مصر بلد الملايين من الفتاوى تحتاج إلى وقفة سياسية

الناس ارتهنوا في حركاتهم وسكناتهم وقراراتهم ولفتاتهم ونظراتهم إلى مفتين ألبسوا الإسلام أردية لا تخصه وقوّلوا النص الديني ما لم يقله واستحضروا روايات مزورة لا تتسق مع مبادئ القرآن العظيم.
السبت 2025/02/08
وضع ظاهره التدين وباطنه التكلس

كشفت أحدث إحصائية رسمية صادرة عن مؤسستي الأزهر ودار الإفتاء بمصر إصدار ما يقارب ثلاثة ملايين ونصف مليون فتوى سنويًا، وهو ما يعبّر عن كارثة قد لا تدري الحكومة تبعاتها.

فهل بتنا أمام الملايين من العقول الاتكالية غير القادرة على فعل شيء وتترك عملا إلا بتوجيه من فقيه؟ وهل تعني الأرقام المعلنة أن العقل الجمعي في مصر توقف عن النشاط مكتفيًا بالعلم بما يقوى المفتون الدينيون على حفظه واستذكاره من نصوص التراث ليجمد المجموع على وضع بائس ظاهره التدين والطهورية وباطنه الجمود والتكلس؟

من دون حد ثقافي سياسي يُوضع لفكرة الترويج للفتاوى الدينية في كل صغيرة وكبيرة، فإن الجمود سيكون أساس الحياة، لأن الغرق في مشاغل التراث وربط كل تفاصيل الحياة بالماضي وما أفتى به القدماء والمحدثون يقود إلى كف العقل عن الابتكار، وربما يكفّ عن أن يكون عقلًا.

هناك سير في الاتجاه المعكوس، وبدلًا من الفخر بغزارة المنجزات العلمية والمشاريع النهضوية والمنافسة في ميدان الابتكار الفردي والبحث العلمي، يحصل الفخر بغزارة توليد الفتاوى الدينية لجلب الشعور الوهمي بالنقاء.

بلد الثلاثة ملايين ونصف مليون فتوى سنويًا يحتاج إلى وقفة، وما لم ترسم حدودًا يتكشف فيها مجالُ الدين وحدوده ومجالُ الدنيوي وحدوده، سوف تتوارى تدريجيًا الصورة المعروفة عنها، كون المصريين أكثر الشعوب التصاقًا بفكرة أن الله محبة

يجسد هذا الاتجاه الفجوة الهائلة بين الغرب ومجتمعات العرب والمسلمين، حيث هناك واقع أنعش التفكير النقدي وجدد في العلم كما تميز في غزارة الإنتاج المعرفي، فيما غرق الملايين من المصريين والعرب في الملايين من الفتاوى ما يعني الحنين إلى الماضي بلا شعور ملموس بالنقص، واكتفت الأقلية ممن تشعر بالنقص على وقع صدمات التفوق الغربي بإسقاط بعض الاكتشافات العلمية التي أنجزها الغربيون على النص الديني.

يسير الملايين داخل بعض المجتمعات في دائرة مفرغة بلا تحقيق تقدم، وهذا هو المعنى الحرفي للجمود، إذ يتوهمون الحركة بينما هم لا يبرحون مكانهم، إلى درجة أن ذروة ما وصل إليه بعض مفتيهم (وهو الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره الجواهر) الاكتفاء بمقولة تخديرية موصوفة لمنع الشعور بالنقص حيال تقدم الغربيين الهائل مفادها أن ما توصلوا إليه في الغرب مذكور في كتبنا المقدسة.

أدى فائض الفتاوى إلى ابتلاع المقدس الدنيوي فاحتجب عقل الإنسان العربي والمسلم ودخل في حالة سُبات، وخفتت مظاهر الحياة الحقيقية، بسبب ارتهان الناس في حركاتهم وسكناتهم وقراراتهم ولفتاتهم ونظراتهم إلى مفتين ألبسوا الإسلام أردية لا تخصه وقوّلوا النص الديني ما لم يقله واستحضروا روايات مزورة لا تتسق مع مبادئ القرآن العظيم، فضاعت الحدود بين ما هو دنيوي ومقدس، وهُمّشت أدوار المفكرين والمخترعين.

