"سادن الريح والمواويل" نصوص وشهادات تحتفي بعيسى الشيخ حسن

من النادر أن نشهد شهادات لكتاب أو شعراء في صديق كاتب وشاعر منشورة مجموعة في كتاب في حياة المحتفى به، عادة ما يكون الاحتفاء متأخرا. ولكن أصدقاء الشاعر والكاتب السوري عيسى الشيخ حسن اختاروا الاحتفاء به إنسانا وشاعرا وروائيا في شهادات مؤثرة في كتاب "سادن الريح والمواويل".
عيسى الشيخ حسن، اسم يتردد في فضاء الأدب العربي الحديث، يجمع بين موهبة أدبية متقدة وحس إنساني نادر. نشأ في مدينة الرقة السورية، حيث كانت ضفاف الفرات شاهدة على ولادة شاعريته وشغفه بالكلمة، لينتقل لاحقا إلى الحسكة ومنها إلى الغربة الطويلة في قطر. يتجلى في أعماله الأدبية ذلك التفاعل الحميم مع الماضي والحاضر، مع الناس والأماكن، ما جعله أحد أبرز الأسماء الأدبية في العالم العربي.
بدأ عيسى الشيخ حسن مسيرته كمعلم في سوريا، متنقلا بين الرقة والحسكة، حيث لم يكن التدريس بالنسبة إليه مجرد وظيفة، بل رسالة سامية. سعى إلى غرس حب اللغة العربية في قلوب طلابه وتحفيزهم على الإبداع والتفكير. كانت قاعات التدريس، بالنسبة إليه، فضاء إنسانيا ينسج فيه التواصل الإنساني بقدر ما تبث فيه المعرفة. ومع انتقاله إلى قطر، أمضى أكثر من عقدين من الزمن في التعليم، حيث ترك بصمة عميقة في نفوس طلابه، مستثمرا تجربته الحياتية في إثراء عقولهم ووجدانهم.
نصوص مفعمة بالحنين
صدر مؤخرا كتاب بعنوان “سادن الريح والمواويل”، شهادات ونصوص في تجربة الشاعر عيسى الشيخ حسن معلما وصديقا وشاعرا وروائيا، عن دار قرطاج للطباعة والنشر. الكتاب من تأليف أصدقاء الشاعر وفكرة الكتاب من إعداد صديق الكاتب عماد أحمد. وتضمن الكتاب شهادة 52 من أصدقاء الشاعر والروائي.
وكتب الشاعر والروائي عيسى الشيخ حسن “بكيت وأجهشت وتمتمت، في هذه الوجبة أو ‘العزيمة’، ولعل ما زاد من فرحي هذا التوليف العجيب وحضور هذا العدد الذي أعده عدد الشوايا الأثير، وبه جعلت فصول الخربة ومصابيح الخميس، وهنا جاء به عدد مسرد الفهرست، مضافا إليه حَجَرا الغلب: عماد أحمد ومحمد الجبوري.”
ويضيف “مشيت هذا العمر رفقة أسرتي وطلابي وأصدقائي، مشيت في البلاد على توزع شاوشتانها، وحلبها ودمشقها، ومغتربي المزمن رفقة جمع طيب شربت معهم الشاي ذات يوم، وغنينا معا لأحلام حطت أمامنا ثم طارت. شربت الشاي على الفرات رفقة إبراهيم الزيدي، في بيت إبراهيم المرعي، وعلى مكتب مدير الإعدادية إبراهيم محيمد، وعلى مكتب مدير المركز الثقافي أستاذي أحمد حسين عيسى. وأنست بحديث وقصائد الجميل النشمي أحمد الجرجيس، وهناك في مقهى شعبي في القامشلي، المقهى ذو الواجهة الزجاجية المفيمة الخادعة، أفرغت حصتي من السكر في كأس أحمد الشمام، وقلت له ‘برد قلبي واشرب بسكر مضاعف.’ كنت اكتشفت السكر في دمي وقتئذ.”
