مبارك تيماري يعيد تركيب الوجود المعاصر في شبكات صباغية – رقمية

اختبار للزمن يتجاوز الحدود التقليدية للحامل الفني معيدا تكوين المعاني.
الاثنين 2025/02/10
محاكاة للوجود المعاصر

يشتبك الفنان التشكيلي مبارك تيماري مع الواقع، فيتحول إلى جزء من الصراعات والانكسارات، ومن الوجود باختلاف أزمنته، يقرأه بتمعن ويعيد تشكيله من جديد في أعمال فنية معاصرة تقترح على المتلقي تجربة جمالية فريدة تستفزه ليعيد اكتشاف علاقته بالصورة وبالزمن، وفي مرحلة أولى علاقته بنفسه.

لا يبدو العمل التجهيزي التي أنجزه الفنان مبارك تيماري مجرد انعكاس بصري لفكرة محددة، بل هو زخم من التوترات، ارتطام بين القيم، اصطدام بين المعرفة والجهل، بين العقلانية والانفعال، بين صوت الفن وصخب الأيديولوجيا. ثمة شيء ينبض داخل العمل، شيء أشبه بارتجاجٍ داخلي، كأن المادة نفسها تتململ، تحاول الانعتاق من ثقل الأزمنة ومن الأيديولوجيات المتكلسة. لا يمكن التعامل مع هذه الأعمال كأشكال ثابتة، بل يجب النظر إليها بوصفها طاقات تتفجر، تتموج بين مستويات الإدراك وتدعونا للتفكير في علاقتنا بالمعرفة، بالكرامة وبالسلطة، بالذات والآخر.

ليس العمل الفني الذي يعود إنجازه للعام 2015 هنا مجرد تمثيل لحالة اجتماعية أو سياسية، إنه أكثر من ذلك، إنه بنيان فلسفي يحاكي تحولات الوجود الإنساني المعاصر، حيث تنهار البنى القديمة، وحيث يتحول الصراخ إلى مجرد ترددات فارغة، حيث تصبح اللغة -الرقمية، التي تأسرنا اليوم، خاصة- نفسها مجالا للصراع، وحيث تتوارى الحقيقة خلف أستار الدعاية والأوهام الجماعية.

في هذا المشهد، يبدو العمل وكأنه نبوءة، ليس بالمعنى الديني بل بالمعنى الفلسفي للحدس العميق. نبوءة تستشرف المستقبل لا عبر استرجاع الماضي، بل عبر تفكيكه وتجريده من زخارفه، واختراق طبقاته المتراكمة، والقبض على جوهره المتحول. وما يجعل هذا العمل يتجاوز لحظته التاريخية هو قدرته على إزاحة مركز الإدراك، وعلى زعزعة يقينيات المتلقي، وجعله يتساءل عمّا يراه: هل نحن أمام احتجاج صامت أم أمام نقد جمالي؟ هل هذه التكوينات بقايا أزمنة منهارة أم إشارات إلى مستقبل مجهول؟ فالأعمال التي تثير الرفض والجدل لا تفعل ذلك لأنها تفتقر إلى الجمال، بل لأنها تعيد تعريف معايير الفن ذاته، تجرّده من كليشيهاته وتجبر المتلقي على اتخاذ موقف، ليس فقط تجاه العمل بل تجاه العالم الذي يعيشه.