ما يجري وما وثقته إحصائية المؤسستين الدينيتين الرئيسيتين بمصر أشبه بعاصفة رملية ردمت جزءًا كبيرًا مما كان قائمًا خلال عقود سالفة وأحيت نظرة مختلفة للدين والحياة وغيرت شكل المجتمع بشكل جذري وصولًا إلى التحكم والهيمنة الفوقية على أدق التفاصيل والعادات اليومية من مأكل وملبس وعلاقات وخلق نمط حياة كامل.

وصاغ إدخال الدين بفتاوى تراثية في المجال الدنيوي الواسع رؤية مغلوطة، لا تثق في مجملها بقدرات الإنسان، وتؤكد نقصه وقصوره وحاجته إلى من يبين له الطريق الصحيح ويحذّره من الشرور والأخطاء والآثام، وهو ما لم يستفد منه سوى رجال الدين بزيادة سلطتهم.

فككت فكرة أن كل شيء ينتظر الإفتاء الكثير من جوانب العلاقات المجتمعية، وبترت علاقات الدماء والنسب بسبب فتاوى الاختلاط وحدها، دافعة بنات العائلات أحيانا إلى عدم إلقاء التحية على أقاربهن من أبناء العمة والخالة تحت زعم خوف الفتنة، وحصر العلاقات الأسرية بالنساء بين بعضهن على جانب، والرجال على جانب آخر، ولا يكاد أحدهما يعلم شيئًا عن الآخر، فتحولت بعض (الأحياء) الشعبية التي كانت تضج بالحياة والبهجة إلى ما يشبه “غيتوهات” مهجورة.

تدهور حال المسلمين عقب انصرافهم عن العلوم وتحريمهم الفكر النقدي والفلسفة بالتوازي مع الارتهان لرجل الدين وصكوك غفران إسلامية، مقابل تحرك الأوروبيين صوب المدنية والتحضر والثراء المعرفي والحضاري بأخذهم ما انصرف عنه المسلمون وأهملوه

أيّ بلد في العالم يُحكم أو يُدار ويُسيّر بهذه الطريقة، يعيش حالة تناقض مع الفهم الصحيح للإسلام، حيث أكدت آيات القرآن الحكيم أن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله ويمتلك إرادة حرة وقادر على إدراك الأشياء والحقائق بما في ذلك معرفة الخير والشر والحق والباطل والحسن والقبيح.

ويتناقض السير تحت سطوة الفتوى والتحكم الدقيق للفقيه مع مناشدة القرآن الكريم العقل وطلبه الاحتكام إليه، وتحفيزه للتأمل والبحث ليستدل الإنسان ببديع الصنع على الصانع، وليتعلم ويبتكر وينتفع بما خلق الله، وما أودع في الكون من قوى وأسرار.

أستغرب هذا التوسع في الإفتاء، فيما حرص القرآن الحكيم على تقليصه وتحجيمه، وبعد أن حرّم الله الشرور والخبائث والمفاسد والموبقات الضارة بالإنسان نفسيًا وعقليًا وجسديًا واجتماعيًا واقتصاديًا بشكل مبين واضح لكل ذي عقل، أنكر القرآن الكريم على من ينصّبون أنفسهم مفتين يحرّمون طيبات ما أحل الله ويقولون هذا حلال وهذا حرام ليفتروا على الله الكذب.

في الإسلام الصحيح لم يكلف الله رسولًا أو نبيًا أو من دونه أن يكون وصيًا بالنيابة عن الله في عقائد عباده وعباداتهم، وكل ما أُوحي إلى الرسول من ربه آيات بينات لم يُخوّل الله الرسول أن يأتي بأقوال من عنده نيابة عن الله أو يدّعي علم الغيب، ولا ينفع المسلم يوم القيامة إلا عمله بناء عن إرادة حرة بلا شفيع ولا وسيط.

تفسر التبادلية التاريخية في المراكز الحضارية بين الشرق والغرب جوهر المعضلة وتحدد مكمن الخلل وهو الاعتماد على رجل الدين من عدمه، حيث ازدهر المسلمون في كنف العباسيين، مقابل ظلمة وتخبط الأوروبيين تحت وطأة جمود الفكر الكنسي وصكوك الغفران.