وتميزت أعمال عيسى الشيخ حسن بالقدرة على تحويل التفاصيل اليومية إلى نصوص مفعمة بالحنين والجمال. سواء في شعره أو رواياته، تتجلى مواضيع الوطن والغربة والحب والصداقة كعناصر محورية. في نصوصه يحمل الشاي معاني رمزية غنية؛ فهو ليس مجرد مشروب يومي، بل طقس وجداني يجمع بين الأصدقاء والأحبة في لحظات الفرح والحزن. يقول “الشاي ليس مجرد مشروب، بل هو بوابة إلى ذكريات الوطن والحياة البسيطة التي لا يمكن أن تنسى.”
يجمع أصدقاء عيسى الشيخ حسن على صفاته الإنسانية النادرة. كان حاضرا في حياتهم بحب وصدق نادرين، كما يظهر في شهادات أصدقائه في كتاب “شهادات ونصوص في تجربة سادن الريح والمواويل”. يصفه الكاتب محمد الجبوري بأنه شخص يحدث أثرا عاطفيا قويا، حيث يقول “كل أشجار العالم تبكي عندما يقول عيسى ‘هلي’. ويؤكد الروائي إبراهيم الزيدي على كرم عيسى واهتمامه بأصدقائه حتى في أصعب الظروف، ما جعله نموذجا للصداقة الحقيقية.
في كتاباته تظهر التفاصيل اليومية كبطل خفي في المشهد. الشاي والأماكن والأصدقاء الذين رحلوا أو بقوا، كلهم يشكلون عناصر تربط القارئ بعالمه الداخلي العميق. يرى عيسى أن السعادة لا تكمن في الأمور الكبيرة، بل في اللحظات الصغيرة التي نصنعها مع من نحب، وفي التفاصيل البسيطة التي تحمل معاني أعمق مما نتصور.
تمثل روايات عيسى الشيخ حسن امتدادا شعريا لحكايته الشخصية، حيث يعالج قضايا الهوية والغربة ومعاناة الفئات المهمشة. يستخدم لغة سردية أصيلة تجمع بين البساطة والعمق، ما يجعل أعماله قريبة من القارئ المحلي والعالمي على حد السواء. ويجمع في رواياته بين الحكايات الشعبية والسرد الروائي الحديث، ما يضفي عليها طابعا فريدا يمزج بين المحلي والإنساني.
الشاي، في نصوص عيسى، رمز يتكرر في كتاباته ليحمل معاني أبعد من كونه مشروبا. هو رابط إنساني يجمع الأصدقاء في الغربة، ووسيلة لتخليد اللحظات الحميمة. يصف الكاتب هذه اللحظات بقوله “الشاي يحمل حكايات الأمكنة والناس،” مشيرا إلى أن التفاصيل اليومية قادرة على خلق أدب خالد ينبع من الحياة نفسها.
الغربة، بالنسبة إلى عيسى الشيخ حسن، ليست مجرد انتقال مكاني، بل تجربة وجدانية عميقة. في نصوصه يظهر الحنين إلى الوطن والأحباء في كل كوب شاي، وفي كل كلمة يكتبها. الغربة ليست مجرد بعد جغرافي، بل محاولات مستمرة للتصالح مع الشعور بالفقد والبحث عن الانتماء.
إبداع حب وبساطة
في شهادات أصدقائه وقراء نصوصه، يظهر عيسى كشخص يجمع بين الإبداع والحب والبساطة. شخص يستطيع أن يحول تفاصيل حياته اليومية إلى أدب خالد يمس القلوب، سواء كان ذلك من خلال قصيدة أو رواية، فإنك ستجد نفسك أمام تجربة إنسانية عميقة لا تنفصل عن حياة الكاتب. إنه صوت أدبي ينبض بالحياة والحنين، يجسد في كل أعماله المعنى الحقيقي للأدب الذي ينبع من الإنسان ويروي قصصه بصدق.
فالشاعر والكاتب عيسى الشيخ حسن، ابن قرية أم الفرسان التابعة لمدينة القامشلي السورية، جمع بين براعة الشعر وسحر الرواية، استطاع أن يحفر لنفسه مكانة متميزة في المشهد الأدبي العربي. بتواضعه الجم وهدوئه المحبب، وبتلك الروح السمحاء التي يوزعها على كل من عرفه أو اقترب منه، يقدم الشيخ حسن نموذجا للمبدع الذي يضع الإبداع الحقيقي نصب عينيه.