وأما الفنانون الذين يتحدون القيم السائدة فيدركون أن السلطة الرمزية ليست جامدة، بل متحولة، تتأرجح بين القبول والرفض، بين الشرعية والهامشية. يرى إيف ميشو أن الفن لم يعد مساحة للتأمل الهادئ بقدر ما أصبح ساحة للصراع، حيث تتداخل الأيديولوجيات، وحيث يصبح الجمال نفسه محل نزاع وتتحول المؤسسات الفنية إلى مختبرات لإعادة إنتاج السلطة الثقافية. لكن، هل يمكن للفن أن يكون مستقلا عن هذه الصراعات؟ أم أنه محكوم بأن يكون طرفا فيها؟ ومن ثم فإن تراكب الصور والألوان والخامات في هذه الأعمال لا يبدو مجرد تلاعب بصري، بل هو تفكيك لمفاهيم الاستقرار والوضوح، وهو دعوة للخروج من الراحة الإدراكية نحو منطقة القلق، حيث لا شيء محسوم، وحيث يصبح السؤال أهم من الإجابة، وحيث ينكشف الفن ليس كمجرد موضوع جمالي بل كفعل مقاومة، وكأداة لتفكيك الخطاب السائد وسلاحا ضد اختزال الوجود في شعارات جاهزة أو تصنيفات دوغمائية.

في نهاية المطاف، هذه الأعمال لا تطرح إجابات، بل تفتح مساحات للتأمل، تدفعنا للتساؤل: هل يمكننا أن نرى الفن بمعزل عن السلطة؟ أم أن الفن هو الوجه الآخر لها، الوجه الذي يفضحها بقدر ما يستعير أدواتها؟

إعادة هندسة الخيال

في فضاء يتأرجح بين الضوء المتقطع والظلال الإلكترونية، ينكشف العمل التركيبي، لمبارك تيماري، كنسيج من الأزمنة المتراكبة، حيث تتشابك اللوحة والشاشات والأدوات الإلكترونية في تفاعل غامض، أقرب إلى طيف من الترددات غير المنظورة. هنا، حيث تنبعث اللمعان الرقمي في حضور اللوحة، لا يعود المشهد مجرد تجاور بين المادي والافتراضي، بل هو تشظٍّ في إدراكنا ذاته، في علاقتنا بالصورة، في حدود العين التي لم تعد تملك يقينا في ما تراه. كل شيء هنا معلّق في انزياح زمني، كأن الذاكرة البصرية تُعاد تشكيلها لحظة بلحظة، تسقط في شبكة من التداخلات التي لا بداية لها ولا نهاية، كأن العمل ذاته يولد من داخله، يعيد اختراع لحظته في كل آن.

◄ ما يجعل هذا العمل يتجاوز لحظته التاريخية هو قدرته على زعزعة يقينيات المتلقي وجعله يتساءل عمّا يراه

هناك شيء ما في هذا الترتيب الذي يقاوم الاستقرار، كأن العناصر تنتمي إلى نظام لا يمكن القبض عليه، كأنها أجزاء من زمن مستقبلي تسرب إلى الحاضر. اللوحة، بملمسها التقليدي، تبدو كذكرى عالقة في تدفق رقمي، كأثر يحاول أن يظل قائمًا في عالم لم يعد يعترف بالأصل، كأنها تصرخ بتكتّم في وجه تلاشي المعنى، في وجه الصور التي تتكاثر دون ذاكرة، دون مرجعية، ودون بداية، لكن أي معنى يمكن أن يكون ثابتا أمام هذه التداخلات؟ أي يقين يمكن أن يصمد في وجه شاشة تلمع وتنطفئ، تفتح نافذة ثم تغلقها، تمنح صورة ثم تمحوها؟ هنا، حيث تلتقي العين بأثر الضوء، يصبح الإدراك ذاته مسألة شك، وتجربة متوترة بين ما يلمع للحظة وما يختفي في الفراغ الرقمي، إذ إن هذا العمل التركيبي الذي يجمع بين اللوحة وشاشات الحاسوب والأدوات الإلكترونية لا يمكن تأويله ضمن تقاليد الفن الكلاسيكي أو حتى الحداثي، بل هو انبثاق لمفهوم ما بعد الحداثة، حيث تصبح الوسائط المتعددة أداة لإعادة تشكيل المعنى، وحيث لا يعود هناك مركز ثابت للفن أو السلطة الجمالية.