وتدهور حال المسلمين عقب انصرافهم عن العلوم وتحريمهم الفكر النقدي والفلسفة بالتوازي مع الارتهان لرجل الدين وصكوك غفران إسلامية، مقابل تحرك الأوروبيين صوب المدنية والتحضر والثراء المعرفي والحضاري بأخذهم ما انصرف عنه المسلمون وأهملوه.

تغير الغرب بشكل كبير ونهضت أوروبا وحققت تقدمًا مذهلًا والسبب النظرة إلى المبتكرين والمخترعين وعلماء الشأن الدنيوي وقادة الفكر والفلاسفة باعتبارهم القوى الدافعة لعجلة التاريخ صوب التقدم وجعلهم في صدارة المشهد، مع تربية أجيال لديها قدرة على التفكير الحر المستقل وتتمتع بالحس النقدي والقدرة على حل المشكلات والابتكار، بينما سار العرب والمسلمون في الطريق العكسي.

أيّ بلد في العالم يُحكم أو يُدار ويُسيّر بهذه الطريقة، يعيش حالة تناقض مع الفهم الصحيح للإسلام، حيث أكدت آيات القرآن الحكيم أن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله ويمتلك إرادة حرة وقادر على إدراك الأشياء

تاريخ التحول ليس قريبًا، ففي الطبعة التي صدرت لكتاب اعترافات جان جاك روسو بعد وفاته بعامين عام 1780 وضع الناشر على الغلاف صورة يظهر فيها روسو جالسًا وراء مكتبه وخلفه منظر ريفي، وعلى مكتبه مجلدان يلخصان ثقافة العصر آنذاك. الأول كتاب “مبحث في الفهم الإنساني” لجون لوك، والثاني كتاب “المبادئ الرياضية” لإسحق نيوتن الذي أوصى بمنحه البيعة الصادقة.

ثمة مشكلة نفسية واجتماعية في مصر على مستوى المجتمع تنبغي معالجتها قبل الدخول في تفاصيل أخرى؛ لأنه على مستوى العقل يتمتع المصريون بالذكاء وقدموا للعالم كبار الفلاسفة والمفكرين والمصلحين والمجددين والمبدعين ودهاة السياسة، أي يمتلكون بلا شك العقل الحصيف الذي يميز بين الخير والشر، والشريعة تنزل لطفًا من الله بالبشر بما يقره العقل وهو مناط كون الإنسان مسؤولًا عن أفعاله.

كيف يتركون إذن طريق المسؤولية والإرادة الحرة وإعلاء شأنهم بالتفكير العقلي والفهم السلس والحر للدين باعتباره قضية تخص الجميع، ويقذفون بأنفسهم في متاهات الملايين من الفتاوى، إن لم يكونوا واقعين تحت سطوة إكراهات نفسية واجتماعية عميقة ومتوارثة.

يحتاج بلد الثلاثة ملايين ونصف مليون فتوى سنويًا إلى وقفة، وما لم ترسم حدودًا يتكشف فيها مجالُ الدين وحدوده ومجالُ الدنيوي وحدوده، سوف تتوارى تدريجيًا الصورة المعروفة عنها، كون المصريين أكثر الشعوب التصاقًا بفكرة أن الله محبة وأن الذي يزيد الإنسان مكانة عند الله أخلاقه وتعاملاته وعطاؤه ونضاله في الخير من أجل الفقير واليتيم والضعيف والجائع والمشرد والمريض والعاجز والمحتاج والإنسان عمومًا.

هل يتجه المصريون وفقًا لتلك الإحصائيات والمشاغل إلى التنطع والتكلف والمظهرية والطقوسية، وهل يديرون ظهورهم لقيم نجدتهم وخفة ظلهم وحبهم للحياة وللناس ولله على طريقتهم الخاصة، وهم حريصون أن يكونوا في المكان الذي يتوقعهم الناس فيه لمساعدتهم وإسعادهم دون انتظار مقابل، ويستبدلون ذلك بنسخة سهلة لا تشعرهم بالارتباط بدينهم إلا بتوقيع من المفتين؟

8