تبون والسينما: نظرة الحالم

تكاثرت المهرجانات السينمائية في السنوات الأربع الأخيرة دون أن تلمع النتائج والأهداف أو تبهر لتبرير هذا الكم الهائل من الإمكانيات المادية التي رصدتها الدولة من أجل تحسين المشهد.
السبت 2025/02/01
مخرج حاز السعفة الذهبية لـ"فيلم يمجد الاستعمار الفرنسي"

لا يكاد الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون يتوقف منذ توليه الحكم عن التنبيه إلى ضرورة إيلاء السينما الاهتمام اللائق بها على رأس الأولويات الثقافية. نبع هذا الاهتمام من شغفه الدائم بالسينما، مثلما يردد عارفوه عن قرب. ومن خلال بعض المعلومات الشحيحة، يقال إنه ينفرد، على فترات متقطعة، في مكان قصي مع حلقة ضيقة من أصدقائه، للتمتع ببعض روائع السينما العالمية، خاصة في سنوات ازدهارها، وأفلام الأبيض والأسود.

وهو، إن صحت المعلومات، لا يشترك في هذا الشغف مع رؤساء الجزائر الذين نجهل ميولهم الثقافية، إلا ما رشح عن ولع الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بالكتب والقراءة، أو امتلاك زوجة الرئيس هواري بومدين قاعة سينما، وإن كان هذا يلمح إلى اهتمامه بالسينما. وتحدثت بعض الوقائع عن رؤية خاصة كان يتمتع بها الأخير، ودللوا على ذلك بتوجيهه نقدا لاذعا لمخرج فيلم “وقائع سنين الجمر” لخضر حمينا، بعد حصوله على جائزة السعفة الذهبية، قائلا “لقد صنعت فيلما يمجد الاستعمار الفرنسي.”

ولا نعرف إطلاقا عن باقي الرؤساء أي شيء ذي بال حول رؤيتهم للثقافة عموما، وللسينما خصوصا، يجعلنا نكوّن صورة أو فكرة عن همومهم في هذا المجال.

صحيح أن هناك نجاحات مبشرة يشار إليها في خضم كل هذا، حتى لا نغفل الحقوق أو نتحامل أو ننكر. ولكن، بالنظر إلى ما سخرته الدولة من إمكانيات هائلة لهذا القطاع، ظل الخلل هو هو، وتراكمت الأعطاب،

بلغ ميل الرئيس تبون إلى السينما أن قعد لها، أثناء عهدته الأولى، كاتب دولة مكلفا بالصناعة السينماتوغرافية، ترأسها ممثل تلفزيوني، غير أنه فشل في الارتقاء بهذا الفن. وأرجع المهتمون ذلك إلى ضعف الرؤية، وغياب الإستراتيجية، وهزال الفكرة للقائم عليها، وتمّ إلغاؤها فيما بعد.

زاد تركيزه على المجال السينمائي مع رغبته في رؤية فيلم عن الأمير عبدالقادر، رصدت له منذ عهد الرئيس بوتفليقة ميزانيات كبرى، وأنشأ له تبون، فيما بعد، مؤسسة عمومية سميت “الجزائري لإنتاج وتوزيع واستغلال فيلم سينمائي عن الأمير عبدالقادر”، غير أنها ذهبت أدراج الرياح لأسباب بعضها غامض، وبعضها معروف، حيث جال وصال مسؤولو المؤسسة أكثر من مرة في عواصم العالم، خاصة الولايات المتحدة، للبحث عن مخرج عالمي وممثلين وفنيين، دون أن يتلمس المشروع طريقه إلى النور. ورددت الألسن في الخفاء أن هؤلاء بعثروا الأموال بشكل مريب هنا وهناك، بلا فائدة.

تعقد المجال السينمائي في الجزائر، ولم يعد بذلك الوهج والسمعة التي كان عليها في الماضي، وصعدت ميزانية الثقافة في عهد الوزيرة السابقة خليدة تومي وارتفعت بشكل ملحوظ، وكان لها أثر كبير على الكثير من المنتجين، الذين تهافتوا على الريع، ودق باب الوزارة الجميع. وأفرزت الساحة السمين والغث، بعضهم اختفى ولم يعد له أثر، وقلة منهم صمدت، وما زال آخرون يدورون في أروقة الوزارة علهم يظفرون بنصيب من الدعم الذي أصبح يقطر ببطء شديد من فم الصندوق المخصص للسينما.

تكاثرت المهرجانات السينمائية، خاصة في السنوات الأربع الأخيرة، دون أن تلمع النتائج والأهداف أو تبهر لتبرير هذا الكم الهائل من الإمكانيات المادية واللوجستية التي رصدتها الدولة من أجل تحسين المشهد. وعمدت وزارة الثقافة إلى التخطيط والتقنين والتشريع، ومهدت الأرضية لتلائم طموحات العاملين في هذا المجال. وتكررت الجلسات تلو الجلسات، ورفعت التقارير، وتحدث وخاض من خاض من أجل أن تتحرك الأمور من الانكماش إلى التمدد والانفتاح والبروز اللافت.