في هذا السياق، يمكن استدعاء أطروحات فيليكس غوتاري حول “الآلات الذاتية”، حيث يرى أن التكنولوجيا ليست مجرد وسيط محايد بل هي جزء من البنية الإدراكية للفنان والمتلقي على حد سواء، إذ تؤثر على طريقة تكوين المعنى وتحوله عبر الزمن.

وهل هذه الشاشات مجرد واجهات لعرض الصور، أم أنها تؤدي دورًا أعمق، دورًا يكشف عن تلك الهيمنة الخفية التي لم تعد تحتاج إلى أدوات القمع القديمة، بل تكتفي بالوميض، بالسرعة، بالتكرار الذي يمحو كل اختلاف؟ كأنها تسلبنا القدرة على النظر بعمق، تحوّل الإدراك إلى سلسلة من الالتقاطات العابرة، كأننا أمام زمن لم يعد يمنحنا فرصة للتأمل، بل يفرض علينا أن نكون دائمًا في عجلة، دائمًا على السطح، دائمًا أمام صور لا تملك سوى وهجها الزائل.

هنا، حيث يتردد الضوء بين الظهور والغياب، يصبح المشاهد ذاته جزءًا من العمل، متورطًا في هذا التدفق، محاصرًا في لعبة الإدراك المتحول، في لحظة لم تعد ملكا له، بل أصبحت جزءًا من نظام يملي عليه كيف يرى، متى يرى، وما الذي يمكن أن يراه؟ لكن ماذا عن تلك الأدوات الإلكترونية المتناثرة، عن تلك الشظايا التقنية التي لا تنتمي إلى عالم الفن التقليدي، بل تبدو كأشياء مقتطعة من مختبر، من مصنع، من مكان حيث تكون الآلة هي السلطة الوحيدة؟ هل هي مجرد عناصر وظيفية، أم أنها تحمل دلالات أبعد؟ دلالات تشير إلى ذلك التواطؤ بين الإنسان والتكنولوجيا، إلى تلك العلاقة المعقدة حيث لم يعد من الممكن التمييز بين الفاعل والمفعول به، بين من يصنع ومن يُصنع؟ كأننا لم نعد نسيطر على أدواتنا، بل أصبحت هي التي تشكل وعينا، وتحدد مساحات تفكيرنا، وتعيد هندسة خيالاتنا وفق منطق لم نعد نملك القدرة على مراجعته أو موازنته.

تكاد تصير الإجابة عن هذه الاشكاليات في كون الشاشات، بتقلباتها الضوئية، لا تمثل فقط امتدادًا للنظر، بل تعيد تشكيله، تُدخلنا في منطق الزمن المتشظي، حيث يصبح الإدراك متقطعًا، مرتبطًا بالسرعة والتكرار والتداخل. هنا، يمكن للمرء أن يرى أثر التفكيكية كما صاغها جاك دريدا، حيث تتحول العلامات البصرية إلى شفرات لا تستقر على معنى واحد، بل تتلاعب بالدلالات، وتفكك الاستقرار الإدراكي، وتجعل التجربة البصرية تجربة عدم يقين مستمر. لكن، في المقابل، قد نجد في هذا التكوين تلميحًا إلى مفهوم “جماليات الاختفاء” كما اقترحه بول فيريليو، حيث تصبح الصورة الرقمية ليست مجرد نافذة على الواقع، بل هي أداة لمحو الواقع نفسه واستبداله بصور مستنسخة، متراكمة، زائلة في آنٍ واحد.