روايته “خربة الشيخ أحمد” أثارت اهتمام النقاد لما تحمله من تصوير دقيق وصادق لحياة الريف السوري. بأسلوبه المتفرد والمتميز، استطاع الكاتب أن ينقل تفاصيل الحياة اليومية في قرى الريف المنهك، حيث تعب الجسد وصمود الروح. الرواية، التي تجمع بين جمال اللغة وعمق الفكرة، هي انعكاس لذكريات الكاتب في طفولته، حيث عاش في تلك القرى وعرف صعوباتها وتحدياتها عن كثب.
◙ روايات عيسى الشيخ حسن تمثل امتدادا شعريا لحكايته الشخصية، حيث يعالج قضايا الهوية والغربة ومعاناة الفئات المهمشة
الريف بالنسبة إلى عيسى ليس مجرد مكان عاش فيه، بل هو ذاكرة غنية بالصور والمواقف التي تسكنه حتى اليوم. هذه الذكريات شكلت العمود الفقري للرواية، لتعيد القارئ إلى عالم يمتلئ بالشوق والألم، لكنه في الوقت ذاته يحمل جمال البساطة ونقاء العيش.
الحزن، كما يبدو، يشكل جزءا كبيرا من ملامح شخصية عيسى الشيخ حسن، خاصة بعد فقدانه والدته وزوجته، وغياب أهله بسبب غربة استمرت لأكثر من ربع قرن. هذه التجربة الحياتية المؤلمة تركت بصمتها العميقة في كتاباته، حيث يظهر الحنين إلى الوطن والأهل في كل كلمة يخطها.
رغم هذه الصعوبات لم يفقد الشيخ حسن شغفه باللغة العربية التي درسها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة حلب. ظل مخلصا لها، ليس فقط كشاعر وكاتب، بل أيضا كمعلم يسعى إلى نقل جمالياتها وروحها إلى الأجيال القادمة.
لم تكن مسيرة الشيخ حسن خالية من التقدير والاحتفاء. فقد فاز بعدة جوائز مرموقة، من أبرزها: جائزة الشارقة للإبداع الأدبي – الدورة الخامسة، جائزة عبدالوهاب البياتي – الدورة الأولى. كما أن رصيده الأدبي يزخر بعدد من الإصدارات التي تراوحت بين الشعر والنثر والرواية. من أبرز أعماله:
"أناشيد مبللة بالحزن"، "يا جبال أوبي معه"، "مروا علي"، "حمام كثيف"، "سرديات رمضان"، "آيات ووجوه وأمكنة”، “خربة الشيخ أحمد”، “العطشانة”، وروايته الأخيرة هذه صدرت في فبراير 2024 عن دار جدار للثقافة والنشر بالإسكندرية ومالمو، وهي متاحة بنسخة إلكترونية مجانية.
وتعتبر العمل الروائي الأول الذي أنجزه عيسى الشيخ حسن قبل روايته “خربة الشيخ أحمد” الصادرة قبل أكثر من عامين. يرى الكاتب أن هذا العمل محاولة لاستثمار السرد في توثيق بيئة ريفية تواجه مصائرها بالموت والرحيل بتسليم ومحبة.
عيسى الشيخ حسن، ببساطته وتواضعه، يترك أثرا عميقا في كل من يلتقيه. هو نموذج للكاتب الذي لا ينفصل عن جذوره، بل يستمد منها قوته الإبداعية. ورغم السنوات الطويلة التي قضاها بعيدا عن وطنه، إلا أن روحه ظلت معلقة هناك، في تفاصيل قريته وحقولها وناسها. لقاؤه يجعلك تدرك أن الإبداع ليس مجرد كلمات تكتب أو كتب تطبع، بل هو انعكاس لروح عاشت التجربة بكل تفاصيلها، واستطاعت أن تصوغها في صورة فنية تنبض بالحياة.
عيسى الشيخ حسن، شاعر الريف وكاتب الغربة، يعيد تشكيل ذاكرتنا الجمعية عن الريف والحياة البسيطة بقلم مليء بالشجن والصدق. روايته “خربة الشيخ أحمد” ليست مجرد رواية تحكي قصة مكان، بل هي وثيقة أدبية تنقل جزءا من ذاكرة وطن، وتجعل القارئ يرى الجمال في بساطة الحياة وصعوبة تفاصيلها.