بدا الأمر وكأن عجلة السينما معطوبة وتدور في حلقة مفرغة، فلا المهرجانات أتت أُكلها، لأن القائمين عليها ثبت بالدليل القاطع إفلاس ادعاءاتهم، وانكشف للرأي العام وللمسؤولين فشلهم وسوء إدارتهم. ولم تقفز الأفلام العديدة التي أنتجت على مدار سنوات في السينما الجزائرية إلى مصاف الدول التي عمدت إلى خلق بيئة سينمائية صلبة، ولم تصبح محجّا يقصده صنّاع السينما من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال. ولم تبرز أسماء لافتة تنافس وتقتحم وتفرض وجودها في المحافل، ولا صنعنا روادا يمكن أن يكونوا مراجع في الإخراج أو الكتابة أو التمثيل أو غيرها من الملحقات المترابطة فيما بينها. وغابت المجلات والكتب والنشرات، وحتى المواقع الافتراضية المتخصصة في هذا الميدان، دون أن نتحدث عن قاعات السينما والتكوين والتأطير.. لأن هذه الأمور لو سألنا أي منتج جزائري عنها، لغض الطرف وكأنها لا تعنيه.

يحلم تبون بثورة تقلب الوضع الراكد الذي ينعم فيه صنّاع السينما، فالكثير منهم ينتظر أي مبادرة أو همسة تأتي من لدن الدولة، خاصة ما تعلق منها بالجانب المادي

صحيح أن هناك نجاحات مبشرة يشار إليها في خضم كل هذا، حتى لا نغفل الحقوق أو نتحامل أو ننكر. ولكن، بالنظر إلى ما سخرته الدولة من إمكانيات هائلة لهذا القطاع بالخصوص، إلى جانب كثافة وقوة الإرادة السياسية للدفع والرفع، ظل الخلل هو هو، وتراكمت الأعطاب، وفقرت المخيلة، وضمرت روح التحدي والإصرار لدى الكثير من صنّاع السينما، ولم تحقق هذه النجاحات، على قلتها، القفزة النوعية المنتظرة منها، ولا انكشف المطلوب من نتائج وطموحات وأحلام ورغبات، لتبقى الآراء في الكثير من الأحيان مكتفية باستحضار الحنين، وحبيسة مقولات مكررة في الأفواه عندما يتم الحديث عن السينما الجزائرية في أننا البلد الوحيد الذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان، وجائزة الأوسكار في فئة الأفلام الأجنبية، دون أن تكون هذه الرمزية عاملا حيويا محفزا يضمن الاستمرارية، ويحفر طرقا وسبلا تقود إلى الأرض الواسعة لتجسيد أكبر وأشمل لطموحات الدولة في هذا المجال.

فهذه النجاحات لكثرة تكرارها غدت نوستالجيا حلوة تستعاد لدى الجميع، وبقيت الجائزتان سالفتا الذكر، اللتان نالتهما الجزائر، قابعتين في بيوت من حظيا بهما، لا يعرف شكلهما ولا لونهما، عوض أن تكونا ملكا للجزائر، تُوضعان في متاحف لترى على الأقل بالعين، لا أن ترى بالسمع. وكما ردد الكثير من زوار الجزائر من ممثلين ومخرجين عرب وأجانب أنهم تمنوا رؤيتهما وحتى لمسهما.

ربما يحلم الرئيس تبون بسينما تصنعها ثورة حقيقية تقلع جذور الكسل والعجز والاتكالية الموسوم بها صنّاعها، فمثلما قال إن بدايات السينما في الجزائر بدأت مع ثورة التحرير.. يحلم تبون بثورة تقلب الوضع الراكد الذي ينعم فيه صنّاع السينما، فالكثير منهم ينتظر أي مبادرة أو همسة تأتي من لدن الدولة، خاصة ما تعلق منها بالجانب المادي.

طوال سنوات – إلا فيما ندر – لم نر أي منتج يفتح نقاشا حقيقيا معمقا عن التكوين والتأطير، أو خلق أرضية يمكنها أن تخرج لنا مخرجين كبارا وممثلين يستمرون في العطاء والبذل، وغيرهم ممن يشتغلون في القطاع. فسدت الكثير من المهرجانات بسبب تفاهة وبهتان القائمين عليها، وحادت الكثير من الأفلام عن الأهداف الكبرى للدولة كي تصبح خلاّقة للثروة، وجاذبة للجمهور إلى قاعات السينما – على ندرتها – التي أصبحت مهجورة. ولجأ العديد من المنتجين والممثلين إلى صناديق ضاغطة ومراكز تعطي بشروط قاسية، وحتى مريبة، كي ترافق وتدعم.

قصة السينما في الجزائر هي قصة حلم غائب، جمع الرئيس تبون في جلسات أخيرة جلّ صناعها. وأزاح تبون الخطاب الرسمي الذي أعد بالمناسبة جانبا، وخطب في الجموع بعفوية عن أحلامه الواقعية في رؤية ثورة تعيد تشكيل المشهد السينمائي.. صفق الجميع للحلم وللعفوية، وانصرفوا بعدها على أمل أن يصحو الرئيس تبون وقد أعادوا جزءا بسيطا من الحلم الغائب.

9