هل هذا العمل الفني مجرد انعكاس لما يجري في العالم، أم أنه محاولة لاختراق هذا النظام، لتعرية تلك الآليات التي تصوغ وعينا دون أن نشعر؟ هل هو تمرد أم استسلام؟ هل يفضح زيف الصور أم أنه يعيد إنتاجها بطريقة أخرى؟

في هذا الاشتباك بين المادي والرقمي، بين اللوحة والشاشة، بين أثر اليد ولمعة البيكسل، نجد أنفسنا أمام مشهد يعيد ترتيب علاقتنا بالفن، بالإدراك، وبالحقيقة ذاتها. لا شيء هنا واضح، لا شيء يمنحنا إجابة، بل كل شيء يتركنا معلّقين في أسئلة لا تجد مستقَرًّا، في مساحة من التشظي حيث لا يقين، حيث كل صورة هي احتمال، وكل ضوء هو وعد بالاختفاء. ربما في هذا التوتر، في هذا الارتباك، يكمن جوهر العمل. ليس كإجابة، بل كدعوة إلى التيه، كتحريض على القلق، كتذكير بأننا نعيش في عالم لم يعد يعترف بالمطلق، بل يراكم الاحتمالات، يبدل المعاني، يعيد تشكيل الواقع ليكون قابلا للمسح، قابلا للاستبدال، قابلا لأن يكون شيئًا آخر في اللحظة التالية. العمل لا يعطينا شيئا، لكنه يسلبنا تلك الراحة القديمة، يجبرنا على أن نعيد النظر، أن نعيد التفكير، أن نعيد اكتشاف علاقتنا بالصورة، بالتكنولوجيا، بالزمن، وبأنفسنا.

الفن بوصفه شبكة

◄ نسيج من الأزمنة المتراكبة حيث تتشابك اللوحة والشاشات والأدوات الإلكترونية في تفاعل أقرب إلى طيف من الترددات غير المنظورة

هناك الأدوات الإلكترونية، التي أدرجها الفنان تيماري، وهي ليست مجرد عناصر تكميلية، بل تمثل بنية تحتية خفية تتيح للعمل أن يتنفس ويتفاعل مع الزمن. نحن هنا أمام رؤية يمكن مقارنتها بمفهوم “الفن بعدّه شبكة” الذي تطور في نظريات الفن الرقمي، حيث يصبح الفن ليس شيئًا منعزلا في إطار أو منحوتة، بل هو نظام متشابك من العلامات والتفاعلات.

بهذا، يمكن قراءة العمل على ضوء تصور إيف ميشو حول “جمالية السيولة”، حيث لم يعد الفن شيئا ثابتا بل هو عملية متغيرة، ومتدفقة، تتجاوز الحدود التقليدية للحامل الفني، لتصبح نوعا من الوجود الافتراضي الذي يتجلى في اللحظة التي يُختبر فيها.

إنه عمل يختبر حدود الزمن، حيث تندمج الذاكرة البصرية للوحة مع الحضور الفوري للشاشة، حيث تتحول التقنية إلى وسيط مزدوج: فهي تمنح الحضور بقدر ما تؤسس للغياب. وهو بذلك يضع المتلقي أمام سؤال جمالي: هل نحن نشاهد الفن أم أننا محاصرون في نظام من التكرار الرقمي الذي يفقد كل شيء تفرده؟ وهل يمكن للفن أن يظل مقاومًا في ظل هذا التلاشي المستمر، أم أنه بات جزءًا من تدفق الصور الذي يصنع لنا إدراكنا للواقع؟

إن هذا العمل التركيبي، الذي يقترحه مبارك تيماري، ليس مجرد تعليق على الراهن، بل هو انغماس فيه، واشتباك مع الأزمنة المتداخلة، حيث لا يعود هناك فرق واضح بين الحقيقي والافتراضي، بين الجمالي والسياسي، بين الفن بوصفه ممارسة نقدية والفن بوصفه عملية استهلاك متواصل. إنه، بتعبير آخر، استدعاء للفن إلى عصره، لا ليكون شاهدًا عليه فحسب، بل ليكون جزءًا من صراعه، من توتره، من انكساراته التي لم تعد مجرد مشاهد، بل باتت هي جوهر التجربة الجمالية نفسها.

◄ طاقات تتفجر على أسطح الأعمال الفنية
طاقات تتفجر على أسطح الأعمال الفنية

 

14