق تارة أخرى بأصوات الضحك والغناء حيث يهيم العشاق من الشباب يدا في يد حول الأهرام.

في الجزء المكتشف من تلك القصيدة مجهولة المؤلف، نقرأ هذه السطور:

تلك جدران طيبة التي أقامتها الملهمات

ولكن الجدار الذي لي لا يخشى الحرب

إذا كان أبوالهول يمثل الذكورة والقوة والحكمة، فإن المؤلف يؤكد أنه وجدت أنثى أبوالهول في مصر قديما

فإنها لا تعرف تخريب العدو ولا النحيب

بل تنعم دائما بالأعياد والمآدب

وجوقات الشباب الذي يتجمع من كل مكان

فنستمتع بالناي، لا بأبواق الحروب

وإنما الدم الذي يروي الأرض لمن الأضاحي من الثيران

لا من المطعون من حلوق الرجال

إن زينتنا من ملابس العيد لا من دروع القتال

ولا تقبض أيدينا على السيوف

وإنما على كأس الأخوة في المأدبة

وفي طوال الليل حين تحترق الأضاحي

إذ تنشد الأهازيج لحرماخيس ورؤوسنا مزينة بالأكاليل.

وتؤكد القصيدة قيمة السلام الذي يحلم به الإنسان في كل عصر وكل مكان. وليس غريبا أن تنبع هذه القيمة من فم أبوالهول الذي يربض في مكانه منذ الآلاف من السنين، حارسا للصحراء، وقاهرا للأعداء، ومانحا القوة والسلام والحكمة للحكام والأمراء.

10